النصّ سردي 4-4
هالة من رماد
مهدي علي ازبيِّن
لا يجيب . يبدو أن السفر فكّك جسدي ، و أنهكتني مجريات يومي
– هل أنتظرك أم أذهب ؟ إن احتجتني ، تجدني عندك في أي لحظة .
أعتصر صدري ، يلتمّ القميص في كفّي ؛ فتدغدغني فتحة الزرّ الثكلى …
أرمق ساعتي ، تجاوزتُ ثلاثين دقيقة عن الموعد . وقد ودّعنا الغروب ، ليسلّمنا إلى الليل . تشكّل الأضواء معاني الحياة على لوح مظلم .
– أنا سأعود على راحتي
يشغل بصري عنوان المبنى .. (المنتدى الثقافي) . ترتعش يدي حين تمتدّ لتستر خلل القميص . ترتبك أقدامي و أنا أتوجّه للدخول ، سنتواجه لأول مرة ، و نتصافح ، و يسمع أحدنا الآخر ؛ لكن أتمنى أن لا تلتقط عيناها النقص في أناقتي . كيف يحصل هذا في أول لقاء ؟ تطالعني ملصقات بأحجام مختلفة ، تهدهدها أنوار المصابيح ، وتمسح عليها أضواء السيارات ، تغفو على السياج . لم أتبيّن فحواها ، يتصدرها أسمها المكتوب بنحو بارز .
أسحل أقدامي ، و تسحلني . أضمّ محفظتي إلى صدري .. تنفتح أمامي الباحة الخارجية ، يتوزّعها بضعة أشخاص يستعرون في التدخين ، وسجائرهم تستشيط دخانًا . تشخص لوحة إعلان في باب القاعة ، تشير إلى الجلسة الإحتفائية . تبتهج بصورتها و هي ترنو إلى البعيد ، شعاعها يتابع الكون المتمدّد . تتعلثم الخطى حين تلج المدخل . أعدّل من هندامي ، و أضغط على موضع قلبي . تتقطّع أنفاسي . تهفو للحظة تلاقي العيون ، سيتأيّن الهواء ، و يتكهرب الإحساس . هل يقدح برق من فرط الصدمة . قلبي يعزف بفوضى ضرباته . أصل الباب الموارب ، أدعّه برفق ، ينفتح !!!! تتلقّى عيني خواء المقاعد ، يتّسع مع اتساع فتحة الباب ، ليشمل القاعة كلّها . المنصّة تشهق في ضوء ذاوٍ ، و تنتصب مستفزّة من نظرات متطفلة أطلقها الزوغان . تبهت يدي ، وتفتكّ خناق القميص . فضاء القاعة يكتم أنفاسي ، و يضغط على صدري .
ألقى نفسي ، أواجه لوحة الإعلانات . أتأكّد من الموعد . هل حصل لبس ؟ أنقّل نظري بين الهياكل المتناثرة في الباحة . يصبغ الأسى ملامحها ، و يسبغ الوجوم عليها التباطؤ ، تتأوّد كتله في شراك البوح الأخرس . يتّخذ أحدهم من السياج متكأً ، يقاطع ساقيه ، يطبق الهاتف على أذنه ، وفي اليد الأخرى ؛ تغفو سيجارته بين السبابة و الإبهام ، و قد استطالت ذبالتها ، و هناك اثنان يتسارّان ، و هما يتناوبان في توهّج السجائر ، و آخر يروح ، و يجيء في مسار ضيّق ، يتقاطع همسه مع انفعال يده .. و اثنان يصالبان أيديهما ؛ تمثالان لا معنى لهما ، و آخر يقف لصق حافة شباك ، يقبض على تقاطيع الحديد ، ويبادل قدميه في الإستناد على الحائط ..
أخرج من دوّامة الصدمة ، إنهم شعراء ، وللشعراء صرعاتهم ، نزقهم ، وتصرفاتهم المغايرة . سأحلّ اللغز ، لكن لمن أتوجّه . أحثّ بقاياي نحو تمثاليّ الصمت . أحيّيهما ، يرمق أحدهما الآخر ، يردّان بهدوء . أجازف بالسؤال
– أليس من المقرّر أن تتمّ جلسة الآن ؟
يتراشقان بنظرات تلهج حروفها بالحزن . يدقّق أحدهما في ثغرة قميصي . يصفعني الآخر
– ألمْ تعلم ؟!
– ………….
– ألمْ تقرأ اللافتات في الخارج ؟
يديرظهره لي ، و ينسحب . يتململ التمثال الثاني ، يتبعه بحركات إنسان آليّ .
تلفني أسئلة حيرى . تشدّني رغبة النفاذ من هذا الخانق . هل أجد الجواب في الخارج . تستطيل المسافة ، و تشعر قدماي بالعجز ، تتردّدان في السعي لاكتناه شفرات الغموض ، وتتجاوبان مع إيعازات القرار . أجرجر الخطى على مسار مترنّح ، يتساوق مع وقع طبول مصدرها صدري . تمتصني عبارات مغرورقة بدمع الحروف .
في الأولى
إن وعد الله حق
انتقلت إلى رحمة الله [………….] “لا أحب ذكر اسمها”
تغمّدها الله فسيح جناته .
أفرك أجفاني ، تتفتّح عيناي ؛ لتستشفّا صورة الحزن المنثور على السياج .
في الثانية :
فقدت الأوساط الأدبية المبدعة [………….] . “أغضّ الطرف عن الاسم”
و لأهلها الصبر و السلوان .
تشهق الرؤية على رقعة أخرى
تنعى الأوساط الشعبية فقيدتها المناضلة [………….]
وبفقدها خسرت منظمات المجتمع المدني عنصرًا فاعلاً ..
هل ألومك ، لماذا تعجّلت الرحيل ؟ تمنيت أن أراك بعيدًا عن خمول الصور . أردت مطابقة خيالك الراكز في ذهني مع المستلم من عين الواقع . لماذا لم تصبري قليلاً . انتظرك الأصدقاء ليفرحوا بحضورك و نصوصك ، لكنك أوغرت صدورهم حزنًا بغيابك ، وغادروا يتأبّطون عكّاز الانكسار ، وخلّفت بعضهم هياكل شمعية . لقد سحبت البساط من تحت أقدامهم . لن يروك بعد الآن . عزاؤهم أنهم سيجدون روحك منبثّة بين كلماتك ، رغم أنها تفغر أفواهها كمدًا لفراقك ، و اشتياقًا لسحر عينيك حين تمسح على رؤوسها ، تحنوعليها . قلبي يغصّ بعبارات الأسى ، ويعلن نفير الألم بين طياته .
لا أعرف أين أنا . تختلط أصوات السيارات ، وحفيف عجلاتها . تقترب ، و تتباعد . تئزّ اهتزازات الطائرة ، و هي تنهب مدرج المطار بسرعتها الفائقة ، والظلام يلفّ عينيّ ، ثمّ تجري مستقرّة على بلاط ناعم ، تتباطا ، وتتوقّف .. رائحة التعقيم تفغم أنفي . ينقطع إحساسي بالعالم . أين أنا و ماذا يجري حولي . أغيب ، و أصحو . متى صعدت الطائرة . متى عدت ، إلى أين ذهبت ، متى رجعت ، ومن التقيت ؟
يعودني تيار الوعي . اغدر دوّمات العتمة إلى أجواء الوضوح . يصحو سمعي على إشارات أجهزة طبيّة تلتقطها عيناي الزائغتان . ترسم عليها خرائط متحركة و أضوية متوامضة ثغرات ألم تتردّد مع ضربات قلبي المتباطئة . أتحسّس صدري من فوق ثوب بلا أزرار ، فتوفقـــني يد آمرة
– الحمد لله على سلامتك .
– ماذا جرى؟
– كنت متعبًا و قد عدّت الأزمة ، إنك في العناية الفائقة . سيفحصك الطبيب بعد ساعة ، ويقرّر .
تجوس عيناي في جدران الغرفة و سقفها . أحدّق في الستائر الخضر الغامقة .. أعود للمشرف .
– لو سمحت أين ملابسي .
– إنها في الدرج هناك .
يشير وهو يراقب ذبذبات تنبض على شاشة الجهاز . ألتمسه
– أريد قميصي .
ينتل نفسه ، ويفتح الدرج ، يخرج القميص ، يشنقه بطرف سبّابته من تحت الياقة . يستعرضه أمامي
– لقد هذيت كثيرًا ، و أنت تنازع سكرات (البنج) لتعود إلى وعيك ، كم ناجيت شخصية بالاسم . تلومها على إهمالــــــــــــها قلبها ، و تلهج بلازمة الزرّ المقطـــوع . ما السرّ في الموضوع ؟
ينشر القميص . تنتصب طياته بوقار ، وتسكن مختالة أمامي . تحيّيني واجهته بابتسامة أقلق جمالها السنّ المفقود ، أعني الزرّ الضال . تنفلت مسألة مني ، و ترتدّ نحوي
– متى انقطع .. و أين اختفى ؟!














