اعتقال العلماء والقانون
د.عبد الزهرة حسين الركابي
عندما يشتد هزال أية حكومة، فانها تخاف من كل شيء.. حتى من خيالها كما يقول المثل الشعبي. ويصبح الناس كلهم مصدرا لخوفها ومحلا لشكوكها. وعلى الرغم من كل التحصينات الأمنية الكثيفة التي أحاطت بها نفسها، فان حكومتنا سرعان ما ترتعد مفاصلها، وترتعش أوصالها لمجرد نقد يوجه لها، أو كلمة تقال بحقها، أو وريقة يرفعها مخبر سري زرعته أجهزتها بين الناس. فيظهر الارتباك في تصرفاتها، والعشوائية في اعتقال الناس والزج بهم في سجونها السرية والعلنية. وقد تتصاعد الحماقة لديها، فتندفع الى اصدار أوامر الى تشكيلات سرية باستخدام العنف وكواتم الصوت لاسكات أصوات أو تصفية من تعتقدهم خصوما لها.
ان حكومتنا تسمي نفسها دولة القانون، والقانون هنا هي التي شرعته بالاشتراك مع المحتل الامريكي، وفرضته على الناس الذين وجدوا أنفسهم أسرى قوانين الحكومة، وجدرانها الاسمنتية التي تغلق عليهم أحياءهم السكنية، ونقاط سيطراتها العسكرية التي تعيق تنقلهم ووصولهم الى أماكن أعمالهم. ولكن هذه الحكومة هي أول من يتجاهل القانون عندما يتعلق الأمر باعتقال الناس وتصفية الخصوم. وأية حكومة تتجاهل القانون، وبخاصة قوانينها هي، تتحول، مهما كانت شعاراتها الدينية والمذهبية، الى مجرد عصابة اجرامية تحركها شهواتها، وغرائزها الوحشية، وأفكارها الشيطانية لا غير.
وعلى الرغم من عوائد النفط الهائلة التي تتسلمها الحكومة العراقية الحالية، فان أوضاع الناس المعاشية ــ عدا الفئة الحاكمة ــ وظروف حياتهم لا تشهد بالمقابل تحسنا موازيا لها. والأرقام الاحصائية التي تنشرها المنظمات الدولية عن تردي أوضاع العراق الاجتماعية والاقتصادية والثقافية تثير الرعب، لأنها تؤشر له مستقبلا مظلما. ومن هنا فقد أصبحت القناعة لدى الناس أكثر رسوخا من قبل، بأن عجز الحكومة عن تحقيق أية منجزات اقتصادية تفك قليلا من الضائقة التي يعيشها معظم الشعب في كل أرجاء البلاد، أو تقديم خدمات اجتماعية تخفف من آلامه وعذاباته، انما يعود الى خضوعها الى أجندات خارجية معروفة لا تريد للعراق أن ينهض، ولا ترغب للمواطن العراقي أن تراه رافعا رأسه، واثقا بنفسه ومستقبله.
ولكي تغطي الحكومة على عجزها المفضوح في المجالات الاقتصادية والتنموية وغيرها، فانها تعمد الى سلب المواطن أمنه وأمانه باعتقالاتها العشوائية اليومية، ومداهماتها المستمرة للدور والأحياء والسكنية، وتعريض سكانها لشتى أنواع الاهانة والاعتداء والسرقة. ولهذا السبب، نجد أن مسلسل اعتقال الناس لم ينقطع يوما، منذ أن غزا الاحتلال بلادنا، وهو ما زال مستمرا، تزداد معدلاته أو تقل ولكنه لا يتوقف .
لقد أدرك المواطن العراقي أن سياسة افقاره، وجعل حياته جحيما لا يطاق، ووضعه تحت التهديد المستمر بالاعتقال أو الاغتيال أو التهجير، انما هي سياسة تهدف الى اذلاله واستعباده، وتحطيم ارادته، واجباره على التخلي عن وطنيته ووطنه، واذعانه لاجندات طامعة بأرض بلاده وثرواتها. ومما زاد الأمور سوءا أن الجهاز القضائي في بلادنا أصبح واحدا من أجهزة السلطة التنفيذية يأتمر بأوامرها ويخضع لنزواتها. فالعدالة لا تستمد من القانون، وانما من قرارات السلطة وهوى القائمين عليها. وعليه، فان التهم جاهزة، والاعترافات معدة سلفاً، والأحكام مقررة ابتداءً.
ان الاعتقالات ولأتفه الأسباب.. وارسال قوات تأتمر بأمر رئيس الحكومة لتنفيذها، بأوامر قضائية أو بدونها، أصبح هو الاسلوب الاعتيادي والمفضل لدى السلطة الحاكمة في العراق في تعاملها مع المواطنين. فهي لا تعرف غيره، لتؤكد وجودها، وتفرض احترامها على خصومها، وتحفظ هيبتها، أو ترد على منتقديها. لدرجة أصبحت معها الاعتقالات هي الاجراء الأول الذي يسبق قيام الحكومة بأي نشاط يشهد حضورا خارجيا وعلى مختلف المستويات السياسية والتجارية وغيرها. وهذا ما شهده الجميع أثناء انعقاد القمة العربية الأخيرة في بغداد، وكذلك الدورة الأخيرة لمعرض بغداد الدولي. وكانت أخف الاجراءات الأمنية هي تلك التي اضطرت المواطن أن يبقى حبيسا في داره لحين فك طوق تلك الاجراءات.
واذا كان علماء العراق وحملة الشهادات العليا فيه، وذوو الخبرة والاختصاصات النادرة، قد نالهم الكثير مما هو معروف، في حملات الملاحقة والاعتقال والاغتيال والتهجير، فان السلطة الحاكمة اليوم ترى أن كل تلك الحملات التي استمرت منذ الاحتلال سنة 2003، ولا سيما ضد الاساتذة والعمداء في الجامعات العراقية، لم يكن فيها الكفاية. ولا بد لها من القيام بحملات جديدة تنهي ما تبقى من صروح التعليم العالي في العراق، وباشراف وزير، تدور أحاديث كثيرة في الأوساط الجامعية والطلابية حول ماضيه الارهابي، ومؤهلاته الدراسية، فضلا عن حقيقة اسمه وجنسيته. ومما أثار دهشة الناس واستغرابهم، أن هذا الوزير، وهو وزير للتعليم للعالي في العراق، لم يتورع عن ترديد خرافات مثيرة للسخرية. فهو يعتقد أن العناية الالهية قد بعثته ليحقق العدل الالهي حسب تصريحاته المتلفزة.
ويتساءل كثير من الناس في العراق، متى ينتهي حكام العراق الحاليين، من حملات انتقامهم من الخصوم، لكي يلتفتوا الى مسؤولياتهم تجاه الشعب. فلا يمكن لسلطةٍ حاكمة أن لا تعرف شيئا غير الانتقام.. فلقد مرّ على وجود هؤلاء الحكام في سدة الحكم ما يقرب عن عقد من السنين، تغيرت فيه الاعمار، ونشأ جيل جديد من الشباب، وما زالوا هم لم يغيروا من مصطلحاتهم الانتقامية ومفردات خطابهم التهديدي. غير أن انتقامهم لم يقتصر على الخصوم بل طال كل الناس.. كل العراق تاريخا وحاضرا ومستقبلا. فاللامبالاة بمشاكل الناس وهمومهم وعذاباتهم انتقام منهم. واهمال الزراعة انتقام من الأرض، وتخريب الصناعة انتقام من الحضارة والتقدم…الخ، لدرجة بات معها يُخشى من أن حكام العراق اليوم ما زالوا يعتبرون العراق بلدا عدوا كما كان شأنهم قبل الاحتلال الأمريكي وتسلمهم السلطة فيه.
/5/2012 Issue 4202 – Date 17 Azzaman International Newspape
جريدة الزمان الدولية العدد 4202 التاريخ 17»5»2012
AZP07