غري غيري .. – طالب سعدون

نبض القلم

غري غيري ..

 غالبا ما ينصرف الذهن عند الحديث عن السلطة الى الدنيا ، وكيف يربط بينهما الزاهدون بهما لصفة الزوال ، وعدم الثبات التي تجمعهما ، ولأشتراكهما في صفة الغرور الذي يتملك قلب من يهيم حبا بهما.. وتلك حقيقة لا جدال فيها ..

والزهد بهما شي محمود ، إلا ما كان فيه رضا لله ، والضمير ، والمصلحة العامة ، وذلك لن يتحقق الا بالسيطرة على النفس ، وضبطها من أن تنخدع  بمظاهرهما البراقة ، والسقوط في إغراءاتهما ، والانحراف عن الاهداف الحقيقية ، وتتلخص في إعمار الارض ، وتحقيق العدالة  لخدمة الانسان ، والاهتمام  بشؤون حياته المختلفة  ..

وهنا يتبادر الى الذهن سؤال مفاده .. كيف يكون  المنصب في خدمة الدولة والمجتمع وتطورهما نحو الافضل ، دون أن يقع من يشغله في حب السلطة ، أو يستخدمه لمنافع ذاتية مادية ، أو إجتماعية  أو إعتبارية ؟.

هناك قول مشهور  للامام علي بن أبي طالب (ع)  في الزهد بالدنيا  يمكن ان تجد فيه البداية التي تنطلق منها لمعرفة الجواب … (يا ابن آدم كن في الدنيا غريبا أو كعابر سبيل ولا تكثرث بما فيها من زينة فانية) … (اليك عني يا دنيا ، غري غيري ، اليّ تعرضت أم اليّ تشوقت ؟؟ هيهات هيهات فاني قد طلقتك ثلاثا لا رجعة فيك ، فعمرك قصير،  وخطرك كبير،  وعيشك حقير..) ..

فمن كان حب الدنيا يشغل قلبه ، سيكون صيدا سهلا لها ، ويمكن أن تغريه السلطة بسهولة ، وتلفه في شرنقتها ، ولا يجد فكاكا منها ، ويكون سهل السقوط في فتنة المال ، ومد اليد الى الحرام ، وإرتكاب المعاصي ، وعدم تطبيق العدالة مع الجميع ، والخروج عن طاعة الله فيها ، وتعليمات القوانين ، أو تكييفها  لاهدافه الخاصة ، والتحايل عليها ،  دون الالتفات  الى مخاطر ذلك ، وعواقبها  عليه ، وما تلحقه من ضرر فادح بالبلاد والعباد ..

إن مثل هذا الشخص إذا ما تسلم مسؤولية سينحرف بالمنصب عن هدفه الوطني الكبير  في تحقيق رؤية  سياسية تخدم الوطن والمواطن ، ويجعل منه مشروعا خاصا، أو سلعة تباع وتشترى  في المزاد ، ويساعد في إستشراء الفساد ، كما يخلق حالة من الاحباط لدى المواطن ، ويضعف هيبة الدولة والتشكيك بها  ، في وقت يفترض أن تكون هي سنده ، وملاذه وحاميه والأمينة على ماله ومصالحه ، وإستثمار الاموال في مجالها الطبيعي بتقدم ونهوض البلاد وخدمة العباد ، وليس أن تذهب الى جيوب الفاسدين ، وفي غير مجالها الطبيعي  ..

إن المنصب ليس تشريفا ، أو مكافأة  تمنح لتقدير موقف شخص ما ، أو لنضاله ، او لحسابات ذاتية ، كما هو ليس (حصة) ، أو (مكافأة ديمقراطية)، إذا جاز التعبير بفعل الاصوات ، فهو (في هذه الحالة  يكون لخدمة الشخص الذي يشغله ، أو الحزب الذي جاء به ، وليس لخدمة الشعب والدولة) ..

 المنصب  هو (أمانة ومسؤولية  أمام الله)، وتسليم هذه الأمانة (لمن لا يستحقها خيانة في الدنيا ، وخزي وندامة يوم القيامة إلا من أخذها بحقها ، وأدى الذي عليه فيها) … كما جاء في حديث للرسول الكريم محمد (ص)  (نعم الشيء الامارة لمن أخذها بحقها وحلها ، وبئس الشيء لمن أخذها بعير حقها فتكون عليه حسرة يوم القيامة) ..

وتبرز أهمية الاختيار للمنصب والتشدد في المواصفات المطلوبة في الظروف الاستثنائية والازمات التي تمر بها البلاد ، لكي يخرج بها من تلك الظروف الصعبة ، وإختيار ملك مصر ليوسف (ع) ليكون (وزيرا للتموين) في ظروف القحط المعروفة التي مرت بها بلاده  مثال على ذلك .. ويعطي  نموذجا على دور المنصب  في الظروف الاستثنائية ، وكيف  يخرج بالبلاد من محنتها ، مثلما إستطاع  (يوسف) بنجاح أن يمكن  مصر من أن تعبر  السنين العجاف ، ويضمن العدالة في توزيع القمح على المواطنين ، وهو المادة الاساسية لحياتهم  يومذاك ..

والاصلاح يبدأ من هنا .. من الدقة في الاختيار وفي  تقديم الانموذج  في الكفاءة .. كفاءة الضمير (النزاهة) والكفاءة المهنية ، فهما متلازمتان ، ولن  يتحقق الاصلاح  والهدف  المطلوب منه إن لم  تكن الكفاءة هي المعيار في الاختيار  ، لكي تأخذ حقها في المناصب والوظائف ..

إن  نجـــــاح الاصـــلاح يحتاج الى مســـؤول بدرجة (قدوة) في الضمير والكفاءة والنزاهة والامانة والاخــلاص والتضــحية ونكران الذات ، وليـــــس في الامتــــيازات …

فكم هو المنصب خطير ، وأمانة ثقيلة  في عهدة من يسند اليه ، لانه يتعلق بمستقبل وطن ، وحياة مواطن  ..

وكم هي مسؤولية أصحاب القرار في الاختيار جسيمة  أيضا امام الله والشعب .. في التدقيق في  الحصانة المبدئية والكفاءة المهنية ،  خاصة في الظروف  الصعبة التي تتطلب أن يكون على رأس المؤسسة  شخص بمواصفات (يوسف) في (الامانة) على (خزائن) البلاد وثرواتها ، وتوفير قوت الشعب في الظروف العصيبة ، وزهد (علي) ، وأخلاقه في الحصانة من المغريات ، والامانة ، ونظافة اليد وسلامة الضمير ، والاقتداء  بسلوك (علي) وتعامله مع الرعية ، وحلمه وعلمه وشجاعته وكرمه ورؤيته الى الدنيا والسلطة، لكي لا يغره المنصب ، ويأخذه الطمع ، وينسى حساب الأخرة  …

السلطة  باختصار شديد .. تتطلب شخصا يمتلك  يمتلك ضميرا يكون بوصلته الهادية  له في عمله ، ويمنحه مناعة قوية من الاصابة بإغراءاتها ، و ينتزع حب الدنيا من قلبه ، ولا يكترث بزينتها الفانية ، لكي  يكون محصنا من فتنة المال،  فلا تمتد يده الى الحرام ، أو يستخدم المنصب في غير مجاله الطبيعي..

وعندها يستحق المنصب بحق واستحقاق…

وهو أمر ليس بالعسير على من يعمل لأخرته ، ولم تكن  الدنيا  أكبر همه..

                                     { { { {

كلام مفيد :

سُئل أحد الصالحين ..

كيف أنت ودينك ؟

قال كالثوب … تمزقه المعاصي وأرقعه بالاستغفار .

سؤال جميل وجواب أجمل ..

اللهم إجعلنا من المستغفرين التوابين الأوابين ، وأعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك ..

طالب سعدون