معهم أنــا
زيد الشهيد
1 سأم باريس
ملبدةً بدت السماءُ ، والليلُ حزنيَ الأكيد.. الطَرقاتُ تتوالى على بابٍ أردته اليوم مُغلقاً بوجهِ من يبغي زيارتي ؛ ذلك أنَّ لي بعيداً يموتُ اللحظة. أرى تابوتَه الصاجي محمولاً على أكفِّ حفنةٍ من الأصدقاءِ بغية وضعه على عربةٍ تجرّها أحصنةٌ خُصصت لنقلِ الموتى إلى مقبرة مون بارناس وسط باريس فأنظمُّ إليهم . كان زارني بالأمس عندما كنتُ أحاور الصحراءَ التي أعجب بها ديلاكروا من شرفةِ بيتي المطلة على حركةِ الخارج إلى البادية من بدوٍ ومن حضرٍ أو القادم منها. دفعتُ إليه بصينيةٍ تحملُ دلّةً برونزية تحوي قهوةً عربيةً سوداء ، وعدداً من الفناجين . وكنت أقرأ في كتابٍ استللته من مجموعةِ كتبٍ لأقرأ فيها قتلاً للجزع الذي هجم عليَّ ساعة عصر ولحظات أنبأتني بغروبٍ عتيم سيأتي محمَّلاً بخبرِ الحزن. قلت اشرب من قهوتنا العربية وابعد ذيول الخمرة المتقهقرة في دروب رأسِك المُحمَّل بالخدر.
لم يمد كفّاً تلتقط الدلَّة ، ولا رفع فنجاناً ، إنما قال
تركت خلفي باريس وجئتك إلى السماوة لأقول لك غداً أموت.
ما الذي تقوله ، يا شارل ؟
الشلل اخذ مني الطاقةَ وابعد قدرتي على الإمساك بقلمٍ يخط قصيدة نثر أردتها درباً حداثياً لشعر قادم يمتطي حصانَه الموهوبون فيقولون كان قائد العربة شارل بودلير ونحن ركابها السائحون في رياض الشعر.. أنت هنا تتمتع بهواء صحرائكم الرائق ، وأنا سئمتُ باريس ؟
كلماته الأخيرة جعلتني اقلب الكتاب الذي بيدي لأقرأ عنوانه ، وأقول مندهشاً
سأم باريس ؟ .هذا عنوان كتابك الذي بيدي .
اعرف ذلك.. ولهذا تركتها خلفي بكل شوارعها الشاحبة ، وحواريها التي تجاهد في التخلي عن رتابتها ، ونهرها الذي أعشقه ماءً وضفافاً وزوارق تلعب على صدره وآتيك أعلمك بموتي قبل أن أُتمم قصائدَ هذا الذي بين يديك.
في قمّةِ يأسِه كان ، وفي خضمِّ الأسى. طافت في رأسي سنواتُ تشردِه وامتعاضه من حياةٍ قست عليه كثيراً أو هو لم يُحسن عيشها ، أو هو الإبداع الراهص في جوفه لم يُتح له العيشَ الرغيد والذي لا يريده مخلوقاً عادياً بل خلاّقاً يزلزل الواقع ويترك حَفراً في الذاكرات الإنسانية.
قلت إذا كان تنبؤك في محله سأحضرُ جنازتَك وإنْ لم احضر لحظات احتضارك
حضرتُ
تلك الساعة عصفت بهياجِ أمطارِها ، والسماءُ أبت إلا أن تهدر قاذفةً بحمولةِ غيومِها من المطر. ونحن نتَّجه إلى المقبرة ، أفراداً معدودين. أتخيله مغمض العينين يحلم بعالمٍ يخلو من السأم ، ويتخلّى عن السوداوية.. أتخيَّلُه يدوِّن على صفحاتِ الفضاء المفتوح شلالاتٍ هادرةً من قصائدَ نثريةٍ لا تمُت إلى المألوف بشيء ؛ فيقفز إلى ساحةِ شقائي جرحُ عزاء ، وألمٌ راح يصرخُ في داخلي قولاً لنيتشه لا أدري أين قرأته ، يقول النوابغُ يموتون شبّاناً لأنهم طيبون أكثر مما تستطيع الأرضُ تحمله. . فأضعُ على شاهدةِ قبرِه باقةً من أعجابٍ ، وقصاصةَ ورق كتبتُ فيها
نَم أيها الحي البهي ، وسطَ الأحياءِ الأموات.
2 تزفيتـاييـفا
كانت سويسرا باردة آنذاك.. لكن عيادة فال مون على النقيض ؛ تزخر بدفءٍ متنامٍ يخلقه صدرٌ لمريض مسجى يزفر أنفاساً حرّى فتزرع على وجه الممرضة المنتصبة عند سريره مسحةَ حزن ، ويسري في كفِّها التي تتسلل إلى ما تحت الوسادة تيارُ رعشة. ذلك أن العين تتابع لحظات همود الجسد ، والأنامل تنتظر قراءة الأسطر لمجموعة الرسائل التي كانت أثمن ما يعتز بها لافظ الأنفاس الأخيرة.
فضولها يدفعها إلى رغبة اكتشاف الفحوى ، واطِّلاعها على مسببات اهتمام المريض بها..
في انهماكِ إعادةِ قراءتِه للرسائل كانت تقتربُ منه ، تسألُه عن حاجةٍ يطلبُها تلبيةً من ذاتها لمعاونةِ مريضٍ يحسبُ الأيامَ لرحيلِه القريب ، فيردُّ بالشكر رفضاً ؛ مع نظرةٍ يسكبُها استغراباً لعينها الزائغة وهيَ تحاول اقتناص كلمة أو بضع كلمات ترسيها على المضمون..
أدنو منها ؛ وافوه هامساً في مسمعها
لا تُقلقي المُعنّى .. لا تزيديه ألماً
لم تستغرب نصيحتي ؛ ولا أثارها تدخلي.. فقط استدارت لتأخذ بيدي إلى النافذة التي أظهرت لي حديقةً بيضاء ؛ أشجارُها يكسوها صقيعٌ يستحيل ماءً يقطُر ، وبالتفاتةٍ سريعةٍ ولّدتها حركةُ أن لا يكون قد أبصرها تسحبني مع انه بعيدٌ عن الوعي ، قريبٌ من الغياب
يا سيدي.. انه ريلكه راينر ماريا ريلكه . يصرف جلَّ الليل يقرأ في هاتيك الرسائل ، وفي المنام يحلُم بامرأةٍ يردِّدُ اسمَها عالياً ، كأنّه يناجيها ، أو كأنها تستعطفُه اللقاء.
تقصدين ماريا تزفيتاييفا
بفم يتسع اندهاشاً تسألني
أتعرفُها
عشرة أعوام كان تُمنّي النفس بلقائه.. وأربعةُ أشهرٍ اختزلا الزمن ليتراسلا بالبوح اللهيف. هما على موعدٍ في الأيام القادمة
ماذا ؟ .. ولكنه سيموت الليلةَ ، يا سيدي ؟
نعم نعم .. سيموت ؛ وستبكيه تزفيتاييفا كثيراً
ابتعدَ البياضُ عندما تململَ المحتضر ، واستدار رأسينا عن النافذة لنتوجه إلى السرير.. رأيناه يفتح عينيه ويبتسم. يسحبُ بنظرةٍ منفتحةٍ وجهَ الممرضةِ ويدع لفمِه البوح
خذي مجموعة الرسائل التي تحت الوسادة ، واقرئيها
بهتت لطلبه ، وقبل أن تُقدِّم اعتذاراً على فضولٍ حدست أنه اكتشفه فاه
لا عليكِ وبعدما تقرئينها سلّميها إلى هذا العربي. فهو أديب يدركُ أهميتَها.
ريلكه لا تقل ذلك.. ما أنا سوى عابر طريق أثارني فضول ممرضتك في معرفةِ أسرارك فتوقفت ارجوها أنْ لا تغيظك
لا عليكَ .. الموضوع الذي يبدو سرّاً اليوم يغدو خبراً جهراً غداً..
كدتُ أُصدِقُه الكلام ، وأضيف أنَّ تزفيتاييفا ستتولى استحالته خبراً فتكشف الرسائل المتبادلة بينهما ولو بعد حين عندما راحت أطرافُه تبرد وجسدُه يهمد. يغمض العينين فتهجم على مملكة وجهه صفرةٌ جامدة ، ويشيعُ بياضٌ يمتص شحوب الغيوم لينثره على التقاسيم التي هتفت أنَّ المختلس الجاني مرَّ من هنا ، وأن آخر ما قاله المحتضر
تزفيتاييفا لقد سبقتُكِ لكي أُنظِّم الوضع قبل وصولِك
ـ
ارتأينا قلب الكلام الذي جاء على لسان تزفيتاييفا متوجهةً به إلى ريلكه بعد موته لقد سبقتني لكي تنظم الوضع قبل وصولي. .
3 أخمـاتوفا
كئيبةً بدت ردهة رقم 2 في مستشفى البلشفي ، تماماً مثل كآبةِ الجرحى الذين تبعثروا على أفرشة البياض ، والفتاة الثلاثينية التي انتصبت بقامةٍ طويلةٍ ونحيلة وشعرٍ أصفر منسدل على كتفين منحسرين أخرجت حزمة أوراق من حقيبة يدٍ جلدية صقيلة ٍمُعلقةٍ على كتفها الأيسر وراحت تمسح الوجوه الشاحبة وسط إشاعة نافذة لمطهر النفتالين يحتل فضاء الردهة المستطيلة وينام على الجدران السمائية أو يتدثر بالأغطية والشراشف التي تجاهد بالاحتفاظ بلونِها الثلجي.
الجريح الموحل البشرة ، المبتور الذراع وبوضع اتكاء على مسند سريره همس يطلعني
يا لها من شاعرة كم استمتعنا بما قرأت. إنها أخماتوفا.
أتقصد آنا أخماتوفا ؟ الشاعرة التي تقول
…
نعم هيَ هيَ ..
عرفتها.. الشاعرة الغارقة في بحر اللوعة. فاقدة الزوج الذي أُعدِم والأبن السجين الذي ظلت تنتظره عشرين عاماً.. هي التي كانت تردد من على غيوم الكمد
انتظرُك..
الانتظارُ قاسٍ
أطفأتُ النور ، وفتحتُ الباب
هي القائلة وسط هجير الوحشة
أمام الكثير من الشقاء تنحني الجبال
النهر الكبير يوقف مجراه
لكن مزاليج السجون صلبة
ووراءها هناك جحور الزنزانة
والعذاب الحاد للموت .
أنت تعرفُها إذاً .. قبل يومين من إحضارك كانت هنا.. قرأت أشعاراً استحالت بلسماً لجراحاتنا.
رمقني بعينين فاحصتين. ثم بدهشةٍ شرع يسألني
في أية جبهةٍ سقطت ؟.. لا تبدو سوفيتياً ؟
استفاقت جِراحي وتعرَّت.. كدتُ أقول له أني عراقي عندما دوّى في مسمعي الانفجار الدامي الذي ارتكبه قبل يومين انتحاري بليد أوهموه بجنَّةٍ عرضُها مهول وطولها لا يُحد فتسبب بمقتل متسوقي خضار وتناثر أجساد أطفال روضة صادف مرور السيارة التي تقلهم تلك اللحظة وتركتني أضم ثلاثين شظية في جسدي وأربع أصابع مبتورة من قدمي.
وبغفلة من سيطرتي صرخت جراحي المستفيقة
في جبهةِ الذبح المقيت والسواطير الهمجية. في أرضٍ أهلُها لا يمتّون إليها.
إجابتي جعلت أخماتوفا ترفع بصرها من فم الردهة حيث تنتصبُ إلى نهايتها ، مكان سريري. ترفع بصرها لتبعث مواساة وكمد ، ومن ثم ابتسامة هدفت منها تضئيل حدة الألم واستهجان لون الدم الذي يشترك في إهداره القتلة السفاحون في كل مكان وعلى مرِّ العصور.
حصد جاري الجريح الابتسامةَ ، لكنه غرق في رمال الإبهام.
هممتُ بمخاطبتها ، قائلاً
يا آنا.. يا حاضنة الصمت الطويل ، الطويل ، وحاملة القلب الغارق في بحيرة الشعر. مَن أودع فيكِ غاباتِ الليل كي تكوني مبعثاً لعشقِنا المتباهي بما تقولين ، وكيف هو البوحُ في حلبةِ الصبر ؟
هممتُ بترديد نصِّها من كفّي يأكل عندما سبقتني في النظر إلى حزمة الأوراق التي بيدها ، وراحت تردد وسط تقهقر الألم في ثنايا الجروح ، وانزياح الهم من دروب القلوب
كم من الأحجار رُميت عليَّ
كثيرة حدّ أنّي ما عُدتُ أخافها.
كثيرة حدّ أنّ حفرتي أصبحت بُرجا متينا،
شاهقاً بين أبراجٍ شاهقة.
أشكر الرماةَ البنّائين
عساهم جنَّبوني الهمومَ والأحزان
فمن هنا سوف أرى شروقَ الشمسِ قبل سواي.
/8/2012 Issue 4291 – Date 30 Azzaman International Newspape
جريدة الزمان الدولية العدد 4291 التاريخ 30»8»2012
AZP09