كانت الهزيمة نصراً مؤجلاً .. – طالب سعدون

نبض القلم

كانت الهزيمة نصراً مؤجلاً .. – طالب سعدون

خطر في بالي ، وأنا  أفكر  بكتابة مقال عن حرب اكتوبر  التي تمر ذكراها الخامسة والاربعون هذه الايام قول مأثور أجهل قائله   لكن أحفظ نصه : أن (الهزيمة  للشجعان فقط يا صديقي … الجبناء لا يخوضون المعارك أصلا)..

فهذا الانتصار  في اكتوبر ولد من ألم ومذاق هزيمة حزيران المر وهو الذي جعل هذه  الهزيمة تكون (نصرا مؤجلا)، سيتحقق لا محالة في يوم  لن يكون بعيدا، وإن تمكن  العدو  من تحقيق موطىء قدم  له على الارض ، جعله يصاب  بالغرور وطيش  القوة  القاتل ، فتصور أنها ستكون حالة أبدية ، ونهاية  العرب ، وفرض حالة الاستسلام عليهم ..وجعله هذا الغرور يفقد توازنه، ويخطيء في حساباته ، ويذهب به الخيال الى تصور إستحالة تغير الحال على الارض ، إلا بقوة خارقة تفوق قوة العرب ، فرادى ومجتمعين ، بعد أن أقام  من الاستحكامات ، ما تعجز أعتى قوة  على إختراقها، مهما إمتلكت من العدة والعدد ..

ولك أن تتصور الصعوبة البالغة  يومذاك عندما إدعت (اسرائيل) أن عبور خط بارليف مستحيل، ويحتاج الى قنبلة نووية لا يمتلكها العرب … لكن  غاب عن  تصورها أنهم  يمتلكون ما هو أقوى من  النووي، وكل الاسلحة الفتاكة الاخرى ، وهو القنبلة البشرية ، فكانت  أمضى بأسا، وقهرت المستحيل، وحطمت كل الحصون والاستحكامات ..

 وللتاريخ … كانت الوقائع والاحداث  تشير الى أن الرئيس  الراحل جمال عبد الناصر لم يستكن للهزيمة ، أو يؤجل معركة الحسم طويلا ، بل أعد مستلزمات  النصر والعبور بعد الهزيمة مباشرة … و جاء القرار يوم  11 حزيران 1967  عندما فاتح الفريق  الاول محمد فوزي ، فيما لوكان لديه الاستعداد ليستلم  قيادة القوات المسلحة المصرية ، وكان رده الموافقة  بلا تردد .. وشرع فورا باعادة بناء الجيش وتحديثه  وتسليحه ، وبدأت المهمة من  عملية بناء الانسان  والارتقاء بمستوى المقاتل ، وتهيئة الشعب والجيش والدولة ومسرح العمليات لمعركة التحرير والتفكير باختراق تلك الاستحكامات على صعوبتها البالغة ، و عبور القناة (باستخدام  مدافع المياه من خلال مضخات قوية استوردتها مصر لهذا الغرض أواخر عام 1969  وتمكنت من إختراق خط بارليف بفعل قوة المياه، وقد سبق أن أستخدمت هذه الفكرة في السد العالي ، وقد نالت  الفكرة اعجاب الرئيس عبد الناصر وطلب دراستها وتجربتها) ..

كما حقق عبد الناصر ما هو أمضى من كل الاسلحة  الاعتيادية والاستراتيجية ، وهو الوحدة الوطنية ، والتفاف الشعب خلفه، وهو بمعنويات عالية، وأكثر اصرارا على رفض الهزيمة، وبذل أغلى التضحيات في سبيل النصر ، باستعادة الارض المحتلة باسرع ما يمكن … وتجاوز آثار النكسة وكل تداعياتها المادية والمعنوية ..

ويمكن أن تعرف  بجلاء مستوى الوطنية العالي عند  الشعب  وتحمله أعباء التضحيات من أجل استعادة الارض  المحتلة ، بكل فئاته وشرائحه من حالات  كثيرة سجلها المراقبون يومذاك منها أن مراكز الشرطة لم تسجل جريمة واحدة خلال أيام الحرب، بما في ذلك جرائم السرقة الاعتيادية …

وحالة أخرى وهي الالتفاف  الكبير حول قيادة عبد الناصر… فاذا كانت النكسة (سببا في خروج أول تظاهرة ضد الرئيس عبد الناصر التي أعلن مسؤوليته عنها، لأنه الشخص الاول في سلم القيادة ، فهي أيضا كانت وراء خروج التظاهرات التي ترفض تنحيته وتصر على التمسك  بقيادته للبلاد)…

وكان المتظاهرون في الحالتين ، يجسدون بموقفهم الرافض والمؤيد، الحلم العربي الذي يمثله عبد الناصر، وقد  تحقق بالنصر،، ورفض الاستسلام للمحتل وبناء الوطن  وإعلاء شأنه، والدفاع عن مصالح الامة..

ويعد الخبراء الاستراتيجيون والعسكريون ، والمعاهد المتخصصة أن  حرب الاستزاف التي دارت بين القوات المصرية شرق قناة السويس والقوات الاسرائيلية المحتلة لمنطقة سيناء بانها كانت التمهيد لهذا الانتصار الكبير، وقد أكسبت القوات المسلحة خبرة عسكرية كبيرة، وأعادت تنظيمها على أسس علمية متطورة ، وأدت بالتالي الى تكبيد العدو  خسائر كبيرة وتحطيم صورة المقاتل الاسرائيلي، ناهيك عن نتائجها المؤثرة على الاسرائيليين المدنيين، ومستوى التعبئة ، والاقتصاد الاسرائيلي، وأنهت حالة التفوق  الجوي الاسرائيلي .. وكانت محصلتها النهائية إجبار (اسرائيل) على تغيير خططها من الهجوم الى الدفاع ، وبذلك انهت اسطورة الجيش الذي لا يقهر، بعد ان كانت  اسرائيل تعد حرب حزيران بانها ستكون أخر الحروب مع العرب، وبذلك فقدت مصداقيتها لدى الاسرائيليين ..

 كانت حرب الاستنزاف – من أهم محطاتها معركة راس العش   وعملية إيلات  – أول  معركة تخسرها إسرائيل مما اضطرها الى الاعتراف على لسان (عزرا وايزمان) بخسارتها عندما قال (إن حرب الاستنزاف مكنت المصريين من اكتساب حريتهم على مدى ثلاث سنوات للتحضير لحرب اكتوبر عام 1973 وعلى ذلك فانه سيكون من الغباء أن نزعم أننا كسبنا حرب الاستنزاف) …وهذا الاعتراف  يدحض من كان يرى في حرب الاستنزاف عكس ذلك بقصد  النيل من عبد الناصر …

إن استذكار مثل هذه المناسبة ضروري لكي  يتحقق التواصل بين الاجيال ، بعد أن أصبح بعضها  بعيدا زمنيا  عن تلك المرحلة،  وضرورة قراءة  هذا التاريخ، و معرفة رموزه ، والاستفادة من دروسه، لكي يتعرف هذا الجيل العربي، الذي يعيش حالة من الاحباط  على المحطات المشرقة في تاريخه،  ومنها  الانتصار العظيم  في اكتوبر الذي أذهل العالم ، وكيف تم التغلب على  تلك الظروف القاسية .. وكيف تمكنت الامة من تجاوز  الهزيمة ، وعبور حالة الاخفاق ، وتكون  نقطة انطلاق جديدة  نحو النصر بقيادة قوية ، وبارادة صلبة ، وتضامن كل شرائح الشعب  وتوفر ارادة القتال عند  القوات المسلحة والشعب ..

ويقينا أن الشعب الذي انتصر مرة ، وحقق المعجزات  قادر على أن يحققها مرات أخرى، لانه نفس  ذلك الشعب الذي ذاق علقم  الهزيمة، وطعم  إلانتصار ، وإستفاد من الدروس الغنية ، ومن بينها ان الانتصار لا يتحقق بالسلاح وحده وانما بالانسان بكل عمقه الحضاري وضميره الوطني واعداده السليم، والمبدأ الذي رفعه عبد الناصر (إن ما أخذ بالقوة لا يسترد الا بالقوة)، وضرورة تعزيز التضامن العربي الذي كان له دوره البارز في هذا الانتصار، سواء بالمشاركة  الفعلية ، أوالدعم والتأييد بصور مختلفة…..

فتجارب الشعوب الحية تؤكد هذه القاعدة الانسانية وهي أن ما وصلت اليه  من قوة وتقدم  وحضارة اليوم  في كل الميادين ما كان له أن يتحقق  لو لم  تمر  بهزيمة  ماحقة قبل الانتصار..

ولذلك يعد (النصر والهزيمة) متلازمتين  عند الشعوب الحية ، وهما سر تقدمها وبناء حضاراتها … وعلامة حيويتها أنها لا تسكتين او تخضع للهزيمة ، بل تعد الانتصار حالة متحققة بعد   الاستفادة من دروس الهزيمة ، لكي  تنهض وتمارس دورها وبناء نفسها وتحقيق التطور المنشود..

وأمامنا الكثير من  التجارب  العالمية  التي  لم تنعم بطعم النصر الحلو إلا بعد أن ذاقت علقم الهزيمة …

والعرب ليسوا استثناء بالتأكيد …

 { { { {

كلام مفيد :

كلمات لقائلها … الدموع ليست قطرات ، بل هي كلمات ،  لكن من الصعب جدا أن تجد شخصا يقرأ ويفهم هذه الكلمات …