مسرحية الهروب للكاتب صادق زوره
أسلاك شائكة وأبراج مراقبة علامات مهمة
القلق ، و التمزق الداخلي ، لهما خطورة كبيرة في تمزيق الشخصية ، مهما كانت هذه الشخصية التي هي أصلاً تعاني الخوف ، والارهاب ، في ظل نظام دموي ينخر إستقلال شخصية الفرد ، مما يسهل عندئذ ترويضه وقيادته ،ويكون تابعاً وخانعاً وينضوي تحت أي لواء ،وبالتالي يصبح وعاء فارغاً مستعداً للتلقي والامتلاء ، كما يقال بأي محتوى يعرضونه عليه ، وحتى يظهر قوة شخصيته ويشعر بقدرته الذاتية على ملأ الفراغ في المكان الذي يعيش فيه ، يحاول أن يؤرشف وبهمة عالية ويشارك الجماعة لينطلق من عالمه الخاص وهو عالم الابداع والكتابة.
وهذا التشريح الذي إنطلق منه الكاتب ” زوره ” وهو تشريح للواقع النفسي عبر سلسلة العلاقات بين الشخصيات التي عايشها ضمن هروب هذه المجاميع التي كانت تقطن العراق ، وهذا التنوع في الشخصيات المتشابهة زادها جمالا ً وأبعدها عن الاطالة معتمداً على عنصر التشويق المتمثل في سرعة ايقاع السرد مع تطويل وقوع الحدث ، ولا شك أن كل مجتمع محكوم بظروفه الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والتي تؤثر في صياغة فنونه ، وفي قراءتي الدقيقة لهذا النص أجد ” زوره ” كاشفاً عن طبيعة الإنسان والتعرف عليه كما قد يكون عالماً أجتماعياً لكشف خفايا المجتمع في هذه الخيم المتناثرة هنا وهناك،
خليل ” أحياناً لا أصدق بأنني هنا ،ولكنني عندما أفتح عيني وأنتبه أجد المكان ذاته ، لا شيء سواه ، مكان مغبر وملعون “
ومن هذا النص الذي وضع الكاتب ” زوره ” كل أدواته التي يطمح لإظهاره أو لنقل لإظهار أفكاره ،وما يدور في داخله ، وما يعتريه من شعور وسط مأساة عاشها الا وهي مخيم ” رفحاء ” نهاية عام 1991،
عباس : أستحق كسلي ، كدت أنفق هناك ،ثم أنظر حولك ، المئات من الناس يعيشون هنا مثلك ، بين الاسلاك الشائكة في الخيم .
ولأنني أعشق الكتابة ، ودائم البحث عن المغمورين ، الذين لم يجدوا فرصتهم في زمن النظام السابق ، الذي بطش في أهلنا في العراق كما يفعل حكام العراق الجدد اليوم ، وخاصة طبقة المثقفين والمتعلمين الذين هم اساس تطور المجتمعات ، وهذا النظام اتسم بتكميم الافواه ، والحقد المقيت الذي زرعه في قلوب الناس ، وخاصة الذين لم يساهموا في وضع أنفسهم كحمالة الحطب للدفاع عن مبادئه الوسخة ، التي شتت معظم العراقيين ، وقتلت من قتلت ، حتى أنني أهيم بهؤلاء ،بعد أن أتاح المهجر لي بعضاً من حريتي ، فأخذت البحث عنهم والتواصل معهم عبر ” الشبكة العنكبوتية ” وخاصة المبدعين منهم الذين سطروا أجمل المفردات في السرد والبصر ، أو لنقل في كل المجالات الأدبية ، سواءا كانت مسرحية أو قصصية أو روائية وغيرها من الفنون ، وبالتالي اراد الكاتب ” زوره ” أن يوثق هذه الفترة الصعبة التي أطلق عليها معسكر رفحاء ، ويخلدها في نص مسرحي مستوفي الشروط من حيث الفكرة ،أو لنقل ” مذكرة أو أعتراف ” لكافة الاجيال التي تأتي من بعده ، وكذلك للعالم ، فجاءت الشخصيات التي أراد لها أن تكون واقعاً حيا ً يصب ُ كل ما شاهده ُ في هذا المعسكر من تدني وسوء تعامل ،من قبل السلطات التي تديره ُ وتتحكم بهؤلاء الفارين من بطش السلطة في العراق ، فها هو يرسم لنا تعاسة هذا المكان عبر شخوصه المسرحية التي كان لها صدى واسع في نفسه على مدى تواجده في هذا المعسكر ،
خليل ” ها عباس ، طبعا عباس ، هل تعتقد بأننا سنخرج ، سنغادر هذا المكان التعس ؟
عباس ” طبعا لا اسمع منك غير الشكوى ، هذا المكان الملعون ، حياتي عذاب ، سأختنق الغبار ، التراب ، لا شيء هنا ينال ثناؤك ، نحن نعيش في مخيم ، أو على الأصح في خيم صحراء ، ليس فيها حتى عمود كهرباء ،
وهذا النص الذي إشتغل عليه الكاتب ووضع شخوصه وهما ” خليل ، عباس ، عزيز ، نعمة ، خالد ، مهند ، ” وفي داخل هذا المعسكر ، كما وصفه لنا نصه المنشور في الموقع الإلكتروني ” ادب وفن ” مسرحية من فصل واحد ” وهو قول الحق دونما خوف أو تردد أو ضعف داخلي ، لينتصر على عوامل الضعف والانهيار الباطن ، وعندئذ يكون قوة انسانية تملك الارادة والاختيار وتتمع بقوة الشخصية فتأخذ دورها في حمل الرسالة ، واصلاح البشرية ، ومقاومة الفساد ، والظلم الذي يقع على البشر أينما كانوا وبغض النظر عن ألوانهم وألسنتهم ، أليس الكتابة كما يقول ” رولان بارت ” نص يقوم على نسيج لغوي ، وهو بلاغ مكتوب على فرز العلامة اللسانية ، أي أن لكل نص أدبي مكتوب مظهران ،مظهر دال ويتمثل في الحروف الدالة من الفاظ ،وعبارات ومظهر مدلول وهو الجانب المجرد ، أو المتصور في الذهن أو المتحصل عقليا ، كما أطلق عليه ” دي سوسير ” عالم اللغة اللساني الكبير ،
خليل ” هذا المكان يشبه مرحاضا كبيرا ، أشم خراء أينما تلفت ، عفونة في كل مكان ، هربت من السلاح كي أطوق به ، هنا ، في هذه الصحراء التي نسيها الخالق” فجاءت فكرة المسرحية المستوحاة من هذا المعسكر الذي عاش فيه الكاتب ، لتكون هدفه الذي من خلاله صرح به ، وأن نقطة البداية هي المقدمة المنطقية ، ويبدو ” زوره ” قرأ للعديد من الكتاب الذين سبقوه ، وبالتالي فهم ما يدور حوله ، وجسد لنا هذه الحكمة التي تقول ” كيف يمكنك أن تذكر لنا الطريق الذي سوف تسلكه ما لم تعرف إلى اين ذاهب ؟ وعلى المعنيين وخاصة دار الشؤون الثقافية أن تطبع هكذا نصوص مسرحية مهمة وتسوقها داخل العراق وخارجه ، وعلى المخرجين الذي يعملون في مؤسسات الدولة وخارج مؤسسات الدولة أن يتناولوا هكذا عروض لأنها ترصد مرحلة مهمة من تاريخ العراق الحديث ، وتكون وثيقة للأجيال القادمة ، ولا ننسى بأن الدراما ” عبارة عن محاكاة للفعل البشري ، وأن المسرحية في أوسع معنى لها كما تعلمناها في معاهد الفنون وجامعاتها ، أنها عبارة عن فعل يؤديه إنسان ولا يعني هنا الفعل مجرد حركات الممثل التي يصور بها الشخصية وأنما تشمل الجوانب النفسية والعقلية التي تحرك سلوكه الظاهري ،
كنا نموت بالجملة ، ولم نعرف سوى الخوف ، نمشي بخوف ، نأكل بخوف ، ننام بخوف