على نياتكم ترزقون – عباس عبود سالم

 

 

 

على نياتكم ترزقون – عباس عبود سالم

عندما تجتمع كاريزما التقديم مع قوة القناة وانتشارها وتاثيرها، مع حسن اختيار الفكرة وانسانيتها، ستنتج هذه الخلطة الثلاثية نوعا مميزا من الاعمال التلفزيونية التي يمكن تصنيفها ضمن خانة (البرنامج الظاهرة).

وهو النوع من البرامج هي التي تتحول الى (ظاهرة اجتماعية) يتفاعل معها و يحاكيها ولا ينساها الجمهور بمختلف فئاته ومستوياته واختلاف امزجته، كونها تحاكي انفعالاته وعواطفه وتطلعاته بمهارة عالية، وهي برامج تكاد تكون نادرة بسبب الحاجة الى توفر عوامل كثيرة من اجل الحصول على خلطة ناجحة تنتج لنا برنامج ظاهرة تعلق في ذاكرة الجمهور.

واذا تناولنا خارطة البرامج الرمضانية لهذا الموسم بانصاف وموضوعية سنجد ان عودة (شيماء عماد زبير) الى شاشة الشرقية تمثل حدثا مهما في اجندة برامج رمضان 2021  لعمق الارتباط الناجح بين شيماء عماد وشاشة الشرقية، ولما تختزنه ذاكرة الجمهور العراقي من برامج مبتكرة اكتسحت الحدود التقليدية قدمتها شيماء عبر الشرقية في مواسم رمضانية على مدى سنوات سابقة، برامج مثل (فطوركم علينا) امتزجت فيها نجومية المقدمة مع تميز وقوة الشرقية بادارتها المهنية وصناعتها الاعلامية المتفردة، فتحولت الى ظواهر وعلامات مهمة في تاسيس وصناعة (تلفزيون الواقع) في الأعلام العراقي.

وعلى مدى سنوات وفرت الشرقية لجمهورها باقة مميزة من البرامج واختطت لنفسها منهجا مهما في (تلفزيون الواقع) يقوم على الانتاج الضخم، والجرأة في الطرح، والابتكار في الصناعة، ناهيك عن الاختيار الذكي للوجوه، وكانت شيماء عماد زبير في مقدمة النجوم الذين حققت الشرقية من خلالهم انتشارها وتفردها وكسبت محبة الجمهور والانتشار الخارجي الى درجة ان قناة بي بي سي اطلقت على شيماء عماد لقب (اوبرا وينفري العراق).

تميزت شيماء عماد كونها كاريزما عراقية بملامح بغدادية تكاملت لديها سلامة اللكنة والملامح، ومهارة التعبير، وحضور البديهية، والقدرة على استحضار المفردة، الى الدرجة التي مكنتها من لغتها ومفرداتها الجاذبة اللبقة، بالشكل الذي يمكنها من اتقان دورها ببراعة مع القدرة على التاثير على جمهور عابر للتصنيف.

تمكنت شيماء عماد عبر كل ماقدمت من برامج من تجاوز  التصنيفات وخلق جمهور ها الخاص كجمهور عراقي عابر للسياسة والتقسيم والفئوية، في زمن قسمت فيه الصراعات السياسية امزجة المجتمع، لكن هذه الاعلامية تعاملت بحذر وذكاء وجعلت العراقي يعيش معاناة وآلام واحلام وحياة العراقي الآخر ويتفاعل معه بعيدا عن خانة الانتماء الديني والمذهبي التي سادت لسنوات صعبة مر بها العراق وتحولت الى منهج اعلامي طغى على الكثير من القيم الجمالية العراقية.

في برنامج (على نياتكم ترزقون) تطل علينا شيماء عماد مجددا من الشرقية لتقدم لنا رسائل تربوية ممزوجة بخلطة جمالية فريدة، تبدا من اغنية المقدمة للنجم ماجد المهندس التي تعد اجمل التايتلات كلاما ولحنا واداء واصبحت بصمة للبرنامج والقناة ستمكث طويلا في ذاكرة الناس.

هذه الخلطة المتقنة في هذا البرنامج ولجت الينا من باب الذاكرة الجمالية وما تحمل من صور البراءة والالعاب الشعبية والتقاء الناس تحت سقف المحبة والبراءة والعفوية، لترفع الكارت الاحمر بوجه الزيف والتلون والنفاق والفساد والحيلة والمكر وثقافة الموبايل والاستهلاك التي تجتاح المجتمع اليوم وتنخر ركائزه المعنوية.

دخلت الينا شيماء عماد من باب (صفاء النية) وجمال الصبايا المحتفلات بفوز عفوي في (لعبة شعبية قديمة) لتحكي لنا كل يوم حكاية، حولت من خلال حكاياتها اشخاص منسيين من عامة المجتمع، حولتهم  من وجوه لاتكترث بها الذاكرة ولا يهتم لهم احد الى نجوم حجزوا مكانهم في وجدان ملايين المشاهدين، وتحول ابو دينا، وام عبد الله، وام عمر، وابو ياسر والاخرين في باقي الحلقات من رجال ونساء منسيين مستسلمين لضعفهم وفقرهم وعوزهم المادي ولنسيان المجتمع لهم، الى وجوه يالفها ويتعلم منها الناس، فقد حولهم برنامج (على نياتكم ترزقون) الى معلمين يعطون الدروس التربوية للجماهير وللمجتمع ولكل العالم.

اختارت شيماء عماد مجموعة فقراء يعيشون على هامش المدن،  ووضعتهم امام اختبارات نجحوا جميعا في تجاوزها بلا عناء، وقالوا لنا بعفوية ان صوت الانسانية اعلى من كل الاصوات وان العراقي هو الموجود وسط وعلى اطراف وهوامش المدن والقرى من شمال العراق الى جنوبه، وهو الانسان الذي ينبض بالمحبة وصفاء النية فهو وريث السومريين والاشوريين الذي لم يزل يحتفظ بكم هائل من الخير والنية الطيبة والانسانية بقيمها الحقة.

شيماء اجتهدت كثيرا واستحضرت كامل عفويتها وانفعالاتها لتقول لنا ان العراقي مازال بكامل غيرته وكرامته و نخوته وانسانيته، وان ما نسمع ونرى من موبقات وفساد وانهيارات وتصدعات اجتماعية لاتمثل الا اصحابها ولا يمكن تعميمها على شعب هكذا يتصرف فقراءه ومعوزيه في اصعب الظروف.

ثم ان البرنامج اوصل رسالة مهمة للجميع هي ان قيمة الانسان وحجمه ليست بما يملك من اموال، بل بما يملك من قيم انسانية و من سمو اخلاقي.

تدخل شيماء المنازل الفقيرة بابتسامتها المؤثرة لتشيع اجواء مميزة بكلامها الوجداني وابتسامتها الحاضرة وقدرتها على توليد الايجابية من رحم الاحباط، لتضع امام ضيوفها نتيجة الامتحان وتقدم لهم مكافئة (صفاء نيتهم) وسلامة مقصدهم، و في هذه التوليفة تشتعل العاطفة الى اوجها وتنهمر الدموع ومعها تتفاعل الجماهير بشغف وحب، ثم تختم شيماء برنامجها بالتذكير ان الحياة مثل لعبة شعبية قديمة يفوز بها من عرف الطريق للنجاح والسر هو (صفاء النية).

يقدم البرنامج اكثر من رسالة تربوية باسلوب جمالي، ويجسد حقيقة تفوق البضاعة الاعلامية الجيدة على الرديئة، فقد صنع هذا البرنامج في وقت فقر المحتوى وضياع المعايير الموضوعية في التقييم، وفي صعود موجة التفاهة والرقص والابتذال والبرامج التي تعتمد الاثارة و التكسب الرخيص على حساب المعايير الفنية وشروط الجودة في الصناعة الاعلامية.

البرنامج جدير بان يصنف انه المتفوق والظاهرة وان يصدر خارجيا كنوع من الانتاج التلفزيوني الملتزم برسالة تربوية صيغت ببراعة مع خلطة جمالية اجتمعت فيها جهود لكادر مميز ومقدمة بارعة وقناة مهمة عرفت مفاتيح لعبة النجاح.

مشاركة