عشوائية السياسة الأمريكية وإستلاب إرادتها يعقوب أفرام منصور العشوائية تعني التصّرف على غير بصيرة وهدى، والعشوائية في السياسة خصوصًا هي أخطر العشوائيات إطلاقًا لأنها تعني الغباء والخطأ والخطل، واتّباعها يؤدّي إلى عواقب وخيمة على صعيد الدولة التي تتّبعها وشعبها، علاوةً على دُوَل وشعوب أُخرى. وإذا إتّسم السياسي بهذه السمات المعيبة، فماذا بقي من بشريّته بحسب مدلولها الشمولي الرفيع؟! والأسوأ من ذلك، إن كان السياسي، علاوةً على تلك العيوب ـ التي تصب في خانة العشوائية ـ مسيّرًا بإرادات آخرين، فماذا يتبقّى منه بصفته إنسانًا، خليقًا بمضمون كلمة (إنسان)، في العرف العام النبيل؟ هل يبقى من كيانه البشري غير اللحم الصرف والدم والعظم؟! وما قيمة هذه الثلاثة من دون فطنة وحكمة ورشاد وضمير حي في انتهاج السلوكية الحسنة، والقيام بالعمل المُجدي الصائب في ميدانه وحرفته لصالح وطنه وشعبه، ولخير الآخرين والبشرية عمومًا؟ إذ حتى الفرد العادي يُعاب على اتصافه بالعشوائية، فكم بالحري تكون العشوائية أسوأ عاقبةً إذا اتصف بها سياسي ورجل دولة وحاكم ورئيس حزب ومسؤول إداري أو إجتماعي، وكيف إذا إتصفت بها حكومة في دولة على وزن دولة عظمى، كبرى هي الولايات المتحدة الأمريكية ـ بحسب معايير العظمة والقوة الغاشمة الشائعة الآن ـ أمام أنظار وإزاء ضمائر أرقى العقول حصافةً ضمن الشعوب والأجناس قاطبةً؟! فهاهي “إدارة” الدولة العظمى تلوح للمتأمِّل والمتبصِّر والمحلل والمستنتج بكونها سليبة الإرادة وبحافز من هوى أو غرض أو طمع يصب في حوض صالح آخر غير الكيان الأمريكي وشعبه. وهاهي الشعوب والأجناس والأقوام جُلّها يسمعون عنها وعن سياستها وأفعالها وشؤونها الأنباء المزعجة، ويشهدون الأفعال والمقترفات المنكَرة، ويعللون ويفسّرون ما يسمعون ويرون من فضائح وجرائر تفضي إلى التجنّي على ذاتها وسكأنها أولاً، وعلى الشعوب والبشرية عمومًا وعلى الحضارة والمدنية بأسرها. من تلك الأعمال والمقترفات ما سببته من أذى وأضرار وجرائم حرب وعدوان واضطرابات عرقية وتناحرات مذهبية/طائفية/ دينية في أفغانستان/العراق/ الصومال/السودان/ تونس/ليبيا/ سوريا/مصر/ فلسطين/ غزّة/ أقطار أمريكا اللاتينية، وغير ذلك كخلق تنظيمات إرهابية عدّة بالتنسيق مع المخابرات البريطانية والصهيونية، وذلك لتحقيق مخطط إجرامي اُصطُلِح عليه ” خارطة شرق أوسط جديد “، خدمةً لأطماع غربية وصهيونية بالأحرى! فكل هذه الأفعال العدوانية والطغيانية، والسُعارية الدموية التخريبية المتجنية قد أنهكت الميزانية المالية الأمريكية، وستزيدها إنهاكًا، وفد ضرّت ضررًا بليغًا بشعبها، إذ جلبت عليه مقدارًا غير قليل من الكساد الإقتصادي منذ أعوام، وبسببه ستغدو الدولة الأمريكية بعد عقد من الزمن في المرتبة الثانية من دول العالم، تعادل مرتبة بريطانيا وفرنسا حاليا ومنذ أعوام. ومن يعِشْ يرَى! قبل أسبوعين سمعتُ من قتاة فضائية أمريكية مواطنًا أمريكيًا يخاطب جمعًا من مواطنيه، يقول بمرارة وامتعاظ: ” ما عادت أمريكا دولة عظمى”، ولا مشاحة أن المواطن المذكور قد بنى رأيه على عوامل ودلائل عدّة ماثلة له حاليًا، فكيف ستغدو حال أمريكا بعد عشرة أعوام إذن؟ إن الرئيس الأمريكي الحالي (أوباما) قد تسلّم تركة سيئة جدًا من سلفه بوش الكارثي الإحترابي المتصَهيِن المسيّر أيضًا من قبل أناس ” مفسدين في الأرض”، وعُرف عنه باتّباعه سياسة حروب مُعلَنة؛ لكنّ أوباما سلك طريقًا آخَرَ لتحقيق قوة وهيمنة بلاده، وذلك عن طريق إشعال ” حروب سرّيّة “ـ غير مُعلنة ـ وقائمة حاليًا في 120 دولة، وقوام هذه الحروب السرية ” قوات العمليات الخاصّة “؛ في حين أن في أواخر عام 2013 كانت هذه القوات منتشرة في 134 دولة. وقال توم إنجلهارد ( مؤسس مركز أبحاث ذه نيشن) مؤكِّدًا إنه منذ 11 أيلول2001 توسّعَ عمل القوات الأمريكية الخاصة بشكل هائل لا يمكن للمواطن الأمريكي تصوّره، إذ هي منتشرة في نحو 70 بالمئة من دُول العالم، وفي زمن بوش كانت منتشرة في نحو 60 دولة؛ أما في عام 2010 (زمن أوباما)، فكانت منتشرة في 75 دولة. والرقم الحالي (134 دولة) يعني أن حروب أوباما السرية ليست أقل شأنًا من حروب بوش العلنية، لكنها أكثرع قلنةً! وهذا يعني أن إدارة أوباما قد رفعت حجم نشر هذه القوات السرية الخاصّة بنسبة 123 بالمئة منذ أحداث 11 أيلول 2001. (أنظر مقال الأستاذ عصام فاهم العامري/ عمان، المنشور في “الزمان” البغدادية تحت عنوان ” لا بوش ولا غورباشوف” المنشور في العاشر من تموز المنصرم ص 15). درجت الإدارة الأمريكية منذ عقدين على خلق تنظيمات إرهابية عربية إسلامية متطرّفة إصولية سلفية تكفيرية بشكل منفرد وبشكل مشترك مع المخابرات البريطانية والصهيونية، مَهَمّتها أن تُبعد عن الكيان الصهيوني أيّ ضرر أو عنف أو أذى، وكذلك عن أمريكا وبريطانيا والدول الغربية، وأن تحصر أعمالها الإرهابية/التخريبية/العنفية/ التناحرية ضمن الأقطار العربية والإسلامية في منطقة الشرق الأوسط، يساعدها في ذلك أفراد أمريكيون متخصصون في تدريس أفراد في كيفية إشعال الثورات والإنتفاضات والتغييرات الجذرية في الأنظمة الحاكمة في الأقطار التي عمّها الإستياء والنقمة بسبب نُظمها الدكتاتورية وتفشّي الفساد المالي والإداري والإجتماعي والإقتصادي. فقد فعلت هذا في تونس وليبيا وسوريا وقبلاً في أفغانستان والعراق. وفضلاً على ذلك نشطت في استخدام حماعة الإخوان المسلمين ( المعروفين بعنفهم وإرهابهم وعدم وطنيتهم لأنهم أصلاً غير مؤمنين بعقيدة وطنية) في بعض الدول العربية، وخصوصًا في مصر لإيصالهم إلى سدّة الحكم، وبذلت في سبيل ذلك هبات مالية سخية، ومساع إعلامية، وشحنًا طائفيًا وعقائديًا، ودعت أقطابهم إلى زيارة واشنطن لتلقينهم بما ينبغي أن يفعلوه لينتزعوا إنتصار الثورة المصرية 2011/ 2012 من جماهير الثورة الشعبية المصرية الحقيقيين، ورفدتهم بالمال قبل وفي أثناء حملة الإنتخابات الرئاسية وتزوير نتائجها لصالح مرشّح حزب النور والعدالة. كل هذه الأفعال التحضيرية للإرهاب والعنف والبلبلة المنشودة بقصد تنفيذ مخطط الشرق الأوسط الجديد الذي مساوئه الجسيمة تقسيم كل قطر عربي إلى أربعة أقسام وأكثر لتغدو كيانات هزيلة يسهل إستغلالها واستلابها. ولا ندري مَن عيّن أمريكا والغرب والصهاينة أوصياء على مقدّرات وشؤون الشرق الأوسط ليجعلوه مختلفًا “جديدًا”، كي يغدو ضامنًا سلامةَ وأمنَ هؤلاء الأنانيين بإفراط والمهووسين بالمخطط؟! لكنّ العيب واللوم ليسا على عاتق المخططين، بل على عاتق الرؤساء والساسة والمثقفين والحكّام العرب الغافلين المتناومين المتشاحنين. فأطماعهم الذاتية وجهلهم وتجاهلهم عوامل جعلتهم في غفلة عن إدراك ومعرفة ستراتيجية الغربيين المرسومة على محاور أساسية في انتهاج سياستهم إزاء شعوب الشرق الأوسط الحالي، وأهم هذه المحاور وأولها هو (تدمير الإسلام من خلال خلق العداء والتناحر بين الشيعة والسنّة بقصد إضعاف المنطقة وإنهاكها وتغذية روح الضغينة والحروب بين شعوبها، وبذا يتم إشغالها عن التوحّد والحيلولة دون بلوغها القوة على مجابهة الحضارة الغربية). كم كلّف الخزينة الأمريكية بذل هذه المساعي والأفعال والعمليات؟! وكم كلّفها غزوُهم أفغانستان والعراق؟ أمريكا نفسها أعلنت إن غزوها العراق كلّفها مليار دولار يوميًا خلال الأعوام 2003 ـ 2011 ! وماذا جنت أمريكا من غزوها هذين القطرين حتى الآن غير الخزي والعار وسوء الصيت لدى شعوب العالم، دعك من تضحية الألوف من جنودها؟! كم أنفقت على التحضير لصالح الإخوان المسلمين في مصر لتحقيق مراميهم الشرّيرة الموجعة الظلامية المتخلّفة، وينفر منها الشعب المصري وقادته المعتدلون والمتبصّرون والمخلصون لوطنهم ودينهم؟! مع العلم أن النظام المصري آنئذٍ وخلال فترة حكم رئيسها ( مبارك) كان صديقًا لأمريكا؛ فكيف تكون هذه الصداقة في حين كان دعمها لمآرب جماعة الإخوان المسلمين ينوي تجزئة مصر وخدمة مآرب الكيان الصهيوني؟! هل الإنقلاب على مصر أجدى لأمريكا مقابل تحقيق مطامع وأباطيل الكيان المذكور، في حين هو علّة العلل في أضطراب منطقة الشرق الأوسط منذ ستة عقود؟! أمريكا أسهمت، مع آخرين، في خلق وترعرع وإدامة العمليات الإرهابية من قِبل توجيهات أقطابها: بن لادن والزرقاوي والمصري والبغدادي (داعش= الخلافة الإسلامية) وغيرهم، وأمريكا نفسها إضطرّت أخيرًا إلى القضاء على بن لادن والزرقاوي وغيرهم؛ لكن من قضت عليهم تولّد عنهم آخرون عديدون أجروا ويُجرون عملياتهم في تونس وليبيا وسوريا والعرلق وأقغانستان وباكستان واليمن ـ باستثناء الكيان الصهيوني وأمريكا وأوربا !! ـ والآن رأت أمريكا من (داعش =دولة الخلافة) ما اقترفته من جرائم وموبقات وأهوال، بإسم الدين في أقطار عدّة وخصوصًأ في العراق، يُحتمل أن يصل رشاشُه إلى أقطار غربية وأمريكا نفسها من خلال بعض العرب والمسلمين في المهاجر الغربية، الذين إعتنقوا مذهب وأفكار (داعش= الخلافة)، فاُصيبت ـ ومعها بريطانيا وفرنسا وألمانيا ـ بصعقة شبه قويّة، وراجعت نفسها متأمّلةً ما ستؤول إليها الأمور والأحوال، فأيقنت أن لا معدى عن القضاء على (داعش= الخلافة). أليس خلق وتفعيل التنظيمات الإرهابية لتُعيثَ فسادًا وتخريبًا في أقطار الشرق الأوسط والإنفاق على إيجادها وعملياتها الإجرامية، ثم القضاء على أقطابها، لهي أفعال تدلّ على غباء سياسي وعلى خبطٍ عشوائي؟! إنها حتمًا مسيّرة، ولكنها ستدرك يومًا أنها مرغَمة على قهرها ودحرها! وكثيرون مطّلعون يعلمون من يسيّرها! ألم تتلقّ درسًا وافيًا من غلطتها الكبرى في التدبير لإيصال جماعة الإخوان المسلمين إلى سدّة الحكم في مصر؟ كم أنفقت في سبيل هذا المسعى الخاطئ المؤذي، وكم من جرائم أقتُرفت، ومن ضحايا وقعت في مصر لتحقيق هذا الهدف المُفضي إلى تقسيم القطر المصري إلى أجزاء هزيلة لصالح الغربيين والكيان المدلل؟ أليس هذا النهج دليلاً على خبطٍ عشوائي وغباء سياسي؟! وهذا العراق المنكوب، كم جنت عليه أمريكا، إذ هي في سياستها الرديئة سببت إيصالَه إلى الحد الحالي من السوء والأذى والأضاحي والتخلّف لصالح المفسدين في الأرض، وظنًا منها أنه لصالحها، لكنه ضرّها ضررًا شديدًا في الصميم : إقتصاديًا وسُمعةً في الخافقَين؛ لكنها ارتأت ـ بعد لأيٍ ـ أن تُسعِفَ العراق وتنجدَه وتتداركَهُ لتحسين سُمعتِها رُبّما !! لماذا لا تكون أمريكا صديقة الشعوب بدلاً من صديقة الحاكمين الذين تُزكّي تنصيبهم على الكراسي، فلا يعود لها أعداء يكرهونها، ومن الكراهية تتولّد خلايا العنف والإرهاب ضدّها؟! لماذا لا تحلّ أمريكا ـ بالإشتراك مع الإتحاد الأوربي ـ معضلة الشرق الأوسط، حلاً يبدأ من أسّ المعضلة وهي قضية الإعتراف بدولة فلسطين العربية بمقتضى نصوص قرارين صادرين عن مجلس الأمن الدوَلي بعد حرب عام 1967؟ إذ بعد حلها ستتلاشى موجة العِداء نحوها، ويليها إضمحلال نزعة الإرهاب حيالها ونحو الغرب، وخلافًا لذلك ستبقى حواضن العنف والإرهاب فاعلة متحفّزة إزاء الغرب في أقطار الشرق الأوسط، خصوصًا وأن بعض مولّدات العنف والإرهاب ـ قبل قضية فلسطين وإطالة وتسويف حلّها طيلة خمسة عقود ـ ناجم عن جشع أمريكا وبطرها وأنانيتها المفرطة ونزعة هيمنتها على مقدّرات الشعوب، وتدخّلها في شؤونهم. أإلى هذا الحد، والدولة العظمى ، ذات الحَول والطول والهيمنة الشاملة، مسلوبة الإرادة؟! وإلامَ سيبقى نهجكِ في السياسة إزاء الشعوب والدول خبطًا عشوائيًا، غبيًا مؤذيًا لكِ وللبشرية جمعاء؟!