سالم الباوي
بعد انقطاعٍ طويلٍ عن كتابةِ القصص، بدأتُ بتدوينِ هذه الحكاية:
قتلُ حَنَشٍ لمِرْداو أمرٌ لا يُصدَّق! لقد كانا أعزَّ صديقين في القرية، لم يفترقا لحظةً واحدة، وكان الجميعُ يحسُدُهما على صداقتهما المتينة، حتى أصبحا مضربَ المثلِ في الوفاء. كبر هذان الصديقان منذ أيامِ المدرسة؛ كان حَنَش يعيش في أحدِ جانبي القرية، ومِرْداو في الجانب الآخر. عادةً ما تبدأ الصداقاتُ في القرى بين الجيران، ثم تتسع لتشملَ الشارعَ، وصولًا إلى القرية بأكملها. لكن صداقةَ هذين الاثنين بدأت من “الطرف الآخر”، كما لو كانت مُقدَّرًا لهما أن يلتقيا. اشتدَّت هذه الصداقةُ وتقوَّت حتى صارا لا يُفارِقُ أحدُهما الآخر.
كانت حياتُهما تسيرُ بشكلٍ طبيعيٍّ وروتينيٍّ. يومًا بعد يومٍ، كبر هذان الطفلان حتى أصبحا شابَّين قويَّين، وظلَّت صداقتُهما راسخة. كلَّ يومٍ يزور أحدُهما الآخر، وحتى عند ذهابهما إلى المدرسة صباحًا كانا يذهبان معًا. لو تأخر أحدُهما في النوم، ظلَّ الآخرُ ينتظرُه حتى يستيقظ ويأتيَه ليذهبا سويًّا. كثيرًا ما حذَّرهما المديرُ من هذا التصرّف الغريب، لكنهما ظلّا على هذه الحال.
بدأت المشكلةُ الحقيقيةُ في قصتي عندما رأى مِرْداو نَجْوى، أختَ حَنَش. عادةً في القرية لا تظهر الفتياتُ أمام الشبان، بل يَبقَيْنَ حبيساتِ البيتِ حتى يأتيَهنّ أحدُ أبناءِ عمومتهنَّ ليطلبَ يدَ إحداهنَّ من أهلِها، وهكذا تنتقلُ الفتاةُ إلى مرحلةٍ جديدةٍ في حياتها. عندما طرق مِرْداو البابَ، فتحت نَجْوى، وحملقتْ عيناها مباشرةً في وجهه. بقي مِرْداو لثوانٍ يُحدِّق دون أن ينبسَ ببنتِ شفة.
– “أهلًا مِرْداو، تفضَّل.”
لم يُجِب؛ لم يكن وعيُه حاضرًا، كان فقط يُحدِّق في عينيها السوداوين. وفي النهاية سحرَتْه عيونُ نَجْوى. عندما ابتسمتْ نَجْوى بصوتٍ خفيض، انهار مِرْداو، تعثّر لسانُه، وتصبَّب عرقًا، وارتجف.
– “ماذا بك يا مِرْداو؟!”
دون أن يُجيبَ نَجْوى، ذهب راكضًا نحو بيتِه. كانت كلماتُ “أهلًا مِرْداو” لا تُفارقه. حتى عندما وصل إلى البيت، ذهب إلى الفراش وغطّى نفسَه، ظانًّا أنه أُصيب بالجنون. كان يفتح عينيه ويُغمضهما، فتظهر له تلك العيونُ السوداءُ والابتسامةُ الساحرة.
– “ماذا بك يا مِرْداو؟!”
لم يُجِبْ أمَّه. حاولتْ أن تُبعِدَ الغطاءَ عن وجهه، لكنه كان متمسّكًا به بقوة. ضحكتْ أمه:
– “هل فعلتْ نَجْوى فعلتَها بك؟!”
أزال الغطاءَ عن وجهه ونظر إلى أمّه المبتسمة، التي أكملتْ:
– “لقد سحرتْك بعينيها.”
لم يُجِبْ مِرْداو. جلستْ أمُّه بقُربه، واحتضنتْه كما تحتضن طفلًا صغيرًا.
– “كلُّ مَن رآها جُنَّ جنونُه. عيناها تُصيبان الشبابَ بسهمٍ غريبٍ يترك أثرًا عميقًا، حتى يُصبح ذلك الشابُّ المسكينُ نحيفًا ويَهزُل، ويضطرُّ أهلُه إلى الذهاب به إلى الملا كاظم ليكتبَ له دعاءً يُخرجه من هذه الحالة.”
لم يقلْ مِرْداو شيئًا، وبقي صامتًا. ثم التفت إلى أمّه:
– “اخطبيها لي.”
– “لا أستطيع، وأنت تعرف هذا الأمر.”
كان مِرْداو يعرف السببَ؛ فقد كانت نَجْوى من قبيلةٍ أخرى، ولا يجوزُ في القرية زواجُ الفتاة من شابٍّ من غيرِ قبيلتِها. هذا ما كان سائدًا في القرية منذ فترةٍ طويلةٍ جدًّا، ولهذا لم يكن أيُّ شابٍّ يُفكّر في الحبِّ أو الزواج إلا من إحدى فتياتِ أقاربه.
– “افعلي شيئًا يا أمّاه قبل أن أجنَّ!”
– “علينا الذهابُ إلى الملا كاظم.”
– “لماذا فتحت البابَ بوجهي أنا بالذات؟!”
قال هذا ثم بكى. تذكّر قصةَ معلّمِ القرية قبل أعوام، عندما طلب من أهلِ نَجْوى أن يمنعوها من الذهاب إلى المدرسة، لأن جميعَ أطفالِ الصف الأول الابتدائي أصبحوا مغرمين بها، ولا يستطيعون النظرَ إلى السبورة. كانوا يتجمّعون كلُّهم حول نَجْوى ويُحدِّقون في عينيها. حتى المعلم أُصيب بالجنون، وطلب من الوزارة تغييرَ محلِّ تدريسه، لكن الوزارة رفضتْ طلبَه. ولهذا، وفي أحد الأيام، ذهب إلى شطِّ كارون وأغرق نفسَه في أمواجه المخيفة. وعندما ذهب أهلُ القرية إلى غرفةِ المعلم، كانت الغرفةُ مليئةً بصورِ بنتِ المعيدي، وفي كلِّ تلك الصور، كان المعلمُ قد قصَّ عيني الفتاة.
نهض مِرْداو:
– “أريد الذهاب إلى بيتِ حَنَش.”
– “لا تذهبْ، لستَ في حالةٍ جيدة.”
– “أريد رؤيتَها مرةً أخرى.”
– “لن تراها بعدُ؛ هي أرادت أن تُصيبك بالجنون، وقد استطاعت أن تفعلَ ذلك.”
جلس مرةً أخرى، وعاد تحت الغطاء.
– “لماذا فعلتْ بي نَجْوى هذا، وأنا أعزُّ صديقٍ لأخيها حَنَش؟!”
– “لتنتقمَ من أهلِها.”
– “ماذا تفعل؟!”
– “أهلُها حبسوها رغمًا عنها بعد طلبِ المعلّم. ومنذ ذلك الحين، تقوم نَجْوى بالنظر إلى وجهِ شابٍّ حتى تُصيبه بالجنون. لقد أصبح أهلُ القرية يكرهونها، ما عدا الشبابَ الذين يُحبّون نَجْوى.”
وهكذا استمرّتِ القصةُ، أو استمررتُ أنا في سردها، حتى أصاب الذعرُ عائلةَ حَنَش من تصرّفاتِ نَجْوى تجاه شبابِ القرية. تعالتْ أصواتٌ تُطالِبُ برحيلِهم من القرية. أحضر شيخُ شَرْشَاب حَنَشًا وأباه إلى مضيفه. عند دخولِهما، وقبل أن يُلقيا التحيةَ على الحضور، صرخ الشيخُ:
– “افعلوا ما عليكم فعلُه، وإلا اتركوا القريةَ، والسلام!”
لم يجلسا، ورجعا إلى البيت. فكّرا في قتلِ نَجْوى للتخلّص من تصرّفها الغريب.
هنا بدأتْ أزمتي أنا كاتبَ هذه القصة: كيف أقتلها، وعلى يدِ مَن؟ في ذهني يتحرّك مِرْداو، يطلب مني حلًّا آخر لهذه القصة دون أن تُقتل نَجْوى. أعرف ماذا يقصد مِرْداو؛ هو يريد الزواجَ منها. لكن استمرارَ القصة بهذا الشكل صعب. تأتي نَجْوى لتطلب مني ألّا أحذفها من القصة، وبعينيها الساحرتين تنظر إليَّ:
– “ماذا فعلتَ حتى أُحذَف من قصّتِك؟!”
– “هذه هي حبكةُ القصة، ولا أستطيع تغييرَها!”
نظرت إليَّ، فشعرتُ بوخزةٍ، أشعةٍ غيرِ مرئيةٍ خرجتْ من عينيها كما وصفَها المعلم، فأصابتني أنا، سالمَ الباوي، كاتبَ القصة، في قلبي أو في مكانٍ آخر. أتوقّف عن الكتابة، أفقدُ صوابي، لا أعرف ماذا أفعل، وكيف أنهي أزمةَ القصة.
للحظةٍ، ودون إرادتي، بينما كنتُ أُصاب بجنونِ نَجْوى، ضرب حَنَش نَجْوى من الخلف فأرداها ميتة. صرختُ أنا:
– “ماذا فعلتَ؟!”
أجاب حَنَش:
– “لو لم أفعلْ هذا، لطُردنا من القرية. كان عليَّ إنهاءُ مأساةِ شبابِ القرية. لقد أصبح مجانينُ القرية أكثرَ من عقلائِها!”
أسمع نحيبَ مِرْداو، أنظر إليه، يطلب مني أن أشطبَ الخطوطَ الفوقيةَ لتبقى نَجْوى حيّة.
لم يعرف مِرْداو أني أكثرُ شوقًا لإبقاءِ نَجْوى حيّة، لكنني لا أستطيع أن أفعل شيئًا.
عندما دفنوا نَجْوى في مقبرةِ القرية، وبعد أيام، عاد الشبابُ إلى حالتهم الطبيعية، وذهبوا إلى أعمالهم. كلُّ شيءٍ أصبح عاديًّا، لكن الشخصَ الوحيدَ الذي بقي مجنونًا هو مِرْداو. كلّما نصحته أمُّه بأن ينسى نَجْوى ويُخرجها من ذهنه، كانت العيونُ السوداوين تظهر أمامه، وتضحك نَجْوى.
عندما فقد صبرَه، ذهب ليلًا إلى مقبرةِ القرية. قام بنبشِ قبرِ نَجْوى، وأزال الصخورَ عن اللحد، ثم شقَّ الكفنَ بيديه. أشعل ضوءَ الفانوسِ ليرى جيدًا، لينظرَ إلى العيون الساحرتين مرةً أخرى. كانت نَجْوى كأنها نائمة. فتح عينيها بأصابعه، ولا يزال السحرُ يخرج منهما. بقي ينظر إلى العيون حتى خرج صوتُ طلقةٍ نارية: واحدة، اثنتان، ثلاث، حتى العاشرة. سقط مِرْداو ميتًا.
وقف حَنَش فوق جثةِ مِرْداو. كان أهلُ القرية يراقبون جثثَ موتاهم فترةً حتى تذبُل، لأن السحرةَ كانوا يقطعون بعضَ أعضاءِ الميت ليصنعوا منها سحرًا أسود.
نزل حَنَش إلى القبر، حرّك الجثة، رفع ضوءَ الفانوس، وصرخ لا إراديًا:
– “مِرْداوووو!”
هكذا انتهتْ هذه القصةُ بعد فترةٍ طويلةٍ من انقطاعي عن كتابةِ القصص…