هروبات إلىالنسيان
حول فيلا أماليا لباسكال كينيارد
عبد الوهاب الملوح
هل كانت آن هيدن تثأر لكرامتها أم تحاول أن تنسى فقط ؟
هل كانت تريد التخلص من ذاتها أم كانت تحاول أن تُخلصها من وهم وقعت فيه ؟
..وهي تغير اسمها وعناوينها وهي تغير من طبائعها وتغير مظهرها وسيارتها و هي تغير حساباتها البنكية و تتخلص من كل ما تملك بالبيع والإهمال والتحويل إلى جهات أخرى
وهي تتعامل مع أمها لمجرد أداء الواجب ؛تتصرف معها كما لو أنها كائن يستدعي الشفقة وتتصرف معها وفق طلبات الجمعيات الخيرية
وهي تلهث عبر الشوارع والمحلات والبنوك والوكالات العقارية ووكالات كراء السيارات للتخلص من كل ما هو قديم يذكرها برفيقها الخائن أو يذكره بها
وهي تنفذ خطتها التي لم تفكر فيها والتي شرعت في تنفيذها دون سابق إضمار
خطة انتقام من رفيق حياتها ومن نفسها ؟…
وهي تغير جلدتها كانت أقسى من الموت على نفسها
الموت يأتي ويمضي قد يباغت فلا يترك أثرا ؛ وقد يتلبث في الجسد يوجع فيؤلم فيضعضع الجسد ويؤذي الروح لكن حين يقرر يصفي حساباته في أقل من ثانية ؛آن هيدن كانت قاسيبة جدا على نفسها وهي تقطع أوصالها بالمكان وبالزمن وبالآخرين وبنفسها ولعلها كانت تربيها بعنف على ذلك لتقطع أيضا مع رفيق حياتها توماس الذي كانت أقسى من الجحيم عليه …
كانت آن وحشا يلتهم توماس فيصمت يمزقه قطعا قطعا ويلتهمه وهو حي هكذا كانت أن مع توماس لمجرد إنها رأته يقبل فتاة من شفتيها من وراء شجرة رند ذات مساء خريفي ..
يا إلهي كم يكون الحب قاس ومتوحش حين يثأر لنفسه ..
على امتداد 300صفحة سوف يركض القارئ مع آن هيدن ؛ يهرول ويلهط معه ؛ سوف لن يكون بإمكانه التوقف ليأخذ نفسا أو يفكر فيما حدث أو يفسح المجال لخياله أن يصنع فانتسماته وحده ؛ توزعت رواية فيلا أماليا ل باسكال كينيارد الصادرة مؤخرا عن المجلس الوطني للفنون والآداب بالكويت ضمن سلسة إبداعات عالمية في ترجمة متميزة للكاتب القاص محمد المزديوي ومراجعة للدكتورة ليلى عثمان على أربعة أجزاء توزع كل جزء منها إلى مجموعة من الفصول وكل فصل إلى مجموعة من الفقرات وكل فقرة إلى مجموعة من الشذرات جاءت في أغلبها عبارة على التقاطات وهوامش وجمل عابرة وتفجرات انفعالية في شكل شظايا متطايرة كما لو إنها العاب نارية تدهم العتمة ليس لتضيئها وإنما لتخرج لها لسانها وتكشف فصر قامتها ؛ وهي فعلا شظايا نار تحترق في الدواخل ؛ نار الشعور بالخيبة بل بالغبن بل بالعار وكان لابد من التخلص من هذا الشعور وكان لابد لآن ان تُطهر نقسها وروحها وجسدها من كل ما يشعرها بهذا الخزي الذي مسها في صميم روحها وهي الموسيقية الألمعية النجمة المشهورة بل نخلت عن نجوميتها من أجل أن تستعيد كرامتها ولو بالتخلص من ذاتها حتى صديق طفولتها السيئ الحظ لم يسلم منها وكان ضمن الهشيم الذي جاءت عليه نارها نحولت آن منذ اكتشفت خيانة توماس لها إلى نار وطوفان جارف تحرق وتسحق تدمر وتجرف ما تجده أمامها ولكأنها تعيد خلق الكون مجددا ..
يكتب باسكال جملا قصيرة جدا تنكب كل تزيين بلاغي أو تفقه لغوي يتجرأ على العودة إلى المنابت الأولى للفول حيث تراجع اللغة نفسها وتكتشف كم أصبحت عجوزا بحكم عمليات التزيين التي خضعت لها ويَكشف للقارئ نضارة المفردات في أصولها الأولى البدوية في تعبيراتها اليومية المتداولة وما أجملها وهي تقع بين يدي كاتب يضعها في سياقات إبداعية ضمن متواليات سردية نظيفة بلا محسنات بلاغية أو رتوش تزيينية ؛ عمل المزديوي على الوفاء لها من خلال ترجمته فجاءت كما لو أن الرواية عربية أصيلة وهي فعلا كذلك طالما إن آن هيدن أقامت زمنا في نابولي هذه المدينة التي كانت في وقت ما قريبة جدا من الحضارة الإسلامية وكان احتكاكها بها قويا إلى درجة أن لغة التخاطب فيها كانت مستوحاة من العربية التي كانت لغة العصر وقتها ..وكان بإمكان كينيارد خلق شعرية مباغتة من خلال توالياته السردية ومن خلال رؤى آن هيدن هذا الكائن موسيقي
من اجل متعة التيه وسط كثير من الجمال ص89
كانت تهجر الطريقة اتي عاشت بها عواطفها ص93
لكني أسير بإصرار, شيء ما يتقصني حيث أحس أني ساحب أن أتيه ص109
مثل امرأة لا تهتم أبدا بالانطباع الذي تحدثه ص229
انفجر فجأة , بعنق , في تشددوكوى وعنف وظلم 234
يجب على الروح أن تستدير نحو الألم ومن الضروريان تقوم بذلك وجها لوجه , ان تعطيها وقتها , وعمقها ؛ وضيقها ؛ يجب أن تجره بعيدا عن الجسد, , يجب أن تعذبه بشيء آخر غير نفسها , يجب إغراؤه , تقديم طعم له , …
بُعول كينيارد على شبه الجملة والجملة المقتطعة والجملة التى تتمرد على الوجاهة النحوية أيضا وكل هذا من أجل الوفاء لحزن الواقع ..
الواقع أهم من البلاغة وما يحدث لنا يوميا وبشكل تفصيلي أجمل مما يتحدث عنه البلاغيون .
جمل مقتصدة ..لغة متقشفة قريبة من اليومي بل تقترب من لغة الصمت قكم من حوار صامت وإحساس بالضيق يترجمه اللجوء إلى موسيقى هايدن ومنه جاء اسم البطلة هيدن ؛ كان هايدن الموسيقار الكبير لا يقدم مقطوعات طويلة ولكن يشتغل على لحظات خارجة من الإطار الزمني و مناخاته الموسيقية متقلبة فلا تكاد مقطوعاته تستقر على إيقاع واحد تتميز بوقفات مباغتة وانقلابات نغمية مفاجئة حتى انه قد يحول الكآبة إلى فرح في نفس المقطوعة ؛ وهو في الحقيقة يعمل على تأليف زمنه الخاص بانفعالاته وأمزجته يبدع هايدن هنا عملا سيمفونيا آخر شديد الإمتاع ويسمى هذا العمل بسيفمونية المفاجأة وهنا تبدأ الحركة الأولى بألحان ناعمة قد تدفع المتلقي إلى النوم لكن ذلك تهيئة للحركة الثانية الصاخبة التي توقظ أولئك الذين أوشكوا على النوم وفي الحركتين الثالثة والرابعة تقدم لنا مناخا مبهجا.
رواية متميزة وعمل لافت لروائي باسكال في تقنيات تسييره لسرد وتحكمه في تطورات الشخصيات دون استطرادات مملة في الوصف أو في الحوار ولكن تعويل على تحرير الباطن الداخلي لسير الأحداث ؛ نجح المترجم محمد المزديوي كثيرا في تحويل هذا النص الى العربية وإضفاء روحها عليها .
/9/2012 Issue 4302 – Date 12 Azzaman International Newspape
جريدة الزمان الدولية العدد 4302 التاريخ 12»9»2012
AZP09