من هو المثل الأعلى للشاعر عبد الأمير الحصيري؟!
علاقة الشعر بالخمر تقود إلى خسارة الحياة
رزاق ابراهيم حسن
عندما توفي الرئيس جمال عبد الناصر حاول عبد الامير الحصيري الانتحار، وعندما سئل عن الاسباب اجاب: لقد كنت شاعر الامة بوجود قائد الامة، ولم يعد لي اي مبرر للبقاء برحيل قائد الامة.
وقد صرح عبد الامير الحصيري في العديد من المرات بانه شاعر الكرة الارضية والعالم من القطب الى القطب وانه المتفوق في الشعر على كل شعراء العالم في جميع اللغات والثقافات، وينقل عن عبدالامير ان ثقافته الشعرية لا تتجاوز حدود الشعر العربي القديم، وشعراء العراق في مختلف المراحل.
ويقول احد اصدقائه النقاد عنه: كان يرى نفسه اشعر الشعراء قدامى ومحدثين ولم يطق حديث اطراء لشاعر معاصر له، وهذه الحالة تبرر في احيان كثيرة خشونته مع الشعراء والنقاد ومحبي الشعر (1).
وتدفع هذه الادعاءات الى التساؤل :هل يحاول الحصيري من خلالها ان يعلن نفسه الشاعر الوحيد؟ وهل يريد من خلالها التغطية على تاثره بالشعراء الاخرين؟ وهل تبرر هذه الادعاءات للحصيري ممارسة ما عرف عنه من سلوك عبثي ومن استغراق في الخمر.
نموذج معين
ومن الاسئلة التي اثارها ويثيرها الشاعر عبد الامير الحصيري في شعره وسلوكه، وهل يرجع هذا الشعر وهذا السلوك الى نموذج معين؟ ام انه يشير الى محاولة عبد الامير ان يكون نموذجا لنفسه، ولمن يريد من الاخرين وهل في بيئة عبد الامير محفزات وعوامل دفعته الى ان يختار الشعر والسلوك بما عرف به من عبث واستغراق في الشراب؟
بدايات اولى
وعلى صعيد بيئة الحصيري، فهي شعرية وثقافية، عرفت الكثير من الشعراء والفقهاء وفيها موقع متميز لمن يمارس كتابة الشعر، ولكنها تجمع بين الشعر والدين، بين الشعر والتقاليد والطقوس الدينية، على انه ولد وعرف بداياته الاولى في مدينة النجف، وهي مدينة محافظة وقد تسمح لعبد الامير ان يكتب الشعر بالصورة التي عرف بها، ولكنها لا تنسجم مع سلوكه العبثي، ومع ادمانه الشراب ومع تشرده ومع نومه في الحدائق والارصفة، ومع تكريس الشعر للخمريات،وهذا ما يتناقض مع البيئة العائلية للحصيري، في سلوكه اذ ليس فيها يقارب ويماثل الحصيري، وليس فيها امن يصلح ان يكون سليلا وامتداداً له في الشعر والسلوك ولا توجد سابقة لعبد الامير في هذه البيئة الثقافية والادبية النجفية، فوالده كاسب يمتهن خياطة العباءة النجفية، وكان متديناً، كما ان عبد الامير الحصيري خلال مرحلته الاولى في النجف كان متدنياً، ولم يعرف عنه شرب الخمر والصعلكة والتشرد، وكانت اغلب قصائده في هذه المرحلة تشير الى انتماء سياسي معين، يحكم صاحبه بالالتزامات وتوجهات معينة، وكانت قصائده الاخرى لا تختلف عما كان يتناوله الشعراء الاخرون من موضوعات وفضلا عن ذلك فان النجف عرفت الشعر الخمري اذ كانت الكثير من القصائد تبدأ مطالعها بابيات تتحدث عن الخمر والندامي، كما عرف عن الشاعر محمد سعيد الحبوبي كتابته الكثير من القصائد والموشحات التي تقدم حالات من السكر، ومن الليالي الخمرية، ومن العلاقة مع الحبيب مقترنا بليال من السمر والنشوة المتاتية من الشرب وتبادل الكؤوس ، ولكن هذه القصائد والابيات الخمرية لم تتجاوز حدود القول، وقد جاء بعضها تقليدا لمطالع القصيدة العربية، ويعزز من ذلك ان محمد سعيد الحبوبي رجل دين وفقه، ولم يعرف عنه اية علاقة فعلية مع الخمر وشاربيها واماكن بيعها، وذلك ما ينطبق على الشعراء الاخرين الذين ودرت الخمرة في قصائدهم.
كما ان القصائد التي كتبها الحصيري في النجف تخلو من اية علاقة بالخمر، سواء كانت واقعية ام متخيلة ولكنه انتقاله الى بغداد انقلب على ما اعتاد عليه فهل من وجد ببغداد من يصلح ان يكون مثله الاعلى في الشعر والسلوك؟
مسقط الرأس
عندما اختار الحصيري بغداد للاقامة وكتابة الشعر كان يحاول بذلك استعادة انتقالات الشعراء العرب من مكان مسقط الراس الى امكنة تستقبل قصائدهم، وترحب بها، وتغدق عليهم الاموال والالقاب والمكانة المرموقة، ولم يقف الحصيري عند هذا الحد من طموحه الى بغداد، وانما كان يريد منها ان تتوجه شاعرا بارزا مرموقا فيها، اذ كانت بغداد انذاك مطمح كل الادباء والمثقفين العراقيين، والمركز السياسي والثقافي والاجتماعي كما كانت بغداد عند انتقال الحصيري اليها تعج بالذين يريدون التمرد والتغيير، واذ يختار ادباء ومثقفون التمرد على ما هو سائد وقديم، ومحاولة تحقيق الثورة والتغيير من خلال الانتماءات السياسية ، او محاولة بناء اختيارات فردية فان الحصيري يختار الشعر والشراب، وقد يكون هذا الاختيار محكوما بدوافع واسباب نفسية واجتماعية وسياسية، او لانه الخيار الذي ينسجم مع التفرع للشعر، ولكنه الطريق الذي لازم الحصيري طوال سنوات اقامته في بغداد، وكان الخيار الذي يتباهى به، ويعلن انسجامه المتواصل معه، ويدعو الاخرين الى مباركته، والى ان يكون شاعراً سكيراً، لن يعرف للصحو زماناً ومكاناً.
ان بغداد التي عرفت طوال تاريخها الكثير من الشعراء لم تعرف احداً مثل الحصيري يكرس حياته للشعر والخمر والتشرد، فقد كان شعراء الخمر في بغداد من المقربين للخلفاء والولاة والامراء، ولم يكن في الشعراء المعاصرين مثل حسين مردان ومن يماثل عبد الامير الحصيري في سلوكه وشعره، فقد مارس حسين مردان التشرد، ولكنه انقلب الى صورة منضبطة عندما اتيح ان يحصل على فرصة عمل، وكان يطمح ان يمتلك داراً، وان يتزوج وينجب اطفالا مثل غالبية الناس.
ثقافة شعرية
وعبد الامير الحصيري في ثقافته الشعرية لم يعط اهتمامه لشاعر معين، اذ كان يحفظ الكثير الكثير للمتنبي، والبحتري وبشار وابي نؤاس والفرزدق وجريرو الشريفين والسيد الحميري ودعبل ومحمد سعيد الحبوبي والشرقي والشبيبي والجواهري(2).
وقد يرى البعض ان الحصيري كان يقلد ابا نؤاس في الشعر والسلوك، وهذا غير صحيح، فقد كان مفترضا ان يستلهمه بعمق لما بينهما من تشابه الحانة، ولكن هذا الشاعر ظل رمزاً خمرياً، يذكره الحصيري في قصائده الخمرية دون احالات من تاثر واستيعاب وهو يمر كسواه من الشعراء في معلقة بغداد مثلا ولا نكاد نميزه عن سواه من الشعراء والمفكرين).
ويذكر الحصيري ابا نؤاس في قصائد اخرى ولكنه لا يقرن هذا الذكر بصفات وخصائص متميزة، كقصيدة ام هارون التي يعارض فيها قصيدة الجواهري التي جاءت بعنوان (يا ام عوف) وقصيدة الحصيري مكتوبة لبغداد حيث فيها مخاطباً هذه المدينة:
واي قمة مجد قد بلغت لكي
يود في تربها يغدو الضحى طينا
بالشعر يفترش بالاسماع ظلته
ويستقي المنتهى اقداح دارينا
ثغر النؤاسي يكسوه لالئه
وابن (الوليد) يوشيها الرياحينا (3)
كما ان الحصيري غالبا ما يطرح نفسه على انه السكير الذي تربع على عرش الخمر، والذي لا يباريه احد في هذا المجال، ولعله كان يشعر انه متقدم على ابي نؤاس في خمرياته، ولذلك لم يكن هذا الشاعر نموذجاً يحتذى به الحصيري في الشعر والسلوك.
ويسال الناقد حاتم الصكر: لماذا المتنبي.!
ويجيب: (لعل البيئة تجمع الشاعرين في نسغ متصل من حيث التكوين والمؤثرات، فشخصية المتنبي ماثلة في الذهن كمتمرد ومتكبر لا يرضخ الا لسلطان الشعر… وله في الشعر شخصية اخرى تكمل سيرته فهو يبني قصيدته بمعمار باذخ ورصين ويتقدم صوب هدفه واثقا .. مازجا الذات في الموضوع .. رغم ان الحصيري يفسر متنبياته بانها نشاز سبب الظروف دون ان يطلعنا على ماهية تلك الظروف (اللعينة)(4)
القافية والوزن
ويضيف: (ان الحصيري يحرص منذ ديوانه الاول على ان يقدم النموذج الكلاسيكي اطارا والحديث مضمونا وتعبيرا فهو لا يفرط بالوزن والقافية الموحدة، بل يدافع عنهما في مقدمة ديوانه الاول رادا قول القائلين بان المحافظة عليهما ضرب من الكلاسيكية، يقول الحصيري (فانني اعتقد ان الكلاسيكية ليس معناها المحافظة على الوزن والقافية وانما تتمثل في المحتوى والتعبير القديمين، ولا ضير فيما اذا بمضمون جديد وتعبير حديث) واتساقا مع هذا الفهم كان مثاله الشعري القديم هو المتنبي بينما كان الجواهري مثاله المعاصر.
وطبيعي ان لا يكون الحصيري متشدداً في نظرته الى الشعر كاسلوب ومدرسة فتراه في المقدمة ذاتها يصرح قائلا: (ولست بكافر بالجيد من الشعر المنطلق ولست بمتعصب للشعر العمودي، ولكنني متعصب للشعر الجيد مهما كان شكله عموديا ام منطلقا ام غير ذلك).
فالحصيري يتجاوز الشكل الموروث ولا يزكيه، بل يقر بان القافية والوزن تقيد ذوي القابليات الضعيفة او ضئيلي الثقافة اللغوية) انه لا يرضى مقابل ذلك ان يسلم بالحداثة كاملة دون قيود او شروط ويحرص لذلك على جمعها في قصيدته التي تستعيد روح شعر المتنبي، المجدد في مضامينه وصوره ولغته، وتستحضر طريقة الجواهري باناقة مفرداته واندفاع ابياته ، انه يحسب ذلك شرطا للشعر الجيد الذي يبدو له في تلك الهيأة المتصالحة التي لا يعيقها شكل). ولكن الحصيري مختلف كثيرا عن المتنبي والجواهري، فالمتنبي كان يهتم بالبعد الاخلاقي والسياسي والفلسفي في شعره، والحصيري يهتم بالصورة الشعرية، والحصيري يحشد الصور الذهنية والحسية في شعره، ولم يكن ذلك من الخصائص البارزة في شعر المتنبي، كما ان الحصيري مختلف بقاموسه الشعري عن المتنبي، والاختلاف واسع على صعيد السلوك، فقدعرف المتنبي بعلاقاته مع الملوك والامراء وبمدحه لهم، ولكن الحصيري عرف بعلاقته مع مختلف الشرائح والفئات ومع الذين يشاركونه الجلوس في المقاهي والحانات. وليس بالضرورة ان يكون الحصيري نسخة من المتنبي، او يكون تلميذه في الشعر، ولكن قصائد الحصيري لا تحمل اذا اقترنا الكثير من شعر المتنبي، وهي رغم طابعها العمودي اقرب الى اللغة الحديثة منها الى قاموس المتنبي، وقد يلتقي الحصيري والمتنبي في الاعتداد بالذات والزهو بالقول الشعري، وتميز القابلية الشعرية ولكن ذلك يتم باختلاف في اللغة الشعرية، واختلاف الاسباب والمبررات. وانك في قصيدة المتنبي تجد القوافي مغروسة في مواقعها من القصيدة ولكنها في قصيدة الحصيري قابلة للتغيير والاستبدال، ولا تمتلك قوة الانتساب للبيت الشعري. والحصيري عاش معظم حياته في المقاهي والحانات ولكن المتنبي عاش معظم حياته وهو يتنقل بين الملوك والامراء، معززا ذلك بطموح سياسي، وبقدرة شعرية تتصاعد في شهرتها وعلو قامتها، والحصيري رغم انه يعيش في عصر متطور علميا وتكنولوجيا الا انه لم يغادر بغداد باستثناء سفرة قصيرة للكويت، ولكن المتنبي رغم خلو عصره من وسائل النقل الحديثة الا انه كان يتنقل من مكان الى اخر، قاطعا المسافات الطويلة، وكان المتنبي كثير الاعتزاز بشعره وموهبــــــته ولكن الحصيري رغم توفره على ذلــــــــــك، كان معرضا الى فقدان قصــــــــــــائده نتيجة استغراقه في الشراب، ونومه في الارصفة والحدائق ونتيجة بيع قصــــــــائده لمدعي كتابة وانشاد الشعر.
وقد يكون المتنبي حاضراً بتاثيره في شعر الحصيري ولكن هذا التاثير لا يظهر بصورة واضحة ومباشرة، وانما تاثير يلتقي مع تاثيرات اخرى، ولا يبدو بصورة التاثير الاولى والاساس.وكان الحصيري يطرح نفسه على انه تلميذ وخليفة الجواهري، وكان البعض يشير اليه بخلافة الجواهري، ولكن المسافة شاسعة بين الاثنين شعراً وسلوكاً رغم مبادرة الحصيري كتابة قصائد تتماثل مع قصائد الجواهري في الموضوع والوزن والقافية، فقد عاش الجواهري حياته وشعره في خضم الصراعات والتناقضات ولم تخل حياة الحصيري من ذلك، ولكن ضمن حياة عابثـــــــة، وسكر متواصل، ورحلات يوميــــة بين شارع الرشيد وشارع ابي نؤاس.
كوفتي الحمراء
ويذكر الناقد محمد مبارك : (اوائل عام 1959 قدمه الجواهري الكبير نداً وهو مازال في اولى خطوات مسيره الابداعي، انه ابن كوفتي الحمراء التي تقدمت للدنيا بمتنبيها، وارجو ان لا تعدو عليه بغداد كما عدت علينا عقوقا وغدراً، ولعل قصيدته عن جواد سليم تتقدم به بكل ما انماز وتميز به من خواص في بنيته الشعرية الفريدة والمتفردة، قثمة غنائية لم تتهيأ الا لكبار شعراء عمود الشعر لا في عصرنا.. حيث عملاق شعرنا العربي الجواهري المخيف، ولكن في كل عصور هذا الشعر منذ الملك الضئيل، على ان غنائية الحصيري تطرزها نزعة تاملية يبتدئ من خلالها الفكر وقد اسرته اقفاص ذهبية من مخيلة موغلة في تهديهما وايهامها حتى لتكاد صورها لا تكاد تحصل لما دخل بنيتها من طبيعة زئبقية يحار في تحصيلها الحس والخيال المنفلتان من اغوار حدوس لا شعور معرفي) (5) الجواهري يعبر عن اعتداده بشعره مقترنا بدوره السياسي ولكن الحصيري يعبر عن ذلك بالعلاقة بين الشعر والخمر، وانه يعطي للشعر زهوه بالخمر، والاستغراق في شربها، وتفضيلها على كل المتع والملذات الاخرى. والجواهري اكثر صلة بالتراث الشعري العربي من الحصيري الذي يجنح في الكثير من قصائده الى اللغة الشعرية الحديثة، والى التراكيب اللغوية الحديثة.واذا كان هناك من يضع الحصيري في خانة الموروث الشعري العربي، وانه يشكل امتداداً للمتنبي وابي نؤاس والبحتري والجواهري فان هناك من يجعل الحصيري امتدادا لشعراء مثل بدوي الجبل وعمر ابي ريشة.
تفرد مهم
ويقول صديقه الناقد والشاعر عبدالاله الصائغ : (في قصائد الحصيري نلمس تمكنه المتفرد المهم في امتلاك ادواته الشعرية حتى كانه مهيء للوقوف مع رعيل عمر ابي ريشة وبدوي الجبل لولا فارق العمر والتجربة) (6)
وهناك ديوان شعر للحصيري عنوانه (مذكرات عروة بن الورد) وقد يكون الحصيري قد اختار عروة بن الورد نمذوجا وهذا غير صحيح، لان المسافة شاسعة بين شعر بن الورد وشعر الحصيري، ولا يوجد اي تشابه بين الاثنين في السلوك، وقد جعله الحصيري عنوانا لمجموعة شعرية لانه من الشعراء الصعاليك ولان الحصيري يعد نفسه من الشعراء الصعاليك ، ولكن المسافة شاسعة بين صعلكة الحصيري وصعلكة بن الورد.
ولم يكن استخدام الشخصيات رموزا واقنعة من مبتكرات الحصيري او لانه وجد فيه الشخصية الاقرب اليه في الشعر والسلوك بل سبقت الحصيري الكثير من القصائد التي استلهمت شخصيات معينة من صعلكة متوارثة. ولكن يمكن القول: ان الحصيري حاول الجمع بين صعلكة ابن الورد وصعاليك عرب واجانب، ولاسيما ان الشعراء الصعاليك العرب – عبر التاريخ – لم يرثوا تاريخ الصعلكة في محيطهم العربي، بل دمجوا معه تاريخ الصعكلة في حياة شعوب وامم اخرى، عبر المتحدات الاسلامية الكبيرة التي جمعت تلك الشعوب والامم مع العرب، وقد دخلت عناصر من مزيج تلك الصعلكة و (التمرد) في تكوين بعض الانتفاضات الشعرية التي لا تخل من غرابة الشاعر ) (7)
ولكن الحصيري لم يوضح هذا التركيب في صعلكته ولم يكن مسيطرا على هذه الصعلكة في الشعر والسلوك وانما كان منساقا معها بفعل اختياره الخمر طريقه للحياة والشعر، كم ان الحصيري نفسه لم يحاول استلهام شعراء صعاليك اخرين غير عروة ابن الورد، ولم يكتب قصائد او مقالات عن صعاليك عرب واجانب من الشعراء وغير الشعراء. ان الحصيري عاش طريقة حياة لا تشابه طرق حياة اي شاعر عربي، كما انه لم يقدم اية دراسة وتنظير عن اسلوبه الشعري، ولكن يمكن القول ان الحصيري نتاج قراءات مختلفة في الشعر العربي القديم، فقد ابتدأ رومانسيا في قصائده الاولى، وكان قريبا من لغة شعراء الستينات، ولكن قصائد الحصيري طوال مسيرته (تغتني بالاستعارات الشعرية، وبالمجازات والتشبيهات التي تضطلع بها العبارة الشعرية، انه في تعامله مع الحياة والطبيعة والنفس (نفسه هو) يصعد على سلالم الاستعارات المرموقة بالمحسنات اللفظية، وبالمفردات العربية البليغة الاتية من عالمي (البادية) و (المدنية العباسية) على حد سواء، ولماذا لم يكن كذلك وهو الذي اغترف من الشعر الجاهلي، والشعر الاموي، والشعر العباسي ثروة كبيرة )(8)
وهذا هو الراي الصحيح، فالحصيري نتاج قراءاته الاولى وعلاقته بجيل الستينات، ولكنه يحكم انشداده للقصيدة العمودية، وكثرة محفوظاته فيها ومطالعاته لها، ولانه من مدينة تعد القصيدة العمودية من خصائصها الثقافية الاساسية ولانه وجد في قصيدة التفعيلة اسماء مهمة وراسخة فقد اتخذ من البارزين في هذه القصيدة نماذج وامثلة له، ولم يحصل ذلك عن طريق تقليد هؤلاء البارزين من امثال المتنبي والجواهري، وانما محاولة الوصول الى ما وصلوا اليه من مكانة في الشعر العربي. وكان الحصيري مؤهلا لذلك لثقافته الادبية وقاموسه اللغوي الثري، ولكن سلوكه العبثي حال دون ذلك، واذا كان هذا السلوك قد ساعد الشعراء الاخرين على الوصول الى ما وصلوا اليه من مكانة فان سلوك الحصيري قد دفعه الى التردي والانحدار، ولعله كان المسؤول عن موته المبكر، وعن تعرضه للاهمال والنسيان في حياته وبعد رحيله. لقد كرس الحصيري حياته للشعر والخمر، ولقد اضاع الكثير وخسر الكثير بسبب هذه العلاقة، وخسر حياته بسببها ولم يعط للشعر ما يستحق من فرص وامكانات للتعبير عن موهبته وقدراته وصار مثلا سلبيا لهذه العلاقة غير المتوازنة.
(1) – مجلة الاقلام – العدد التاسع- السنة العشرون – ايلول 1985 ص12
(2) – مجلة الاقلام – العدد التاسع- السنة العشرون – ايلول 1985 ص9.
(3) – انا الشريد- مطبعة دار الجاحظ – بغداد- ص9.
4. المصدر نفسه – ص91
(5) – يا باسل الحزن – ملحمة قيل عنها ملحمة – بغداد 2004
6. مجلة الاقلام – المصدر السابق – ص86
(7) غزليات عبد الامير الحصيري ص22
(8) غزليات الحصيري – ص18