سفينة نوح الفضائية للروائي صادق الجمل
قراءة مغايرة لتاريخ معلوم
باسم عبود الياسري
تعود الرواية بأصولها الى الملاحم التي يتناقلها الناس شفاهية قبل ظهور عصر التدوين، دون معرفة من قام بتأليفها، وقد ظل القص الشفاهي شائعا حتى قبل اقل من قرن من الزمان، وربما ما زال موجودا في اماكن أخرى. أن الروائي يسعى في عمله الى إنتقاء تجربة فرد أو أفراد ليطلع عليها الآخرون، وليحققوا من خلالها المتعة والفائدة، وكلما كان الاسلوب راقيا وجذابا زاد أقبال القراء عليه، وهو بلا شك غاية كل مبدع في أن يكون مقروءا من الآخرين الذين هم هدفه وما كتب الا لهم.
لم يعد الروائي حكاء قصص يسلي مستمعيه بقصص الحب والمغامرة، فقد اصبح اليوم يحمل أفكارا ليحاول أن يصبها في قالب روائي يختار شكله ليوصل من خلاله هذه الافكار الى قرائه ومن أجل أن يكون عارفا بما يريد أن يحكي عنه، لابد أن يكون ملما بمجموعة من المعارف العامة في التاريخ والجغرافية وبعض العلوم بما يتصل بموضوع الرواية. وسنحاول هنا دراسة رواية (سفينة نوح الفضائية) للكاتب صادق الجمل، التي تندرج ضمن أدب الخيال العلمي وقبل الحديث عن الرواية لابد من المرور على عجالة بهذا النوع من الأدب الذي يندر الكتابة فيه في العالم وأكثر ندرة في أدبنا العربي. إن الخيال العلمي يعني الانتقال عبر الزمن على أجنحة الحلم المطعم بالمكتسبات العلمية. وغالباما يطرق مؤلفو قصص الخيال العلمي أبواب المستقبل بتنبؤاتهم دون زمن محدد. وفي قصص الخيال العلمي نظرة واسعة الى العالم يدخل فيها العلم ليمتزج بحقائقه مع خيال الكاتب، وترسم أحداث تنقل القاريء الى المستقبل أو الماضي السحيق فتثيره وتذهله وبين العلم والخيال رابطة خاصة من يريد التصدي لها لابد ان يتسلح بثقافة علمية ممتازة يستخدمها في أحداث قصصه ورواياته. يعد الكاتب الفرنسي جون فيرن الأب المؤسس لقصة الخيال العلمي، الذي كتب عدة اعمال بدأها بأول أعماله ” خمسة أسابيع في منطاد “في فرنسا (1863)ثم اتبعها برائعته ” من الأرض الى القمر ” عام (1865) التي تخيل فيها رحلة الى القمر، وهو ما تحققفي العام 1969 اي بعد قرن من الزمان. غير أن العرب عرفوا هذا الادب، وان كانت التسمية مختلفة، فقصص الألف ليلة وليلة فيها الكثير من ذلك وكذلك حي بن يقظان لابن طفيل نجد فيها ملامح الخيال العلمي أيضا. وأذا ما توقفنا عند (سفينة نوح الفضائية) هل هي رواية خيال علمي أم رواية فنتازيا ؟سنجد أن العمل فيه الكثير من الفنتازيا، وقيمة الفنتازيا انها تمزج الواقع بالخيال وهي أقرب الى التحقق من روايات الخيال العلمي. أن طروحات العمل فيها الكثير القابل للتحقق حين يتحدث عن المفاعلات النووية التي تزداد يوما بعد اخر في العالم، وهي تنذر بتدمير الحياة بدل الحفاظ عليها والدفاع عنها
فكرة العمل
صادق الجمل كاتب مهموم بما ينحدر اليه العالم من مصير معتم على ايدي قادته، ممن يعملون على دفع شعوبهم نحو حروب لا طائل منها ولأسباب غير مقنعة، يزجون على اساسها بآلاف وربما بملايين البشر الى الموت المحتم، والمفارقة المؤلمة أنه كلما تطور العلم تطورت ألة الحرب كلما زاد عدد ضحاياها من خلال الاسلحة الحديثة، لان العلم – للاسف – يتجه في أحد جوانبه الى دمار البشرية تحت حجج وأسباب واهية. تقوم فكرة العمل على اساس سباق التسلح الذي يجتاح العالم حتى يصل عدد الدول التي تمتلك سلاحا نوويا الى خمسين دولة مما يهدد السلام والامن العالمي، الأمر الذي يدفع الدكتور أدم كبير العلماء (وهنا نلاحظ الاسماء الرمزية ) الى جمع شخصيات (أفتراضية) في مكان واحد من سلالات وأجناس وأديان وأزمان متنوعة مع أنسان قديم يتم أستنساخه يعود الى فترة قبل خلق أدم عليه السلام، يعمل هؤلاء على بناء سفينة فضائية تحملهم بعيدا عن الارض بعد انهيارها ويعزو ذلك الى انه ” ليس بأستطاعتنا إنقاذ العالم في هذه المرحلة، الا انه لابد من أنقاذ الشرف الانساني والهدف الانساني لحياة جديدة خالية من التعصب و الحروب “. حين تجتمع هذه المجموعة يدور حوار فكري وفلسفي حول السوءالذي يتعرض له العالم (ملأ الكون وزاحم الهواء) من هذه النظرة المخيفة وهي واقعية الى حد ما، يصرخ الكاتب بوجه البشرية ويحاول تنبيهها الى المصير الذي تتجه نحوه. وحينما يطرح الكاتب هذه الافكار…. ماذا نحسبه ؟؟ هل نعده كاتبا مثاليا حالما يريد الخير للناس جميعا ؟ أم أنه يحمل افكارا هروبية يحاول من خلالها النجاة من دمار يحيق بالعالم لا محالة !!؟في كلا الحالتين الشر واقع ينبه اليه الروائي في عمله غير انه ليس من مهمته وضع الحلول لكل مشاكل العالم، ولكنه يكفيه التنبيه لها. ينطلق الكاتب العراقي صادق الجمل من واقع بلده المليء بالحروب والنكبات على مدى قرابة نصف قرن حتى بات وكأن الأمرلا خلاص منه، فيحاول دق جرس الخطرللعالم كله، فما قيمة الانسان ما لم يكن عنده حرص على الآخرين والشعور المبكر بالخوف عليهم، لذا كان العمل (سفينة نوح الفضائية)
شكل العمل :
تقوم الرواية على قراءة جديدة للتأريخ، أو قل هي مزيج بين التاريخ والمستقبل مرورا بالحاضر، ومناقشة هذا التاريخ من بعض جوانبه بطريقة غير تقليدية، فالاحداث تتمرد على التسلسل المنطقي للاحداث، ثم تندفع للامام مرة وتراوح مكانها مرة أخرى، لذا فأن الكاتب صادق الجمل حين لجأالى أسلوب الخيال ليس ترفا وأنما لضرورة فنية أقتضتها فكرة العمل وزاوية المعالجة. يبني صادق الجمل معماره الفني للرواية على فكرة أستلها من التراث الانساني المشترك عند معظمالناس وهو (سفينة نوح) فأذا كان نوح عليه السلام حاول بسفينته انقاذ البشرية من الطوفان وهو كارثة طبيعية فأن الكاتب في عمله هذا يسعى لإنقاذ البشرية مما سيقع عليهم بسببهم هم، حيث السعي لامتلاك الاسلحة النووية حتى يصبح احدهم يهدد الآخر مما يجعل العالم كله في خطر. يعترف الكاتب في مقدمة الرولية، بأن الاسلوب الذي عالج فيه الاحداث لم يكن اسلوبا روائيا مثاليا مثلما ينتظره القاريء غير أن هناك خيطا رقيقا يجمع بين مراحل العمل هذا الخيط ربما يغيبهنا ويحضر هناك، لكنه موجود ولا شك. يبدو ان هذا الاعتراف من الكاتب يحيلنا الى الموضوع الذي شغله حتى سيطر عليه فأعطى للفكرة أو جوهر الموضوع التي راهن عليهاما جعله لا يكترث كثيرا لعناصر الشد الروائي، كما أن بعض الكتاب ويبدو – الاستاذ صادق الجمل- منهم لا يريدون ان يكون القارئ عنصر تلق فقط،وانما يريدونه يقظا مشاركا وفاعلا بل ومثريا للنص ايضا. غير اننا ان معظم القراء يقضلون العمل الواضح السلس الذي يستدرجهم في قراءته، يمتعهم ثم تتحقق الفائدة فيما بعد، وهذا هو هدف الادب. لا تبدو أجواء العمل عربية ويبدو ان صادق الجمل تعمد ذلك فالقضية عالمية ومن جمعهم لهذه الرحلة من اماكن وأزمان مختلفة في العالم ومن يشرف على العمل عالم مهموم مولع بالانسانية وهو غير موجود بعالمنا العربي مع كثرة الالقاب.، ورغم ذلك فإن العمل يتحدث عن العرب واحوالهم او الشرق باعتبارهم قطبا مهما في العالم، وفي الحوار انتصار لهم في بعض مفاصل الحوار وان كان المتحاورون ليسوا كلهم عربا.
الوصف:
للوصف في الرواية أهمية كبيرة في خلق البيئة التي تجري احداث القصة فيها وتكوين نسيجها وتحولها الى حياة حقيقية حافلة بكل التفاصيل، فلا يجوزللكاتب أن يجعل من الوصف وسيلة للزينة، اي انه لا يكتبه الا لضرورات العمل الفنية. ففي الجلسات التي يخطط فيها الحاكم للاجتماع يستبعد العسكر ويقرب اهل الاقتصاد، وكذلك حين يجتمع العلماء على السفينة ومن تلك النقاشات التي تدور فيما بينهم يتخللها وصف ارتقى بالعمل ليجعله أقرب للواقع. وقد حرص الكاتب على استقاء معلومات علمية دقيقة تمنح العمل المصداقية فعن المجموعة المشاركة بالرحلة من 84 شخصا، وهو ذات العدد للناجين مع نوح عليه السلام فهم شخصيات متعددة الانتمائات العرقية والدينية والجغرافية والثقافية ومخلوق مستنسخ ينتمي الى سلالة سبقت ظهور ادم عليه السلام ومن بين الركاب ايضا نجد ابليس كما نتوقعه مشاغبا سليط اللسان ومتمردا ومثيرا للمشاكل وهناك ايضا ديمقراطيس وراهب وماركس وهيجل ومور ورسل وغيرهم
لقد افرد الكاتب عدة صفحات عن ابليس وبالتاكيد ليس اعجابا به ولكن لانه يمثل السلوك والفكر المغاير فهو يبدو ماكرا قوي الحجة قادرا على مجابهة الجميع ساعيا الى اغواء من يمكن اغواءه.
الموقف من المراة :
يطرح المؤلف عدة نماذج نسائية نرى معضمها نماذج رقيقة الى حد الضعف سلبية غير فاعلة ولاادري سبب هذا الموقف غير ان الكاتب له رؤيته ولانريد ان عارض فيها بقدر مايجب الاشارة اليها حسب
افكار ونقاشات :
من خلال نقاش نادر وهو الشخص المستنسخ نجده يجل ادم ويتعاطف معه في مصيبته بطرده من الجنه وفقد ابنه ويصف بحزن احواله بعد هذا المصاب ووجومه وانصرافه عن الحياة. الفكرةجديدة حين يتحدث نادر عن ادم، الروائي يقص علينا معلومات نعرفها، لكننا نجدها هذه المرة لذيذة وطريفة. وتدور عدة نقاشات يحاول الكاتب من خلالها طرح افكاره والافكارالمغايرة لينتقي القاريءمنها ما يراه مناسبا له، في اسلوب يحاول ان يكون حياديا فيه قدر الامكان. ومن النقاشات المهمة النقاش ما بين الغرب والشرق وماذا قدم كل منهما للعالم، فهناك محاور عدة تدور بين الجابلتا (الغرب) والجابرسا (الشرق)حول العلم والاخلاق ومدى الترابط بينهما فبينما ابقى الشرق رجال الدين تحت عباءتهم نجد الغرب عزلهم لتمضي الحياة، والشعر الذي وقف الشرق طويلا عنده اعجابا وتغزلا في حين حوله الغرب الى واقع فعل وعمل يعيشه الناس، اما الطبيعة فهي التي يرى الشرق انها كالمراة تخدم الآخرين ولا أحد يخدمها، نجد الغرب طوع الطبيعة لخدمة بني الانسان رغم ان العلوم الحديثة استلها الغرب من الشرق واستفاد منها بعد ان انزلها من الرفوف.
ومن النقاشات الاخرى حين تحدث رجال الديانات الثلاث الرئيسة وكيف تصدى لهم أبليس حين اجتمعوا ليقرروا مصير البشرية ووحدتها وابليس يعرقل مساعيهم. فيطالبون بطرده من السفينة.
ولما كانت الحياة الجديدة ديمقراطية تخضع للتصويت، يتعادل الطرفان ويفسر التعادل لصالح المدعى عليه ابليس.
وفي الختام يطرح المؤلف سؤلا وهو يبقي العمل مفتوحا مشيرا الى جزء قادم : هل يحمل الناس خطاياهم معهم في السفينة وفي بحثهم عن حياة جديدة ؟ وهل ستعيد الحياة دورتها من جديد ؟