العودة إلى ملتقى الرواد
باسم عبد الحميد حمودي
منذ فترة طويلة وأنا امني النفس أن يظهر مقال أو رأي يقول بأحياء دور ( ملتقى الرواد) وهو دور محمود في الثقافة العراقية رغم قصر زمنه وعدم اهتمام الوزارة التي اسسته بكل متطلباته الادارية والمادية رغم جمعه لأهم رجالات الثقافة في حينه , أذا استثنينا المجمع العلمي العراقي , حتى ظهرت مقالة السيدة عالية طالب في ثقافية صحيفة (الصباح ) الغراء يوم الاربعاء23 كانون الثاني الماضي , وهي تطالب مشكورة باعادة تأسيس هذا الملتقى الذي قدم الكثير كمنتدى ثقافي في التسعينيات,وقبيل هذه الدعوة ظهرت مقالات متباعدة للسيدعبد حمود الكناني رئيس تحرير مجلة البداية المحتجبة ولغيره بهذا المعنى ولم يهتم أحد بالامر ,وقد وجدت مناسبا الآن أن أتحدث عن هذا الملتقى الحيوي .
كنت واحدا من مؤسسي الملتقى وأول مقرر لجلساته في فترتي رئاسة الشهيد د. راجي عباس التكريتي والمغفور له شيخ مؤرخي العراق د. حسين أمين وبهذا يحق لي الحديث عن هذا الملتقى الذي أغلقت أبوابه بوجوه مفكريه ورواده عند سقوط النظام السابق حيث أصبح مكان الملتقى ( وهو القصر الابيض ) مجرد سكن عوائل لبعض التجمعات الغريبة عن الجسد الثقافي . أذكر أننا ذهبنا الى المكان بعد شهرين من دخول الامريكان بغداد , كان الوفد مؤلفا من الاستاذ محيي الدين اسماعيل رئيس الملتقى ايامها والمرحوم الناقد محمد مبارك وكاتب هذه السطور , ولم تشفع لنا هوياتنا في رد الاذى عن بناية الملتقى وأثاثه ومكتبته , ورفض من كان متسلطا على البناية الحوار رغم تأكيدنا لبنية الاستقلال الفكري والاداري عن وزارة الاعلام القديمة , وتركنا المكان محسورين فنحن مجرد كتاب لانملك سطوة ولا قدرة على أجلاء من سكن وتمكن !
المهم أن هذا الملتقى قد تأسس بسعي من الاستاذ حميد المطبعي , صاحب فكرة التأسيس حيث اجتمع كل من المطبعي ود.كمال السامرائي ود. راجي التكريتي ود. حسين أمين ود. كمال مظهر أحمد ود.بهنام أبو الصوف ود. حسام محيي الدين الآلوسي وعبد الغني الملاح وعبد الحميد العلوجي وخالص عزمي ومحيي الدين اسماعيل ود. حسين علي محفوظ وباسم عبد الحميد حمودي ونوري الراوي وخالص عزمي ويوسف العاني وحميد الهيتي ومحمد مبارك ود. خالص حسني الاشعب (ثم أضيف العلامة علي جواد الطاهر ) , وانتخبوا في أول جلسة لهم ( في المبنى التراثي المطل على دجلة الخير وهو بيت السيد عبد الرحمن النقيب) د. راجي عباس التكريتي رئيسا للملتقى ومحيي الدين اسماعيل سكرتيرا وباسم حمودي مقررا .
وكان المظنون عند أعضاء الهيئة الادارية للملتقى أن المرحوم التكريتي سيكون مفيدا لخدمة ظروف الملتقى , وكان الشهيد قد تعهد بهذه الخدمة من حيث التأثيث ومستلزمات الادارة الاخرى.
في حزيران عام 1993 ابلغنا د. راجي أنه سيسافر بعد أيام الى عمان لشراء مستلزمات مستشفى خاصة به وعدد من الشركاء الاطباء فباركنا له ذلك , وقبيل سفره بيوم اتصل هاتفيا بداري متسائلا بأدبه المعهود عن الخدمة التي يمكن تقديمها لنا من عمان فتمنينا له سلامة العودة والنجاح , ولم يكن أي فرد من اعضاء الملتقى يعلم أن للدكتور راجي دورا سياسيا خاصا ضد الحكم حتى علمنا بالقبض عليه وأعدامه بطريقة وحشية.
كان ذلك في تموز من نفس العام وقدكان مطلوبا أن نشد على آلامنا وأن نعمل فاخترنا الاستاذ الدكتور حسين أمين رئيسا للملتقى في وقت أستقال فيه الاستاذ الدكتور كمال مظهر أحمد من عضوية الهيئة لاسباب لم يعلنها مباشرة ولكني فهمت أنه كان يحتج بطريقة سلمية على تهميش المفكرين الكرد في الملتقى وسواه .
من جانبنا في هيئة الملتقى فأننا لم نكن في حال تمكننا من التوسعة رغم احترامنا الشديد لموقف د. أحمد .
استمرت هيئة الملتقى في عملها , بأجتماعاتها الاسبوعية وبمحاضراتها التي كانت تتم مساء كل اربعاء حيث كانت قائمة المحاضرات والحاضرين طويلة مشعة بالخير .
كنا قد أنتقلنا الى بناية البيت الابيض وكان الاتفاق أن يعفى د. امين من رئاسة الهيئة وأن يكون البديل هو الطبيب العالم الاستاذ الدكتور كمال السامرائي , فكان خير خلف لخير سلف ,وكان القليل منا يعلم أن اعفاء د. أمين قد جاء نتيجة تقرير مرفوع الى جهة أمنية تفيد nزورا- أن د. أمين يتصل بسفارات الدول العربية طالبا الحصول على دعوات لاعضاء الملتقى ,وكنا جميعا نعلم ان د. امين يحاضر في معهد التاريخ العربي وأن له طلبة عرب وعراقيين وأن له حضوره العلمي التاريخي عربيا…. كل ذلك أغاض من أغاض فكتب تقريره الاسود ضد أمين رحمه الله , وقد تفهم د. أمين الموقف وحمد الله أن ينتهي الامر بأعفائه من رئاسة الملتقى مرحبا بالدكتور السامرائي.
من جانبي فقد تيسر لي أن أترك المقررية وأن اسعد بالعمل في ادارة جلسات الحلقات النقاشية بالتعاون مع شيخ اللغة الاستاذ حميد الهيتي عميد كلية آداب الجامعة المستنصرية لعشرين عاما خلت والذي أحاله وزير التعليم العالي – أيامها – سمير الشيخلي (امين العاصمة السابق !) الى التقاعد ظلما ومن دون سبب سوى خدمته الطويلة ! …… أيامها همست في أذن الصديق حميد ابو رامي أن المدعو أباسمرة ( وهي كنية الوزير المبجل ) قد أحالك الى التقاعد رفقا بك فأنت تستحق الاعدام ( اقل شيء ) ذلك أنك كنت مذيعا بارزا في
اذاعة بغداد أيام تلمذتك في ( العالية ) وبعدها وأنك قد اذعت بيانات عبد السلام محمد عارف ضد البعثيين وأضفت اليها (( وأقتلوهم حيث ثقفتموهم )) وأن الرجل لم يقتلك بل (دهدرك ) ! وكان الله يحب المحسنين , وكان العزيز (ابو رامي ) يبتسم غاضبا مني ويقول ما يقول بحقي .
كانت محاضرات الملتقى تلقى من قبل الاعضاء وسواهم , محاضرة عن ( جنة عدن )لعبد الغني الملاح بمشاركة بهنام ابو الصوف , واخرى عن اساليب التدريس الجامعية للدكتور الطاهر وثالثة عن الطب القديم للدكتور السامرائي ورابعة عن التجربة المسرحية للفنان العاني وأخرى عن العمارة البغدادية للدكتور طارق الكاتب ومحاضرة عن تبادل التأثير بين الآداب الشرقية والادب العربي للدكتور حسين علي محفوظ
وأخرى عن القضاء العرفي لكاتب هذه السطور ومحاضرة عن الملا عبود الكرخي لجميل الجبوري واخرى في الفلسفة للدكتور حسام الألوسي و لمحيي الدين اسماعيل ومحمد مبارك .. وهكذا .
أنت تجد في كل أربعاء لونا من الثقافة ومتعة في السماع والنقاش الحر من ابرز مثقفي بغداد الذين صمدوا بوجه الفاقة والجوع والعسف ولم يسافروا , وانت تجد في كل لقاء لونا من الاداء المعرفي والفكري الذي يتخطى الشبهات ويعطي لملتقى الرواد نكهته الخاصة .
كان نشاط ملتقى الرواد أكثر أهمية وأستقطابا لجمهور المثقفين مساء كل أربعاء بحيث أخذ افضل حضار أتحاد الادباء من الشباب أضافة لشيوخ بغداد وكهولها , أوانسها وسيداتها المهتمات بالثقافة , كان منفتحا على المسرح (يوسف العاني ) والموسيقى ( سالم حسين ) والتراثين الشعبي والفصيح , أضافة للعلوم العصرية والطبية والهندسية والعمارة والفقه (n محمد طارق الكاتب n د خالد ناجي – حسام الآلوسي وغيرهم كثير).
كان بعض اعضاء الملتقى قد سعدوا بالسماح له باصدار مجلته الفصلية ( الرواد ) التي ضم كل عدد منها أبرز دراسات الاساتذة الرواد , وقد شغلت فيها سكرتارية التحرير لاصراري على أنجاح هذه التجربة رغم أنشغالي أيامها بمجلة التراث الشعبي وندوة بغداد , وظن الكثير من الرواد أن اتساع نشاطات الملتقى سيمكنه من أن يكون رديفا للمجمع العلمي أو أنه كذلك فعلا ! , وجاءت وفاة الاستاذ بهجت الاثري رئيس المجمع العلمي العراقي عام 1996 ذريعة لكي تحل الدولة المجمع العلمي وتعيد تركيبه من جديد !!
كان الامر اشبه بالكارثة العلمية , فلأول مرة تخترق الدولة التقاليد وترفع من عضوية المجمع من تريد وتعين من تريد , وكان التقليد الرسمي أن أعضاء المجمع لا يفصلون أو يتقاعدون وأن عملهم هو لمدى الحياة ,ولكن المر المر حدث بجرة قلم وكان من أعضاء الملتقى من يستحق أن يكون عضوا في المجمع أمثال علي جواد الطاهر وحسين علي محفوظ وحسين أمين أضافة لعميد الاطباء كمال السامرائي رئيس الملتقى .
كنا نعتقد ان (ترميم ) المجمع وًأصلاح خطأ تغيير أعضائه يمكن أن يتم بهذا الاجراء الذي سيضمد الجرح , ولكن شيئا من هذا لم يحدث وجاءوا بالفنان مخلد المختار والشاعر كمال الحديثي عضوين اضافيين في المجمع ,وكانت دهشة الاوساط الجامعية والثقافية الاخرى كبيرة بهذا الترقيع المجحف , لكن من فهم الامر على حقيقته فهم أن المطلوب هو ليس وجود د. أحمد مطلوب أمينا عاما فالرجل لم يكن مطيعا لمطالب الدولة بل للتجربة المجمعية الصرفة , بل كان أدخال الحديثي والمختار للمجمع لونا من دخول السلطة مباشرة لهذا الصرح العتيد, وكان أختيار الاستاذ صالح أحمد العلي رئيسا للمجمع بين سنتي1978-2001 محاولة لتصحيح خطا بشكل متأخر, وقد حاول الاستاذ العلي ايجاد نوع من التعاون بين المجمع والرواد وتم أختيار بعضنا للأسهام في الموسم الثقافي للمجمع بالتنسيق مع امينه العام د. أحمد مطلوب , وكان نصيبي محاضرة موسعـــــة عن القصة العراقية الحديـــــــــثة , كانت أول محاضرة تلقى عن هذا اللون من الادب في المجمع العتيد وتنــــــشر في مجلته …..
دخلت الى تجربة الاقصاء في المجمع العلمي والتعيينات الشاذة فيه لأنها كانت مدار أحاديث الرواد وهمومهم وشعورهم بأنهم قد يشملون بالاقصاء يوما خصوصا بعد رحيل الاستاذ د. كمال السامرائي عام 1999وتعثر أصدار المجلة وأقتصار الامر على النشاط الثقافي الاسبوعي , أضافة الى رحيل الاستاذين عبد الحميد العلوجي (25-12-1995) والهيتي(1997) قبيل ذلك .
اختير د.خالص حسني الاشعب رئيسا للملتقى بعد السامرائي وظل الملتقى في نشاطاته الاسبوعية واستطاع عقد اتفاقية مع جامعة الجزائرالتي ارسلت مبعوثين منها للمحاضرة في الملتقى لايام وكان التركيز في نشاطات الملتقى الاسبوعية على شتى ألاهتمامات الثقافية العراقية في الادب والعمارة والهندسة والطب الجراحي ( خالد ناجي ) والطب النفسي ( الحارث عبد الحميد ) والنقد الادبي العراقي ( الطاهر ومحمد مبارك ) والمسرح ( يوسف العاني وعادل كاظم ) والصحافة ( خالص عزمي وجميل الجبوري ) , وكان كاتب هذه السطور يسهم في الحديث مقدما للمحاضرين ومدليا بدلو المشارك حين يكون الامر قريبا من أهتماماته .
كان الملتقى قد خطط أن يكون له فرعين , الاول في البصرة على يد الاستاذين الدكتورين خليل أبراهيم العطية وشجاع مسلم العاني والاستاذ الكبير محمد خضير , على أن يختار الثلاثة من يدخل معهم في هيئة الفرع الادارية , والثاني في الموصل مكونا من أ.د. عمر محمد الطالب ود.مزاحم علاوي ومن يختارانه معهما من أعضاء .
تمت مكاتبة العطية والعاني والطالب وتمت موافقاتهم وزملائهم , لكن الوضع المالي للملتقى لم يكن ليساعد على تحقيق الامنـــــيتين , وكان تحقبق الامنية المكبوتة ( أيجاد فرع في كردستان العراق ) يعد أمرا صعبا تماما في حينه …. ولاسباب معروفة , كما أن فتــــح فرع للملتقى في النجف. الاشرف كان أكثر من أمنية لم نستطع تحقيقها للاسباب عينها , وجاء من همس بآذاننا أنكم لو فاتحتم آل شمسة وآل الاعرجي وغيرهما من اسر حاضرة الامام علي (ع) لفتحوا الفرع وقاموا بالواجب أفضل من الدولة وأن المسألة ثقافية لا سياسية , وقلنا لمن قال وأفتى أننا لو فعلنا ذلك لأغلقوا مركز منتدى الرواد ببغداد فاستر وأسكت فسكت وسكتنا!
مطلع الالفين قدم د. الاشعب استقالته من الملتقى لسفره الى اليمن وتم تعيين الاستاذ محيي الدين اسماعيل رئيسا دون انتخاب أو ايحاء بأنتخاب , وكان الرجل متجاوبا مع الجميع حريصا على عمل الملتقى حتى توقف العمل فيه ,وانتهى فصل من تجربة ثقافية كانت ناجحة في رأي كثيرين آملين ان تستعاد هذه التجربة ويكون للملتقى نشاطه المثمر والمأمول ,وأن تكون تجربته الثقافية حرة في العمل والفكر وألأدارة.