قراءة نقدية تسمع وصايا كتابة القصيدة – نصوص – احمد جار الله ياسين

أديب كمال الدين يستعيد هابيل وقابيل

قراءة نقدية تسمع وصايا كتابة القصيدة – نصوص – احمد جار الله ياسين

يتناول النص جوانب مهمة من طقوس كتابة القصيدة واسرارها الجمالية والفكرية في سياق من التوصيات الشعرية التي غلب عليها ظاهريا طابع التبسيط الفني في الطرح والمقترحات ، فضلا عن خضوعها لرؤية ساخرة ، ذات ابعاد رمزية شفافة فيما وراء تلك المظاهر الفنية ، وهذا مايجعل ذلك التبسيط يمتاز بما يمكن ان نسميه بالمخادعة الفنية التي تقرب القارئ في القراءة الاولى من منطقة الاستقبال السلس للمقترحات التي تبثها الوصايا بنوع من الاسترخاء ، وتشجعه على قبولها لكنها في الوقت نفسه تقترح عليه سرا مناطق اخرى محملة بالأبعاد الدلالية المكثفة التي- ربما- لو اقترب منها قارئ غير نخبوي لاستعصى عليه الدخول فيها ، ومن هنا فان هذه الوصايا بهذين الخيارين الموجهين نحو منطقتين للتلقي، يمكن ارسالها الى كل من يهتم بالشعر: قارئا او كاتبا او ناقدا او غاويا .. مع توافر امكانية التفاوت في التلقي بين من يقف عند حدود البساطة، ومن يحاول الحفر فيما وراء هذا الحدود غير مكتف بخديعة التبسيط الفني التي اوقفت المتلقي الاول عند الطبقة الاولى من النص:

1.

القصيدة الطويلة مُملّة.

لا تكتبْها

إلّا إذا أردتَ أنْ تكتبَ عن الرحلةِ كلّها: رحلة كلكامش مثلاً.

والقصيدة القصيرة تشبهُ عودَ الثقاب

فقرّبْ سيجارتَكَ منها

قبلَ أنْ تُشعلَ عودَ الثقاب

عدم انسجام

التوصيف الاول يتناول القصيدة الطويلة التي يصفها بالمملة من جهة عدم انسجامها – ربما – مع طابع الشعر الذي يميل الى الايجاز والاختصار ويبتعد عن سمات الاسهاب والسرد والتفاصيل التي تتطلبها بنية القصيدة الطويلة ، لكن لان النص ليس من مهامه بيان هذه التوصيفات النقدية التي يمكن ان يقوم بها الناقد فانه ينحرف بالسياق نحو مثال مقترح للقصيدة الطويلة يتضمن الاشارة الى رحلة كلكامش، وهنا يمكن للقارئ العادي ان يتوقف تلقيه عند حدود الاخذ بالمثال، لكن القارئ النخبوي يعلم ان اقتراح هذا المثال ليس اعتباطيا لطوله الفني فحسب بل لأنه نص فني شعري رفيع لايشعر معه القارئ بالملل لاغتنائه بالخصائص الاسلوبية العالية والمواقف المدهشة والافكار العميقة والرموز وكلها خصائص تبعد القارئ عن الشعور بفكرة الاستطالة في البناء ..ثم يتحول النص مباشرة الى تناول القصيدة القصيرة عبر تشبيه فني جديد مستل من الحياة اليومية ، تكون فيه القصيدة (عود ثقاب) والرغبة بكتابتها اشبه بـ (السيجارة) ولأنها نص قصير لايحتمل الخطا او الاسترسال او اية ثغرة فنية فان الاقتراب منه يشبه اقتراب السيجارة من عود الثقاب ..فاما ستنجح محاولة الاقتراب او تفشل. والمعيار في ذلك هو القدرة على تحديد موعد الاقتراب (الرغبة) من القصيدة القصيرة (عود الثقاب) حسب ماتتطلبه الفكرة او الموقف الشعوري لان الشاعر اذا اقترب بعشوائية من هذا النوع القصير فانه قد يحترق سريعا.

القصائد السيّئة كالأصدقاء الحمقى

.2

حاولْ أنْ تلغيها مِن الذاكرة

قبلَ أنْ تُسطّرها على الورقة

اما القصائد السيئة فنيا او التي لم ترق الى مستوى فـــــني عال فانها في الوصية مــــــــــثل (الاصدقاء الحـــــمقى) أي انــــــها لاتضيف شيئا الى مسيـــــرة الشـــــــاعر او سيرته الابـــــداعية وتشـــــــغل ذاكرته بما لايغــــــنيها ابداعيا وفكـــــريا .

3

إذا كتبتَ قصيدةً عن المطر

فاحذرْ أنْ تكتبها

ما لم تكنْ روحُكَ –

قبلَ جسدكَ –

قد تبلّلتْ بالمطر

المطر يمثل عالما شعريا خصبا في فضاء الادب ولايمكن ان تجد شاعرا تكتمل شعرية رؤياه من دون ان يقع في غرام المطر، لان المطر شعري بذاته فهو انزياح غير عادي عن المناخ العادي للسماء بشمسها الساطعة المالوفة التي تكاد تشبه النثر، ولايخلخل بنيتها الصافية سوى نزول المطر ومن ثم فان المطر عند الشعراء يرتبط بالجانب الروحي والشعوري من بنيتهم النفسية الابداعية التي تختلف عن البنية النفسية العادية ، وما البلل الذي يشير اليه النص هنا سوى هذا الارتباط الذي اشرنا اليه بمرجعيته التي تؤكد ادراك الشاعر بوعي او غير وعي ان المطر هو شعر السماء بالمقارنة مع نثرها/ الشمس ..ولذلك الكتابة عن المطر تستدعي التماهي مع شعريته روحيا قبل التلاقي معه ببلادة جسديا. …

4.

لكلِّ قصيدةٍ شمسٌ.

(هل تعرفُ ذلك؟)

ولكلِّ قصيدةٍ منفى.

(هل تُصدّقُ ما أقول؟)

لذا دمدمْ قصيدةَ المنفى

وأنتَ في الوطن.

ودمدمْ قصيدةَ الوطن

وأنتَ في قطارِ الجنّةِ الذاهبِ إلى جَهنّم

كل قصيدة هي عالم خاص بذاته لذلك لها شمسها / بمعنى ان لها من الفكر والاسلوب مايضيء جوانبها المعتمة ويسهم في نمو مكوناتها الفنية الاخرى وياخذ بيد القارئ نحو جمالياتها الساطعة ويمنحها عمرا فنيا اطول ..ولكل قصيدة ايضا ماتخفيه وتخبئه في ثناياها تماما كالمنفى الذي يخبيء للقادم اليه كرها او طواعية كثيرا من المفاجات والاسرار ، لكن اذا كان الرحيل الى المنفى كرها واجباريا وكان المنفى نفسيا وليس واقعيا واقرب للاغتراب في فضاء الوطن فان البوح باسرار هذا المنفى غير مقبول علنا. والاجدر بالشاعر ان يدمدم بمكنوناته النفسية حول ذلك الموضوع ..بدل الجهر بها لان الوطن الذي ينفي ابناءه نفسيا وهم فيه ويزجهم في متاهة الاغتراب النفسي رغم عدم مغادرتهم حدوده ..هو وطن مخيف يجبر الشعراء على الصمت ..او الجهر لكن ليس بلغة تصدح عاليا بل بلغة تدمدم قصيدتها احتجاجا فلا تسمعها سوى الذات وكان القصيدة هنا هي امتداد لقصيدة الخوف التي شاعت في الادب العربي بفضل ابداع السلطة السياسية في الترهيب والتخويف ..واذا كانت الدمدمة .. حلا وسطا بين الصمت والجهر فانه حل قاس جدا لان القصيدة التي لايسمعها سوى شاعرها تذبل وتموت سريعا ..واذا سنحت الفرصة للكتابة عن الوطن وكانت الكتابة في المنفى- الذي قديمثل جنة بالقياس الى مافي الوطن من معاناة او اضطهاد – فان هذه القصيدة كونها ستحمل هم الوطن البعيد لايمكن ايضا الجهر بها من شدة الاحساس بالخيبة او الحزن او ادراك ان الوطن الذي نفارقه الى المنافي كرها او طواعية يبقى الاجمل في الذاكرة، وحين ياتي مثل هذا الاحساس فان المنفى سيكون جهنما اخرى قطارها (الجنة) او قطارها فكرة العثور على الجنة في المنفى بديلا عن وطن اشبه بالجحيم ..لكن الماساة تكون لحظة طغيان الشعور بالغربة والحنين الى الوطن على مافيه من سلبيات وحينذاك سيكون المنفى جحيما اخر يغاير الفكرة التي حملها معه المنفي في قطار الرحيل الذي تصور انه القطار الذي سيقوده الى الجنة او انه الجنة نفسها التي كان يحلم بها…

5.

وبمناسبةِ ذكْرِ جَهنّم

فاكتبْ ما استطعتَ عن جَهنّم الأرض

لأنّها اتسعتْ الآن

وكادتْ تلتصقُ بجَهنّم السماء

ولعل الاحساس بجحيم الوطن والمنفى معا في لحظات معينة هو الذي يؤسس للوصيةالخامسة التي تحث الشاعر على الكتابة عن جهنم الارض التي يسودها الشر والفساد وسف الدماء ومن ثم فانها امست موضوعا مثيرا للشاعر كي يدون شهادته عما يدور في جهنم الارضية.

6.

إذا كنتَ تحبّ البحر

وتريد أنْ تكتبَ عنه،

فلا تأخذْ صورةً معه

وأنتَ ترتدي الملابسَ الرسميّة

كما يفعل المُغفّلون

بل اذهبْ إليه عارياً

تماماً كهابيل وقابيل

اما الكتابة عن البحر بما يحمله من ارث رمزي هائل في الذاكرة الشعرية العربية والعالمية فانها موضوع اخر لايمكن ان تغفل عنه الوصايا وهي تقترح موضوعات للكتابة امام الشعراء لكن الكتابة عن البحر تستلزم التجرد من النظر اليه برؤية عادية تكتفي بالتقاط صورة للذاكرة معه بزي رسمي يشير الى عادية تلك الرؤية وسذاجتها وسطحيتها ..ان الكتابة عن البحر تستدعي التجرد من (الملابس الرسمية) برمزيتها السابقة والذهاب اليه عاريا و العودة الى الفطرة الاولى للرؤية البشرية التي اندهشت حين رات البحر اول مرة ومن خلال انموذجين للبشر الاول (هابيل وقابيل) واستدعاء هذين الانموذجين معا هنا ليس للغرض السابق فحسب بل هو مقترح شعري غير مباشر لامكانية التصالح بينهما من دون اعادة انتاج قصة الحسد والكراهية التي ادت الى مقتل احدهما في المرجعية الدينية لقصتهما ، فهي دعوة للتسامي فوق ماحدث واعادة تشكيل للمشهد النساني بين طرفين يمكنهما التصالح والتفاهم والتشارك في التمتع بجماليات الكون ومنها البحر ..حتى لاتتسع مستقبلا مساحة جهنم الارضية التي حذر منها الشاعر في الوصية الخامسة والتي بدات لحظة قتل هابيل لقابيل ..واستمرت حتى يومنا .. وشوهت جماليات الحياة : البحر / المطر / الوطن. ….

7.

الشعراءُ المُؤدلَجون مُضحكون

لأنّهم يكتبون طوالَ العمرِ قصيدةً واحدة،

قصيدة تستعينُ بكلِّ الكناياتِ والاستعارات

لتثبتَ أنَّ الطغاة،

رغمَ كلّ أنهار الدمِ التي فَجّروها،

كانوا مجرد حمامات سلام

الوصية السابعة ساخرة جدا تعري زيف الشعراء المؤدلجين الذين يزورون الحقائق خدمة للطغاة وهنا يعلو صوت الشاعر ويكون اكثر وضوحا في التحذير من الانجرار وراء مثل هؤلاء واتخاذهم انموذجا وقدوة عند الشعراء المبتدئين والنقاد الانتهازيين ..فالطغاة هم السبب الرئيس دائما للخراب الذي يعاني منه الانسان -كما في الوصايا السابقة – منفيا او مغتربا او مقتولا.. …

8.

إذا كنتَ شاعراً فكنْ عاشقاً

حتّى تكتمل عندكَ قصيدةُ الجنون

ولان الجنون قريب جدا الى عالم الشعر كونه منفلتا من اشتراطات الوعي والعقل فان له قصيدة ايضا لايمكن الوصول اليها الا بالرقي في معارج الجنون الشعري واعلاها العشق الذي ينتشل الذات من حدودها ليزجها بشعرية في فضاء ذات اخرى تستقطبها نفسيا وروحيا وعاطفيا وعبر طقوس تفوق حدود العقل والمنطق وتجعل من حياة العاشق نفسها شعرية بذاتها لانزياحه فيها عن حدود الحياة العادية ..فتراه يتصرف بشعرية في القول والفعل وما مجانين العشق الذين عرفناهم في التاريخ سوى دليل على ذلك الامر ..الم يقطع فان كوخ مثلا اذنه من اجل امراة طلبتها منه …الم يكن هذا السلوك شعريا بذاته لأنه انزاح عن نثرية السلوك العادي.

9.

المرآة تشبهُ المرأة

لكنَّ المرأة لا تشبهُ المرآة

إلّا إذا قبّلتَها.

هكذا هي القصيدة

وفي النهاية فان القصيدة تتطلب من الشاعر ان يصدق مايراه قلبه لاماتراه عينه ..فالمرأة التي تظهر في المرآة هي التي تستحق التقبيل وليست المرأة التي تقف امام المرآة فهذه واقعية يمكن لمسها والوصول اليها ..فتبرد حرائق القصيدة سريعا ..وتهدا عاصفة الروح ..اما المرأة التي تظهر في المرايا فإنها امرأة تبقى بعيدة عن اللمس والوصول ..وهي من يبقي الرغبة محتدمة والروح عاصفة والقصيدة مكتظة بالحرائق ولايمكن للشاعر الا ان يقبل بالحد الادنى من التواصل معها عبر قبلة على زجاج المرايا في الواقع لكن بطعم شفة في الخيال الشعري ..فهكذا هي القصيدة ..توهمنا بالوصول ..لكنها تبقى بعيدة ..حـــــــــتى لو انجزنا الاف القصائد والدواوين فان الشعر لايكتمل ابدا ..ولاينتهي ..لان مادته الكلمات ..الدوال ..ولكل منــا مدلولاته الخاصة بخبرته وتجربته وتأويله ..ولذلك تسـتمر اعــــــادة انتاج الكلمات / الدوال / القصيدة الى مالا نهاية .