قصة قصيرة

قصة قصيرة
أقبّل جبين أمي
في يوم (2012/2/2):
اليوم وصلت نتيجة التحاليل من المستشفى .. اليوم تأكدت بأن مخاوفي التي لطالما راودتني هي حقيقية.
كانت نتيجة التحاليل تفيد بأنني مصابة بسرطان في المخ ..وانا الان مرحلة الاخيرة.
قالوا لي انني سأعيش لمدة وجيزة..كافية فقط لاودع اصدقائي ومعارفي ولكن..عند عودتي الى المنزل لم يسألني احد سؤال كنت انتظره ولاول مرة في حياتي.
ماذا بكِ ؟
فوجهي كان شاحبا وملامح الصدمة كانت واضحه علية .. وبرغم ذلك لم يلاحظ احد..بالكاد تمالكت نفسي واتجهت الى ذلك السلم الذي يقود الى غرفتي في العلية .
هناك جلست .. واخذت احدق بدهشة ..نظرت لكل الاشياء من حولي الى العاب طفولتي المحشوة بالبراءة والحب..الى صوري وصور افراد اسرتي التي تزين الجدران .. الى اغراضي كلها الى جواهري الثمينة الغالية .. الى شاشة الحاسوب التي اعتدت على قضاء الساعات وانا احدق فيها..اعلق هنا وهناك وكانني امتلك العالم كله.
بدأت دموعي بالتجمع في اطراف عيني عندما ادركت بأنني سأفقد كل تلك الاشياء ولن يبقى لي الا القبر
ومن ثم فكرت بما هو اهم..اسرتي المحبة التي ساتركها كجذع مكسور من بعدي لانني متأكدة من انهم يحبوني وبرحيلي لم اعد قادرة على التحمل فأنفجرت بالبكاء ..بكيت كما لم ابكي في حياتي
ايام معدودة تفصلني عن موتي المحتم وبرغم انني لست من النوع الذي يحب الحياة كثيرا,الا انني لم اتخيل مطلقا بأن موتي سيكون بهذه الطريقة ..وانا في ريعان شبابي.
وفجأة سمعت صوت اختي وهي مقبلة الى غرفتي ..فمسحت دموعي بسرعة وتضاهرت بأنني اشعر بالحر وتسبب العرق بمنظر وجهي الذي تعجبت هي عندما رأته ولكن ما لبثت ان ضحكت عندما سمعت تبريري.
جلست بقربي واخذت تتحدث معي كعادتها عن كل شيء لاتولى انا الرد عليها وبتعليقات مضحكة.
وبينما هي تتكلم كنت انا اراقبها بصمت ولاول مرة في حياتي..فمنذ ان تعلمت الكلام وانا اكثر منه لدرجة اننا كلما جلسنا معا انا وهي حدث خلاف بيننا .. من منا تتحدث اولا .والان انا اجلس بصمت واراقبها وهي تتحدث بلهفة.
هي لم تلاحظ سكوتي وشحوب وجهي ولربما هذا الامر اسعدني قليلا..انهت كلامها فجأة عندما رن الهاتف فذهبت لترد وتركتني وانا لا زلت صامتة.
بالحقيقة كنت مستغربة لانها لم تلاحظ اي شيء ولا حتى سكوتي ..وعلى اي حال فقد مر ذلك اليوم من دون ان يلاحظ اي احد على الاطلاق.
وفي صباح يوم 2012/2/3 نهضت مبكرا عند الساعة الخامسة (حقيقة انا لم انم مطلقا ) وصليت صلاة الصبح كعادتي كنت اريد ان ادعي من الله ان يشفيني ولكن ..عند سجودي الذي دام لمدة عشرة دقائق او اكثر لم ادري ماذا اقول فأكتفيت بالبكاء الذي اشعرني بالراحة.
وبعد ساعتين تقريبا جلس بقية افراد العائلة وتناولنا طعام الافطار وذهب كل منهم الى عمله بينما اخترت انا ان ابقى في المنزل بعد ان اتصلت بمدير العمل واخبرته برغبتي في اخذ اجازة اليوم ووافق هو على ذلك.
في بدايه النهار لم اعرف ماذا افعل غير التحديق في ذلك الحائط المزين بالصور الاسرية التي لم ارها منذ مدة بالرغم انها معروضة امامي..ربما لانني كنت مشغولة كثيرا في الاونة الاخيرة بسبب عملي.
وعلى كل حال فلقد مرت الساعات وانا افكر بطريقة لاخبر عائلتي بحقيقة مرضي الى ان حانت الساعة التي من المفترض ان يصلوا فيها الى المنزل وبدأ جرس الباب يدق معلنا وصولهم واحدا تلو الاخر.
وكأسرة سعيدة جلسنا معا وتناولنا طعام الغداء وثم العشاء ونحن نتبادل اطراف الحديث ..ومما ادهشني فعلا في ذلك اليوم هو نسياني لواقع المرض واندماجي في الكلام وضحكاتي التي انستني كل شيء.
وفي الليل عدت لاجلس وحدي في غرفتي وافكر ..لم لم اخبرهم؟
وبقيت اتسائل الى ان غلبني النعاس.. وهكذا مرت الاشهر الاخيرة ..ففي كل مرة كنت اقرر فيها بان ابوح لاحدهم تمنعني احدى ضحكاتهم لانني لا اريد ان افارقها في ايامي الاخيرة الى ان ..ذهبت في يوم (2012/5/16) الى المشفى بعد ان راودني الم قاتل طوال الليل وبالكاد منعت نفسي من الصراخ فالتحمل هو ما عودني عليه هذا المرض.
قيل لي بأنني لم اعد امتلك سوى ايام معدودة..
عدت الى المنزل ..الى موطن السعاده وانا محمله بهموم الدنيا..كيف سأخبرهم ؟ كيف؟؟
وما ان وصلت الى المنزل..ما ان فتحت لي امي الباب حتى ابتسمت وزال عني كل ذلك الهم وعانقتها..استغربت هي فكما تعرفون قلب الام يشعر دائما بألم الابناء
ولكن..انا وقدرتي العجيبة على الاقناع وابتسامتي المزيفه تمكنا من اقناعها بأن كل شيء على ما يرام .. وقمت ايضا باصدار التبريرات المضحكة والتعليقات التي ازالت عنها الشك.
في ذلك اليوم تصرفت بحيويه كعادتي وبشخصيتي المرحة التي اعتدتها قبل ان اكتشف مرضي، وما ان حل المساء حتى اختفيت هناك انا في غرفتي احضر الكاميرا لتصوير فيديو القي فيه تحية الوداع :
انا اليوم ادرك بأن ايامي معدودة وبأن ساعتي قد حانت..حقيقة ادركت هذا الامر منذ ثلاثة اشهر ..سامحوني لانني لم اخبركم فحقيقة انا منعت نفسي لانني اردت ان استمتع بأيامي الاخيرة وانا اعيش بسعادة مع اسرتي المحبة. انا اسفة..اسفة جدا لانني خذلتكم وسببت لكم كل هذا الحزن، كان علي ان اصارع المرض لاجلكم..ان اجرب كل انواع الادوية التي نصحوني بها ولكن..جزء مني اتعبته زحمة الحياة ورضى باي منحى قد تأخذه الاقدار.
امي..انتي وبقيه افراد العائلة..انا متأكدة من انك تذرفين الدموع الان بعد ان رحلت انا..لابد انني مت قبل اسبوع او كثر وقبل ان تبحثوا بين اشيائي وتعثروا على هذا القرص ..ارجوك لا تحزني ان كنت متأكدة من انني ابنه صالحه..فان كنت كذلك فأنا الان في نعيم الاخرة..ولن لم اكن فأجتهدي لي بالبكاء.
ارجوكِ..ارجوكم..لا تحزنوا..انا لم اتسبب بحزنكم ولو لمرة واحدة في حياتي..فلا تجعلوها في مماتي.. دعوني ارتاح في قبري.. يوما ما سأكون في حلم احد منكم ارتدي الابيض..حينها سأخبركم واؤكد لكم بأنني بخير وفي مكان جيد.
قبري سيكون مضيءً كضوء القمر..متأكدة .. وبعدها اكملت حديثي عن ذكرياتنا الجميلة في تلك الايام السعيدة التي قضيناها معا.
وختمت حديثي بـ : وداعا..احبكم كثيرا تأكدوا من انني سأكون دوما بجواركم..ولكن لن اشعركم بذلك فأنا اعلم بخوف اخواتي من هكذا اشياء.
..وبعد ان انهيت جملتي الاخيرة انتابني سكوت شل لساني..لم اعرف ماذا اقول ..اخذت احدق في عدسة الكاميرا وانا اتخيل بأنني على وشك ان افارق الحياة واصبح في عداد الموتى..وبعد دقائق تذكرت بأن الكاميرا لازالت مستمرة بالتصوير بعد ان نسيت ذلك واخذت افكر بعمق فاسرعت واطفئتها..لاحقا في ذلك النهار قمت بطباعة ذلك الفيديو على قرص صلب وخبأته بين اشيائي.
وبعد مرور اسبوع ..ليلة الجمعة في الساعة الثالثة وخمس دقائق شعرت بألم قاتل ..لم اتمالك نفسي وبدأت بالصراخ بأعلى صوتي.. وما هي الا لحظات حتى جاء افراد العائلة واجتمعوا من حولي وهم بحاله هستيرية. يريدون ان يعرفوا ما بي بينما فكر ابي بحملي واخذي الى المستشفى في الحال وكانت امي تبكي وتصرخ ماذا بكِ ؟ ماذا بكِ ؟ وكذلك حال البقية لم استطع الا ان اقول..القرص ..القرص…بـ..القرص… وفارقت الحياة…
شعرت ببرد شديد ومن ثم اصبح كل شي مظلما من حولي..وما هي الا لحظات حتى انفصلت روحي عن جسدي واصبحت الان اقف ورائهم وانا اشاهدهم يبكون ويصرخون غير مدركين لما يحصل
اقف ورائهم وانا انظر اليهم بنظرات تشبه تلك النظرات التي كنت انظر بها عندما كنت طفله..وبالتحديد عندما لا ادرك ما الذي يجري من حولي.
وبعد لحظات رأيت نورا من بعيد..جاءت مجموعة من المخلوقات الغريبة ..امسك بعضهم بيدي وبدأوا يجروني بعيدا بينما انا اصارعهم واصرخ:
لا…لا….لا اريد ان اموت…اعيدوني…..امي…لا….
كانت هذه نهاية قصتي ..اختفيت في الظلام وتركتهم يصرخون ويبكون من بعدي..
بعد مرور 390 يوم اي سنة وبضعة ايام في اليوم المصادف الخميس قبل اذان المغرب بعشر ثواني.. انا اراهم..امي تجلس وتشاهد التلفاز بينما ابي واخي يتناقشون كعادتهم..ااااه.. هم لن يتوقفوا ابدا عن هذه العادة وستكون النهاية هي الزعل لكلا الطرفين ..تنزعج امي من حديثهم وتقرر ان تنظم لاخواتي في المطبخ هم يعدون طعام العشاء ويتبادلون اطراف الحديث ..وبينما هم هكذا..يمر طيفي بجوار امي التي بدأت تتذكرني الان قليلا ونسمة منعشة تهب لتنسيها حزنها
انها انا ..اصبحت الان قريبة كفاية لاقبل جبينها وارحل…
داليا عبد الرحمن القيسي – بغداد
/6/2012 Issue 4224 – Date 12 Azzaman International Newspape
جريدة الزمان الدولية العدد 4224 التاريخ 12»6»2012
AZPPPL

مشاركة