دولة مدنية ـ د.ادريس جنداري

دولة مدنية ـ د.ادريس جنداري
على امتداد التاريخ العربي الاسلامي، قديمه وحديثه، كان التداول على الحكم محصورا بين نموذجين سياسيين، دون النجاح في تحقيق النموذج الثالث. من جهة ساد نموذج الدولة الدينية، لقرون، حيث كان الاستناد على الشرعية الدينية كمصدر للحكم وهذا ما سمي، تاريخيا، بنظام الخلافة الذي انتهى، عمليا، مع الخلافة العثمانية، لكنه ظل حلما يراود الحركات الاسلامية التي أسست مشروعها السياسي، في علاقة باستعادة النموذج الخلافي. ومن جهة أخرى ساد نموذج الدولة العسكرية، وقد تزامن ذلك مع الانسحاب الشكلي للقوى الاستعمارية، مع ما رافق ذلك من اختطاف للدولة والمجتمع من طرف العسكر، الذين دشنوا لمرحلة جديدة من الانقلابات العسكرية مكنتهم من السيطرة المطلقة على مرحلة سياسية، امتدت لعقود كاملة، تحالفوا خلالها مع دعاة الليبرالية واليسار والقومية، وهكذا توفرت لديهم قوة الردع العسكري والأمني، وكذلك الغطاء الايديولوجي والسياسي، والنتيجة كانت صناعة بنية تحتية صلبة لامبراطورية الاستبداد العسكري.
خلال هذه المراحل كلها، تم تغييب صوت الارادة الشعبية، هذا الصوت الذي تبلور في الفكر السياسي الحديث باعتباره المصدر الوحيد لشرعية الحكم، ورغم الانفتاح القسري الذي تحقق، في علاقة بنموذج الدولة الحديثة، فان الفكر العربي قد تعامل مع هذا النموذج باعتباره امتدادا للوجود الاستعماري، وذلك اما عن سبق تنظير واعتقاد كما هوحال الحركات الاسلامية، التي كفرت بالمنظومة الديمقراطية باعتبارها تنزع السيادة من الله وتربطها بالشعب، واما عن سبق انتهازية ميكيافيلية تسعى الى تأبيد الحكم المطلق، في علاقة بالزعيم الأوحد والحزب الواحد، وهذا هوحال القوى العسكرية المتحالفة مع بعض القوى الليبرالية واليسارية والقومية. وفي كلا الحالتين، فقد نجح الفاعل السياسي العربي، بدعم من الفاعل الثقافي، في محاربة قيم الفكر السياسي الحديث مجسدة في المنهجية الديمقراطية، ليظل الباب مفتوحا مستقبلا على التداول بين خيارين اثنين لا ثالث لهما، فاما نموذج دولة العسكر واما نموذج دولة الفقهاء، وهما خياران أحلاهما مر لا يستطيع أي منهما تحقيق مشروع الدولة الحديثة، باعتبارها دولة مؤسسات وفصل بين السلطات وتداول سلمي على السلطة. هل الخلل، اذن، في الممارسة السياسية، في بعدها العملي، أم انه يتجاوز ذلك الى الآليات المتحكمة في العقل السياسي العربي، هذه الآليات التي تتحكم في الممارسة العملية وتوجهها؟
ان الراجح، من منظور تاريخ الفكر، هوأن الفكر العربي قد فشل في تحقيق قطيعة معرفية مع منظومة القيم الاستبدادية الموروثة عن التاريخ الخلافي والسلطاني القديم، وهذا هوأصل الداء في الحكاية السياسية بأكملها. فعلى الرغم مما يبدومن انفتاح الفكر العربي على قيم الحداثة، فكريا وسياسيا، فإن الأمر لا يتجاوز استعارة لمفاهيم ومؤسسات جثث بلا روح حديثة تسري في عروقها. ولذلك، لا يجب أن نستغرب من استمرار نموذج الزعيم، الخليفة والسلطان، الذي يمارس حكما مطلقا حيث يجمع كل السلطات في يد واحدة ويمنع التداول على السلطة، وهذه صورة موحدة بين النموذج العسكري والنموذج الاسلامي المحافظ، فإذا كان النموذج العسكري يمارس دكتاتورية الجنرالات المدعومة ايديولوجيا من طرف قوى مدنية تدعي تمثيلها للفكر الحديث، فان النموذج الاسلامي المحافظ لا يمكنه تجاوز سقف المستبد العادل، وهواسم لمسمى الاستبداد، حيث تجتمع كل السلطات في يد واحدة تمارسها بشكل مطلق، ويمنع التداول على السلطة بين القوى السياسية المختلفة. ان المأزق الذي وقعت فيه الممارسة السياسية في العالم العربي، اليوم، تجسيد حقيقي لمنظومة القيم الاستبدادية، هذه المنظومة التي اخترقت الزمان والمكان، وظلت في كامل حيويتها وقدرتها الفائقة على الاختراق. والمسؤولية، في ذلك، يتحملها جميع الفاعلين، الفاعل الثقافي الذي تخلى عن مهمته النقدية والتفكيكية وباع نفسه بثمن بخس لتجار الاستبداد من فاعلين عسكريين ودينيين، وكذلك الفاعل السياسي الذي استثمر كل قدراته العملية من أجل قتل الارادة الشعبية واحتكار الحكم لنفسه. كل هؤلاء يتحملون قسطا كبيرا من المسؤولية أمام أنفسهم وأمام شعوبهم، وهم يعيشون، اليوم، مرحلة سقوط الأقنعة، وتحول رغبة الشعوب في بناء دول حديثة وقوية الى هباء. اليوم، على ايقاع المد الثوري، الذي ما زال يضرب شواطئ الاستبداد، لابد من التجنيد الكامل للقوى المدنية الحية للاستمرار في مهمة اقتلاع جذور الدولة الاستبدادية، لأن الفرصة مواتية لتصفية الحساب مع تاريخ السلاطين والخلفاء، الذين وظفوا النص الديني، ووظفوا القوة العسكرية والقبضة الأمنية، واستطاعوا بذلك السيطرة على الدولة التي حولوها الى متاع عائلي يتوارث بين الآباء والأبناء. ونحن نقصد بنموذج الدولة الاستبدادية، كل نظام سياسي لا يخضع للمنهجية الديمقراطية، سواء وظف رمزية النص الديني لتكريس سلطة المستبد العادل دكتاتور مقنع أووظف القوة العسكرية المتحالفة مع دعاة الفكر السياسي الحديث. لذلك، فان مهمة النضال المدني يجب أن تسير في اتجاهين
ــ في الاتجاه الأول، يجب مواجهة الدكتاتورية العسكرية، وذلك من خلال الانطلاق من قناعة ديمقراطية راسخة، مفادها أن المكان الوحيد الممكن للعسكر هوثكناتهم العسكرية، فلا وظيفة سياسية يمكن أن يقوموا بها خارج هذه المؤسسات، فهم جزء من استراتيجية يضعها ويوجهها الفاعل السياسي المنتخب بشكل ديمقراطي، وأي تجاوز لهذا الدور يجب الوقوف ضده من خلال التظاهر السلمي وكذلك من خلال المقاربة القانونية القضائية. ــ في الاتجاه الثاني، يجب مواجهة الدكتاتورية الدينية، وذلك من خلال الانطلاق من قناعة فكرية حداثية راسخة، مفادها أن الفعل السياسي نسبي في جوهره يخضع للتحول ويستحضر معطيات الواقع كما توجهه البراجماتية، بينما يتميز المكون الديني بطابعه المطلق الذي يستحضر المرجعيات الكبرى أكثر مما يخضع لاكراهات الواقع وتحولاته. من هنا التناقض البين بين الفاعل السياسي والفاعل الديني، وهذا التناقض هومن جنس التناقض بين ما هو نسبي متغير ومتحول وبين ما هومطلق وثابت، ولعل الصعوبة الكبيرة التي يلاقيها الفاعل الديني في ممارسته للفعل السياسي، هي نابعة، بالأساس، من هذا التناقض. اننا هنا، لا ندعوالى التخلي عن المرجعية الدينية، في بعدها الأخلاقي، عند ممارسة السياسة، لان هذا حاضر حتى في أكثر الديمقراطيات نضجا، ولكن يجب أن نميز بين فاعل سياسي يستثمر الشحنة الأخلاقية للنص الديني في ممارسته السياسية، وبين الفاعل الديني الذي يسعى الى اخضاع الواقع النسبي والمتحرك لمعايير النص الثابت والمطلق. ان النضال من أجل ترسيخ مشروع الدولة المدنية، في العالم العربي، يجب أن يرتكز على مرجعية فكرية حداثية صلبة لا تتزحزح على وقع رجات السياسة، في تحولاتها الطارئة، وذلك باعتبار أن هذه المرجعية هي التي مكنت شعوب العالم أجمع، من التخلص من قرون الاستبداد الديني والعسكري، حيث كانت السلطة تأخذ شكل تفويض الهي تارة، وتارة أخرى تأخذ شكل دكتاتورية عسكرية تحتكر العنف المادي والرمزي. ونحن في هذا الصدد لا نمثل الاستثناء التاريخي بل اننا جزء من تجارب الأمم ولذلك، فإنه لا يمكننا أن نصنع نهضتنا السياسية خارج التصور الديمقراطي الحديث، هذا التصور الذي يعتبر ثمرة تطور فكري ساهمت شعوب وأمم مختلفة في ترسيخه.
AZP07

مشاركة