الأزياء والمعتقدات

الأزياء والمعتقدات
الألوان تحاكي الأفكار وتواكب العصور
ساطع هاشم
قبل انطلاقة الثورة الصناعية في بداية القرن التاسع عشر، وبدء الإنتاج الواسع النطاق للسلع، والزيادة الهائلة في صناعة النسيج، لم يكن بإمكان الناس استبدال ثيابهم باخرى جديدة بنفس البساطة التي نعيشها في زماننا، وقد كانت الأقمشة الجيدة والملونة بعناية وباصباغ عالية الجودة وحسب الطلب والتي تستجيب لما تتطلبه الاعرافوالطقوس والعادات حكرا على الطبقات الغنية في المجتمع، نظرا لكلفتها العالية، ولم يكن بإمكان الغالبية من الحصول على نفس الامتيازات أو قريبا منها، ولهذا فقد لعبت الالوان في الملابس دورا كبيرا في تمييز الناس حسب مكانتهم في الترتيب الهرمي للمجتمع، وكانت بمثابة الإعلان البصري لتلك المكانة، وهي ما زالت هكذا في غالبية المجتمعات غير المتطورة صناعيا، وبدرجة اقل حدة في المجتمعات المتطورة، نظرا للتبدل السريع في افكار الناس وفي ــ الموضة ــ وصرعات الازياء الحديثة، وسهولة الحصول نسبيا على النوعيات الجيدة، الا انها ما زالت مقياسا اجتماعيا وطبقيا ايضا، لان هذه الصناعات كما يحاجج المختصين في تاريخ الازياء تجسد الافكار وتقول اكثر مما تقوله الكلمات او الاعمال الفنية، والسبب هو انها تعطي صورة اجمالية عن طبيعة المجتمع من خلال المظهر، وتطور النظرة الجمالية ومظاهر الرموز، ثم البناء الفكري والدين» الايديولوجيا ، وكيمياء وتكنلوجيا السلع والتصنيع، والتجارة والمالية، وايضا، الاقتصاد، والمواد المستعملة والمواد الخام، والتقنية، وغير ذلك الكثير.
اللون بمعانٍ متعددة
ينعكس كل هذا بوعي او بدون وعي لاحقا، في انشغالات الفنانين الجمالية والشواهد الفنية سواء في المعمار او صناعة الفخار او الرسم والنحت وغيرها، ثم يأتي عنصر اللغة ودوره في وصف كل هذا بالكلمات.
غير اننا ندرك بأنه لا توجد صورة او عمل فني صور الواقع بدقة، او اعاد انتاجه بصريا بشكل صحيح، خاصة اذا ماتحدثنا عن تلك الاعمال من خلال الوانها، هذا امر لم يحدث في كل تاريخ الفن وبجميع مدارسه على الاطلاق، وهذه الحقيقة هي مصدر قلق دائم للفنانين تحديدا، لان هؤلاء يرسمون حياتهم ويعيشون حاضرهم بلغة البصر، والسبب في عدم القدرة هذه هو ان الالوان التي نعيشها يوميا في حالة من التغير الدائم السريع ومن المستحيل ضبطها ومشاهدتها ساكنة، فهي اضوية ملونة على شكل موجات متدفقة باستمرار، اما مانقوم به في الاعمال الفنية فهو اعمال ساكنة ونستعمل بها مواد كيميائة ساكنة هي الاصباغ التي لايمكنها نقل صورة الضوء المتحرك بسرعة 300 الف كيلومتر بالثانية، وحتى لو افترضنا جدلا وجود هذه الامكانية فان هذه الاصباع ستتبدل بعد اقل من ساعة لانها تفاعلات كيميائية لمركباتها، فالاعمال الفنيةلتي نشاهدها في المعارض والمتاحف حول العالم، هي ليست بنفس بريقها وشكلها عندما انتجت وعرضت للمرة الاولى قبل قرون اوحتى قبل بضع سنين.
هذا ينطبق ايضا على النصوص الكتابية ايضا، خاصة تلك التي وصلتنا من الماضي، فهي وثائق تعطينا شهادات غير محددة وغالبا جدا غير صادقة عن الواقع، مثلا اذا قيل ان النبي او الامام او الشخصية الفلانية كان يرتدي عباءة سوداء او بيضاء فيجب ان لا ننخدع ونعتقد بانها كانت سوداء او بيضاء فعلا، كما هو متعارف على هذه الالوان في زماننا اليوم، لان المشكلة ليست فقط في تبدل معاني التوصيف، بل والاهم من ذلك هو ان الكاتب او الراوي يتحدث بدوافع عقائدية او دينية او ايدلوجية معينة، والسبب كما قلنا هو ان الالوان عادات وتقاليد وعقائد بصرية، اي انها لغة بصرية من الصعب جدا ترجمتها الى اللغة المنطوقة اوالمكتوبة.
قاموس اللون
كأمثلة على مثل هذه الصعوبات، هذه بعض النماذج اخترتها من ــ قاموس الالوان عند العرب واعتقد انه الاول من نوعه، ولحد الآن فهو الاخير ايضا، من تأليف الدكتور عبد الحميد إبراهيم وقد نشره في سنة 1989 في مصر، وفيه مصطلحات لحوالي الخمسمائة مادة باللون، ومعظم هذه الأسماء قديمة ومهجورة في لغتنا العربية هذا الزمان، لكنها تعكس الصعوبة والتعقيد الذي يواجهنا في التعرف على النصوص القديمة ودلالتها البصرية، فمثلا يقول المؤلف في مقدمته الزرقة عند العرب تعني البياض، والصفرة تعني السواد، والخضرة تعني السواد.
وعن تعدد درجات اللون التي لانعرف كيف تبدو للعين وكيف نميزها بالواقع يقول هذا القاموس
أبيض يقق ولهق وصرح ولياح ووابص وحضي وقهب وقهد
أسود حائك وحالك وسحكوك وحلبوب
أحمر قانٍ وذريحي وبحراني وقاتم وناصع ويانع وناكع وسلغد وأسلغ وأقشر.
أخضر أحم وأحوى وأدغم وأطحل وأورق.
واستعان المؤلف في انجاز قاموسه هذا ببعض الآيات القرآنية، وبأبيات من الشعر العربي القديم، فضلا عن المراجع والقواميس العشرة التي اعتمدها.
لا اعتقد ان لدينا دراسات جيدة مثل محاولة الدكتور عبد الحميد ابراهيم، تتناول مصطلحات الالوان في اللغة العربية ودلالاتها وتطور معانيها، رغم وجود أدباء وشعراء ولغويين في العالم العربي يفوق بما لايقارن أية اختصاصات أخرى الا أن ذلك لم يصب للأسف لحد الآن في مصلحة فنوننا البصرية، لهذا السبب فسيكون من العسيرعلينا اعطاء رأي قاطع بمعاني الالوان ودلالته الحقيقية في التاريخ الفكري لشعوب العرب في المدى المنظور على الأقل. لأن السؤال الذي نبحث في الاجابة عليه هو، ماهو المعنى الرمزي الكامن لهذا اللون او ذاك في حقبة زمنية معينة ؟ وكيف حُمّلَ معنى ؟ وماهي الافكار التي تختفي وراء هذا المظهر او ذاك؟ وكمثال على ذلك فلناخذ علم الخوارج، فنحن نعرف مثلا، بان علمهم كان احمر، لكننا لانعرف على وجه الدقة لماذا، ومازالت معارفنا عن هذا الموضوع بحدود التخمين وليس دليلا قاطعا، واذا تتبعنا تاريخ الخوارج وعلمهم الاحمر عبر الزمن، فسوف نعرف لماذا اصبحت اعلام معظم دول الخليج حمراء حتى بداية الحرب العالمية الاولى، ومازالت جميعها تقريبا عدا السعودية، تجمع الاحمر مع الوان اخرى هي الابيض او الاسود او الاخضر، فلماذا تبدلت ؟، هذه اسئلة قد لاتهمنا ظاهريا لكنها اساسية لان تاثير الرموز البصرية ومعانيها اطول زمنيا بالذاكرة والوعي من الكلمات والاصوات.
هناك جانب اخر مهم لكل ما قلناه لابد من الإشارة اليه، الا وهو أن الإحساس بالألوان شئ شخصي وشعور ذاتي تماماً حيث ينفرد كل إنسان بالعالم فيه بشكل مستقل بما يميزه عن الآخرين، بمعنى أن شعورنا رؤيتنا للون معين هو ليس نفسه متساوي عند جميع البشر، فما يبدو لي انه اخضر فاتح فقد يبدو للآخر بانه اخضر غامق يميل إلى الزرقة، وهذا الشعور المختلف والفردي هو فارق بايلوجي يعرفه كل الاطباء المختصين بطب العيون، وهو يميزنا عن بعضنا، مثلما نتميز أحدنا عن الاخر بالمواصفات الجسدية، وقد يكون عند بعض الأفراد من القوة بحيث تطغى مشاعره وأحاسيسه اللونية على بقية الأحاسيس.
هذه الظاهرة في الاختلاف هي موضوع بحث ودراسة في علم السيكولوجي والفيسيولوجي وتشغل اهتمام الباحثين في الكثير من دول العالم، ولكن من المؤسف أن الفنان ليس طرفا فيها ولايسأل رغم أن عمله الأساسي هو مراقبة الضوء وتجسيد اللون في أعماله، وغالبية هؤلاء الباحثين يعتمدون بالدرجة الأولى في تجاربهم على الإنجازات الفنية ونتائجها القديمة منها والمعاصرة.
AZP09