زمن الموت المجاني

زمن الموت المجاني

معتصم السنوي

يقال تعددت الأسباب والموت واحد، وهذا القول يعيدني لرواية كنت قد سمعتها وأنا في مرحلة الطفولة، وهي أن (عزرائيل) الملقب بملك الموت، جاء إلى خالقه شاكياً من عداوة الناس وشتمهم له كلما مات أحداً منهم، فقال له جلّ جلاله، ما عليك – فسوف أجعل للموت أسباباً تدفع عنك أي صلة لا من قريب أو بعيد بالموت!! فكانت الكوارث والحروب، والفيضانات والحرائق، والأمراض والأوبئة، والقتل الجماعي بالسيارات المفخخة أو الأحزمة الناسفة، أو القنابل المتساقطة من الطائرات كالمطر على رؤوس الناس لتحولها إلى أكوام من الرماد . أو بسبب (الهاونات) التي يتراشق بها (الأخوة الأعداء)، وهكذا فالناس ستكون مشغولة بالدفن ولا تتذكر إلا الصورة والكيفية التي أدت إلى الموت المجاني. ويعود الفضل في تعلم الإنسان (عملية الدفن) ، إلى أيام سيدنا آدم (عليه السلام)، وبعد أن قتل (قابيل أخاه هابيل) وهي أول جريمة في تاريخ البشرية- وتُعدْ بمقياس قوانين هذا العصر (غير متعمدة)، لأنه كان يجهل نتيجة فعلته، ولم تكن هناك سابقة مشابهة ليأخذ منها العبرة ويتجنب قتل أخيه، ولكن لله حكمته في أن تكون عملية القتل كما وقعت !!، ولنعود إلى (قابيل) قبل أن يهرب من وجه العدالة .. ويبدو أنه وقف حائراً ماذا يفعل بجثة أخيه، فرأى غرابين يتعاركان فيما بينها، ومن ثم يقتل أحدهما الآخر، وإذا بالغراب القاتل يحفر بمخالبه الأرض ويرفع جزءاً من ترابها، ثم يدفع قتيله إلى الحفرة وبعدها يواريه بالتراب كي لا يكون فريسة للحيوانات الجائعة..! فإذا ما أردنا إحصاء عدد (موتانا) قبل وبعد عام 2003 فالعدد لا يقل عن ثلاثة ملايين، وبأساليب مختلفة وهناك ( موتى مفقدون) وذووهم يبحثون عنهم في المقابر الجماعية التي تغطي أرض العراق، ولا أدري لماذا لم تلتفت مؤسسة (غينس) للأرقام القياسية إلى العراق لتمنحه لقب (بلد المقابر الجماعية) التي لا تحصى وما دمنا نتحدث عن الموت والمقابر، أستذكر قصة صوفية، وهي أحد المتصوفين دخل بلدة ، فأعجبه ما فيها، ثم زار مقبرتها فقرأ على أحد شواهدها، هذا قبر فلان ، ألفّ كتاب كذا، وكان عالِماً فاضلاً، ومات وعمره يومين، ورأي على قبر آخر: هذا قبر فلان القائد العظيم الذي أنتصر في موقعة كذا، ومات وعمره ثلاثة أيام، وهذا قبر فلان ملك البلدان حامل الصولجان، وقد مات وعمره يوماً واحداً، فعجب من هذا كله، وتوجه إلى خبير بالبلدة وسأله عن هذا (اللغز) الذي لم يفهمه، فقال: إننا لا نعد من أيام حياتنا إلا الأيام السعيدة، فقال الصوفي: إني أود أن أموت ببلدكم، وأرجو أن تكتبوا على قبري: هذا قبر صوفي رحالة، جاب الأقطار، وزار الأمصار، ومات قبل أن يولد، فقال له الخبير سأدلك على مقابر في العراق ستقرأ على شواهدها ما لم تقرأه في حياتك، قال الصوفي ما الجديد فيها قال الخبير هناك مقابر دفن جماعي وبشاهد جماعي واحد لعدم معرفة هوياتهم وهي تضم رجالاً ونساءً وأطفالاً وبملابسهم دفنوا بعد أن قتلوا، حتى أنه لم يتركوا لهم الوقت لقراءة (الشهادة). ولكني أنصحك إذا ما عزمت على زيارة هذه المقابر، فما عليك إلا تزور قبر (جبر) وتقرأ الشاهد المكتوب على قبره (جبر من بطن أمه للقبر) .. ويعني هذا أن المرحوم رغم كونه قد تجاوز مرحلة الشباب ومات إلا أنه وحسب تفسير شاهده أنه لم يعيش يوماً واحداً سعيداً في حياته ” وقس على (جبر) البقية الباقية من الأموات والأحياء الذين يعيشون في أنتظار الذي يأتي ولا يأتي .. وبالعودة للتاريخ نرى- أن الإنسانية لا ترقى إلا عن طريق المحن، سواء في ذلك أفرادها وأممها، فالفرد الذي يجد كل شيء ممهداً سهلاً لا يصلح لشيء، والغني المترف الذي يجد كل شيء ما يشاء في الوقت الذي يشاء، ثم لا يكلف نفسه شيئاً أكثر من أن يستمتع بالحياة، هو (نبات طفيلي) يستهلك ولا ينتج مظهراً ولا مخبراً، يوم عاصف به عاصفة من شدة يذهب مع الريح ولا يستطيع مقاومة،  إنما يثبت للحياة ويصلح للبقاء من عركته الأحداث، وربته المصائب، وصلَّبته الكوارث، وهكذا شأن الأمم، أصلبها عوداً أُصلحها للحياة، وخير رجالها أقدرهم على التضحية، والأمم التي تنعم تؤذن نعومتها بفنائها، ولم تبلغ الأمم مثلها السامية من عدل وإخاء ومساواة وحرية إلا عن طريق المصائب. وصحة الأمم كصحة الأفراد، فالمرض ينتاب من الأجسام أنعمها وأكثرها إخلاداً للراحة، والصحة لا تنال إلا بالأعمال الرياضية الشاقة، وبذل الجهد المعني، ولا لذة للراحة إلا بعد التعب، ولا لذة للماء إلا بعد العطش، ولا للأكل إلا بعد الجوع، كذلك الأمم لا تدرك قيمة الخير إلا بالشر ، ولا الفوائد إلا بالمصائب، ويوم تنزل بها الكوارث تؤمن بالجد، وتحتقر التافه، وتطلب المثل . فأهلاً بالموت. إذا كان فيه الحياة. وبالشر إذا كان يتبعه الخير …. و :

مرحباً بالخطب يبلوني إذا كانت العلياء فيه السببا .

مشاركة