نصّ سرديّ
أزيز السنين
مهدي علي اِزبيِّن
ننتظر في الصباح ، تجلس بجانبي تتلبّس الهدوء بالوداعة . أودّ محادثتها ؛ لكن جوّ السيارة لا يشجّع . أسألها عن الوقت ، تحدّق في معصمها ، فيأتيني الجواب من الخلف
– إنها الثامنة .
ألتفت إلى مصدر الصوت
– السؤال غير موجّه إليك .
أرمقها ، تبتسم . أتمنى أن تتعطّل السيارة ، كي نكمل مشوارنا سيراً . لقد تعطّلت السيارة في الغد الذي لم تحضر فيه .
تلتقط مجسّاتي أبعاد هيكلها ، فتلتهب أسلاك الشوق ، أندفع خارج مسارات الزمن ، يشدّني إليها قطب أسود ، فيحول بيننا رتل من كتل الحديد بجنسيات مختلفة .
يتثاءب الصباح ، تدبّ كتل الحديد خجلى خائفة . أسحب أشلائي ، أقصدها ، تتنآى عن مدى البصر يسمّرني صهيل سيارة إسعاف مخترقاً مساماتي .
تتناخى خطواتي ، تتعاتب قدماي ، تتسابقان لتصلا خطوها المتوائد . تلج باب السيارة ، يلفّها فضاؤها ، يحتضنها أحد مقاعدها ، يصرخ قلبي يسبقني وحين أصل ؛ تنطلق السيارة مسرعة . أسابق الوقت ، متوثّباً أحثّ نواميس الغيب للحاق بها . أمور وسط سكون المركبة ، وهي تقضم المسافات ، و تختزل الزمن .. نكاد نلمس بعضنا ، فيغيّر السائق وجهته ، وتضيع .
تشهق المقاعد حين تنزاح عنها الأبدان ، لم يتبقَّ سوانا في المركبة ، تلقي عيناها علىّ القبض ، و تصدح
– ماذا تريد ؟
يهرب لساني خارج المكان ، أهرع بحثاً عنه ، نظراتي لهفى تتوزع الأنحاء ، أقتفي أثره ؛ فيصفعني من داخلي
“لقد ابتلعتني” .
متوهّجة تتهادى .. تتراقص على طبول قلبي الصارخة ، رتابة وطئها لا تلائم العزف المضطرب ، هي في الخارج لا تسمع الموسيقى ، و داخلي خافق لا يجيد العزف . يبزغ السكون يقاطع الصمت ، حين ألامس ذراعها يخذلني صوتي و أنا ألقي التحية ، ينبّهني صدى يطابق نبراتها ، يعيد الكرة إلى ملعب حواسي !! لم تكن هي إنما أختها التوأم .
تتوزّعني أفكار ، تتقادح . قد يضحك العيد بوجه الحياة العابس . ارتديت شحوب الفرح ، لأبشّ في وجهها ضوعاً من نور ، أكنزه لها . يهدهدني الانتظار .. أتصوّرها بملابس الربيع .. تشرق شمس وجهها من ركن الشارع ، يحفّ بها السواد
– إنك تتلألئين في الأسود ، فهو سيد الألوان .
فتغرقني أمواج صوتها
– أنا في حداد .
لتختزل العتمة بقايا النور .
أمسك يدها وأنا بمعيتها في زورق ، ننزل نهر الشارع ، أهمّ باجتياز أرتال العربات ، أشير لسائقيها أن يبطئوا ؛ كي نطأ الضفة الأخرى . ألتفت .. فأجدني وحدي ، أنقّل بصري ، أراها تلوّح لي من الجهة الأخرى .
تجلس ازائي ، تقبّل عيناي الشعاع الصادر من عينيها ، و تستلم إشارات ، تحدد أبعاداً ترسم خطوطاً و ألوانا . يلامسها صوتي ، يتداخل مع نبراتها ، يتبادلان المواقع و مستوى الذبذبة . الناس أشباح تستقرّ في المركبات ، أراها كائنات تتزحزح ، تبتلع روادها ، و تلفضهم بعد حين . أرسل أشعّة ، تطوف ، تستجلي الهيآت الآدمية ، علّ ناظريّ يقعان على ملامحها ، تختلط الصور و تتشوّه الأبعاد ، فأعود إلى جــــــوّ الحـــافلة ، لأجدها تمثالاً يغلّفـــــــه الوجوم . تهجرني طيور الأمل .. تأبى أن تحطّ في واحاتها . أدفع نصف عمري لأراها ، و أتشرّب من شذاها . تتماوج الأجساد ، ومن خلال سدم المنافي ، يبرق هيكلها ، يعاند المستحيل . تتخلّل أعطافي حين تستفزّني علامة ، تحطّ بحنان على صفحة خدّها . أنقاد نحوها ، أنده عليها بلسان فقد النطق ، أسير بجانبها ، فجأة أنسى المسير ؛ فتتوامض مبتعدة ، لقد تذكّرت مظهري المزري
تنبض أنامل الجمال معتنية بتقاطيع وجهها ، تتوهّج الأنوار من مآقيها ، لتشعل إنطفاءاتي ، عندها تستقيم مقاييس الحياة ، تتوازن نوابض النفس في مساحات الأمل . أودّ المزيد ، فيخبو الألق في عينيها ، و تسفر ملامحها عن صورة مشوهة ، لحظتها تسعفني الذاكرة
“إني أعاني من قصور في البصر”.
مخترقاً حواجز الحلم ، أستبق الزمان ، أفتّش عنها – عني ، ألمحها ظلالاً باهتة ، تتأبّط ذراع أحدهم ، تدبّ على ثلاث . لم يُبــقِ قطار العمر منــها أثرًا ، سوى بقايا دخان وصدى .