وعيٌ مبكر ومسيرة بناء الدولة – كامل الدليمي

مائة عام من الدستور العراقي

وعيٌ مبكر ومسيرة بناء الدولة – كامل الدليمي

في عام 1925، وُلد أول دستور عراقي حديث، ليكون وثيقةً تأسيسية وضعت اللبنات الأولى لبناء دولة تسعى إلى تنظيم السلطة، وضمان الحقوق، وصيانة كرامة الإنسان. واليوم، ونحن على أعتاب مرور مائة عام على التجربة الدستورية العراقية (1925 – 2025)، تفرض هذه المناسبة وقفة تأمل في مسار وطني طويل، اتسم بالتحديات والتجديد، وعبّر عن وعيٍ مبكر لدى العراقيين بأهمية القانون والدستور في حياة الشعوب.

لقد كان العراق، منذ نشأته الحديثة، من أوائل الدول العربية التي تبنّت دستورًا مكتوبًا، نابعًا من إرادة وطنية تهدف إلى بناء مؤسسات الدولة الحديثة بعد قيام المملكة العراقية عام 1921. فجاء دستور عام 1925 ليرسم ملامح النظام الملكي النيابي، وليؤكد لأول مرة في المنطقة على مبدأ الفصل بين السلطات الثلاث، وعلى وجود سلطة تشريعية تراقب وتُحاسب السلطة التنفيذية، وسلطة قضائية مستقلة تسهر على تطبيق القانون وصون الحقوق.هذا الوعي الدستوري المبكر لم يكن حدثًا قانونيًا فحسب، بل كان نتاج نضج سياسي واجتماعي لشعبٍ أدرك أن الدولة لا تستقيم إلا بالقانون، وأن العدالة هي أساس الحكم الرشيد. ومنذ ذلك التاريخ، ظل الدستور العراقي – بتعديلاته وتحولاته – مرآةً لتطور الوعي الوطني، ومحورًا للنقاش السياسي والاجتماعي في مختلف العصور.

مرحلة جديدة

ومع سقوط النظام الملكي عام 1958، دخل العراق مرحلة جديدة من التحولات السياسية، حيث تعاقبت الدساتير المؤقتة، التي وإن عبّرت عن طبيعة المراحل الانتقالية، إلا أنها ظلت تعكس طموح العراقيين نحو دستورٍ دائمٍ يحقق العدالة والمواطنة والمساواة. ثم جاء دستور عام 2005، بعد سقوط النظام السابق، ليؤسس لنظام جمهوري ديمقراطي اتحادي، ويعيد التأكيد على المبادئ التي نادى بها الدستور الأول قبل قرن من الزمن: حماية سيادة الوطن، وصون كرامة المواطن، وتوزيع الصلاحيات بين السلطات بما يضمن التوازن والمساءلة.

ورغم ما رافق هذه المسيرة من تحديات سياسية وأمنية، فإن التجربة الدستورية العراقية تبقى واحدة من أعمق التجارب في المنطقة من حيث غناها الفكري وثراؤها القانوني. فهي لم تكن مجرد نصوص جامدة، بل كانت تعبيرًا عن وعي جمعي بضرورة أن يكون الدستور المرجع الأعلى في ضبط إيقاع الدولة وتنظيم علاقتها بمواطنيها ومؤسساتها.

اليوم، وبعد مائة عام على أول دستور عراقي، يبرز سؤال جوهري: هل حققنا الغاية التي كتب من أجلها الدستور؟

الإجابة ليست بسيطة، لكنها تحمل في طياتها دروسًا كبيرة. فالدستور العراقي كان ولا يزال مرجعًا للحوار الوطني، وأداة لتصحيح المسار السياسي، ومظلةً تحفظ وحدة البلاد وتنوعها. ومع اقتراب الذكرى المئوية، تبرز الحاجة إلى مراجعة واعية وهادئة للمسار الدستوري، بما يضمن تطوير مواده وتفعيلها بروح العصر، دون التفريط بجوهرها التاريخي الذي شكّل علامة مضيئة في الوعي العربي الحديث.

إن مئوية الدستور ليست مجرد احتفاءٍ بحدثٍ تاريخي، بل هي دعوة لتجديد الإيمان بالقانون كقيمة حضارية، وللتأكيد على أن الدولة القوية لا تُبنى بالقوة، بل بالمؤسسات، وأن كرامة المواطن هي الأساس الذي تُبنى عليه شرعية الحكم.

مائة عام من الدستور… هي مائة عام من البحث عن التوازن بين السلطة والحرية، بين الدولة والمجتمع، بين الحاضر والمستقبل.

ولعلّ أعظم تكريم لتلك المسيرة هو أن نحافظ على روح الدستور حيّة في ضمير الوطن، وأن نواصل العمل لبناء دولةٍ يسودها العدل، ويُحترم فيها الإنسان، ويكون القانون فيها سيد الجميع.

مشاركة