خبير: إجراءاتنا دون المستوى برغم تزايد إستخدام التقنيات

الأمن السيبراني مسؤولية مجتمعية لمواجهة التهديدات الرقمية

خبير: إجراءاتنا دون المستوى برغم تزايد إستخدام التقنيات

بغداد – بشرى العزاوي

مع تصاعد وتيرة الهجمات الإلكترونية وظهور جرائم رقمية معقدة تمس الأفراد والمؤسسات على حد سواء، يبرز سؤال ملحّ: هل يمتلك المجتمع العراقي وعياً كافياً للتعامل مع مخاطر الفضاء الرقمي؟

في زمن أصبحت فيه المعلومة سلاحاً، والخصوصية هدفاً، تزداد الحاجة إلى فهم أوسع لمفهوم الأمن السيبراني، ليس فقط بين المختصين، بل في كل بيت ومدرسة ومؤسسة. في هذا التحقيق، نفتح الملف مع مهندسين، أكاديميين، محامين، تربويين، ونشطاء، للوقوف على حقيقة الوعي المجتمعي، وأدوات المواجهة، وموقع الثقافة الرقمية في معركة الخفاء التي تُدار خلف الشاشات. تتزايد التحديات: قرصنة، ابتزاز إلكتروني، سرقة بيانات، وشائعات موجهة… في مقابل وعي ما زال في كثير من الأحيان متواضعاً أو مغيباً. هذا التحقيق يسلّط الضوء على مدى إدراك المجتمع لمخاطر الفضاء الإلكتروني، ويستعرض آراء مختصين في الهندسة، التربية، القانون، الصحة النفسية، والمجتمع المدني، بحثاً عن إجابة: كيف نبني جدار الحماية الحقيقي… في الوعي لا في الأجهزة فقط؟

تدريب منهجي

قال مدير المركز الدراسي للكلية التربوية المفتوحة أنيس محمد، إن وعي الملاكات التدريسية والتربوية بأهمية الأمن السيبراني لا يزال دون المستوى المطلوب، على الرغم من تزايد استخدام التقنية في التعليم. وأوضح أن التجارب تشير إلى أن معظم الملاكات يمتلكون معرفة سطحية بالمفاهيم الأساسية للأمن السيبراني، ويفتقرون إلى التدريب العملي، مشيرًا إلى أن البرامج التدريبية المتوفرة حالياً إن وجدت غالباً ما تكون محدودة، غير منهجية، ولا تُلزم الملاكات بالمشاركة الفعلية فيها. وأكد أن الحاجة باتت ملحة لوضع برامج تدريبية متخصصة ومنتظمة في هذا المجال، تتضمن جوانب نظرية وعملية، وتُدرج ضمن خطط التطوير المهني للمعلمين والإداريين.

ضرورة تربوية

وأضاف أن هناك ضرورة تربوية حقيقية لإدماج مفاهيم الوعي الرقمي والأمن السيبراني في المناهج الدراسية  لكافة المراحل . فالطلبة باتوا أكثر عرضة للمخاطر السيبرانية مثل الاختراقات، الابتزاز الإلكتروني، والتنمر الرقمي. وبيّن أن إدراج مفاهيم مثل حماية الخصوصية، إدارة الهوية الرقمية، الاستخدام المسؤول للإنترنت، وأساليب الحماية الأساسية، يساهم في بناء جيل رقمي واعٍ وآمن، لافتًا إلى أن دولًا متقدمة مثل فنلندا وسنغافورة سبقت في تضمين هذه المفاهيم ضمن مناهجها الوطنية. وأشار محمد إلى أن التهديدات السيبرانية تُشكّل خطراً حقيقياً على الطلبة والمؤسسات التعليمية على حد سواء، إذ قد تؤدي بالنسبة للطلبة إلى انتهاك الخصوصية، سرقة البيانات، التعرض للتنمر الإلكتروني، أو التأثر النفسي والسلوكي جراء المحتوى الضار أو المضلل. كما تؤثر هذه التهديدات على الأداء الأكاديمي، وتعرض الطلبة لمخاطر فكرية واجتماعية غير منظورة.

أما على مستوى المؤسسات التعليمية، فقد نبه إلى أن هذه التهديدات قد تخل باستقرار البيئة التعليمية من خلال اختراق الأنظمة، تسريب المعلومات الحساسة، أو تعطيل العملية التعليمية، ما يؤدي إلى خسائر مادية وتقنية، ويهز ثقة المجتمع بالمؤسسة، ويؤخر مشاريع التحول الرقمي فيها.

وفيما يتعلق بدور الأسرة، شدّد الدكتور أنيس على أنها تلعب دوراً محورياً في تعزيز الوعي بالأمن السيبراني، كونها البيئة التربوية الأولى للطفل. وأكد أن الأسرة الواعية تُمكّن الطفل من اتخاذ قرارات سليمة عند مواجهة التهديدات الرقمية، وتشكل عنصرًا تكميليًا أساسياً لدور المدرسة في الحماية. وفي ختام تصريحه، أوضح الدكتور أنيس محمد أن من أبرز التوصيات التي يمكن تبنيها لتعزيز الحماية الرقمية في المؤسسات التربوية، وفق التجارب العالمية، هي:

 إدماج مفاهيم الأمن السيبراني في المناهج الدراسية بمختلف المراحل.

 تدريب الكوادر التدريسية والإدارية بشكل منتظم على مفاهيم وتقنيات الأمن الرقمي.

 وضع سياسات داخلية مكتوبة تنظم استخدام التقنية والبيانات داخل المؤسسة.

 تبنّي أدوات وتقنيات حديثة مثل أنظمة كشف الاختراق وتصفية المحتوى الضار.

 تعزيز التعاون مع الأسرة والمجتمع في نشر الوعي السيبراني.

 إعداد خطط استجابة للطوارئ تشمل الكشف، المعالجة، والتعافي من الهجمات.

 دعم الأبحاث والمبادرات الطلابية في مجال الأمن السيبراني، لتشجيع ثقافة الابتكار والوقاية.

رأي قانوني في تحديات مكافحة الابتزاز الرقمي في العراق

أوضح الدكتور مهند ضياء عبد القادر، أستاذ القانون الدستوري في الجامعة المستنصرية، أن هناك العديد من الثغرات القانونية التي تعيق التعامل الفعال مع الجرائم الرقمية، لا سيما جرائم الابتزاز الإلكتروني والتشهير عبر المنصات الاجتماعية. من أبرز هذه الثغرات غياب التعريفات الدقيقة لبعض المصطلحات القانونية المستحدثة، مثل «الابتزاز الإلكتروني» و»التشهير الرقمي»، وهو ما يفتح المجال لتأويلات متعددة ويؤثر سلبًا على مسار العدالة. كذلك تعاني بعض الجهات المختصة من ضعف في آليات جمع الأدلة الرقمية، وغياب الكفاءة التقنية اللازمة لتوثيق الجرائم الإلكترونية بشكل قانوني معتمد، فضلًا عن القصور الواضح في حماية الضحايا، خاصة من ناحية سرّية المعلومات المقدمة عند تقديم الشكاوى، ما يجعل كثيرًا من الضحايا يعزفون عن الإبلاغ خوفًا من التشهير أو الانتقام. وأشار الدكتور مهند إلى أن التشريعات الحالية لا تواكب التحديات المتزايدة في الأمن السيبراني، فبينما يشهد هذا المجال تطورًا متسارعًا، تبقى القوانين بطيئة في الاستجابة، ما يخلق فجوة كبيرة بين تطور وسائل الجريمة الرقمية وبين الرد القانوني عليها، سواء من حيث النصوص أو الأدوات. لذلك، لا بد من إجراء تحديثات قانونية دورية، وتشكيل لجنة وطنية مختصة بمتابعة المستجدات الرقمية وتقديم التوصيات اللازمة لتعديل القوانين بشكل فوري.

حاجة ماسة

وبيّن أيضًا أن العراق بحاجة ماسة إلى تحديث شامل في هذا المجال، فالقوانين الحالية، وعلى رأسها قانون العقوبات العراقي، وُضعت في زمن لم تكن فيه الجرائم الرقمية موجودة، كما أن المواد ذات الصلة بهذا النوع من الجرائم غالبًا ما تأتي بصياغة عامة وغير مخصصة، مما يصعّب تطبيقها أمام المحاكم. ولهذا، فإن الحاجة باتت ملحة لإصدار قانون خاص بالأمن السيبراني، يتضمن تعريفات دقيقة وإجراءات واضحة لضبط الأدلة الرقمية، بالإضافة إلى تدابير احترازية تضمن حماية الأفراد والمؤسسات. وأكد في ختام حديثه علي أهمية تعزيز التعاون بين الجهات القضائية والجهات التقنية، مع ضرورة تدريب الكوادر المختصة على التعامل مع الأدلة الإلكترونية وفق الأصول القانونية، وذلك لضمان بيئة قانونية قادرة على مجابهة التحديات الرقمية المعاصرة.

الأمن السيبراني ضرورة وطنية ملحّة

قال العميد الدكتور حسن هادي لذيذ مدير مديرية الأمن السيبراني – وزارة الداخلية العراقية « الأمن السيبراني في العراق اليوم لم يعد خيارًا بل ضرورة وطنية ملحّة، تقع مسؤوليتها على الجميع بدءًا من المؤسسة التربوية التي يجب أن تدمج مفاهيم الأمن الرقمي في المناهج الدراسية وتُعزز الوعي لدى الأجيال الجديدة، مرورًا بالمجتمع الذي ينبغي أن يتبنى ثقافة الحماية الرقمية والتفاعل الإيجابي مع حملات التوعية، وصولاً إلى الجهات التشريعية التي يتعين عليها تطوير منظومة قانونية شاملة تواكب التحديات المتجددة.

إن مواجهة التهديدات الرقمية في العراق تتطلب تكاتفًا حقيقيًا بين المؤسسات الحكومية والخاصة والمجتمع المدني، وتعزيزًا مستمرًا لقدرات كوادر الأمن السيبراني، حتى نتمكن من بناء حصانة وطنية قوية ضد أي هجوم إلكتروني قد يهدد أمن العراق واستقراره ومصالح مواطنيه.

لذلك، ومن واقع المسؤولية التي تقع على عاتقنا في مديرية الأمن السيبراني بوزارة الداخلية، أرى أن أفضل الممارسات التي يجب اتباعها لتحقيق التحصين السيبراني الوطني هي:

التوعية والتربية السيبرانية: إدخال مناهج الأمن الرقمي في المراحل التعليمية كافة، بدءًا من المدارس الابتدائية وصولًا إلى الجامعات. وايضا إطلاق حملات إعلامية وتوعوية مستدامة لرفع مستوى الوعي لدى المجتمع.

٢- التشريعات والسياسات الأمنية: اقرار قانون مكافحة الجرائم المعلوماتية وقانون حماية البيانات الشخصية من قبل مجلس النواب . وايضا  تطبيق إطار عمل سياسات الأمن السيبراني المتمثلة بسياسة الأنظمة الأمنة وسياسة مراكز البيانات الأمنة وسياسة المكتب الأمن

٣- بناء قدرات كوادر الأمن السيبراني: إعداد برامج تدريبية متقدمة ودورية للعاملين في مجال تكنولوجيا المعلومات والاتصالات. وكذلك  إعادة تشكيل فريق ()، مع ضمان مشاركة جميع المؤسسات.

٤- تعزيز التعاون بين القطاعات المختلفة: بناء شراكات فعالة بين القطاعين العام والخاص والمجتمع المدني لتبادل الخبرات والمعلومات حول المخاطر الرقمية. وايضا إنشاء منصة وطنية لتبادل المعلومات حول التهديدات السيبرانية بشكل آني.

٥- اعتماد سياسات أمنية استباقية: تبني استراتيجيات الثقة الصفرية ( ) في المؤسسات الحكومية والقطاع الخاص.وايضا تشجيع البحث والتطوير في مجال الأمن السيبراني وتوطين تقنيات الحماية الرقمية.

نحن قادرون على مواجهة هذه التحديات وتحقيق حصانة سيبرانية أفضل للعراق، إذا عملنا جميعًا وفق رؤية مشتركة ومسؤولية وطنية عالية

الإعلام شريك استراتيجي في تعزيز الوعي السيبراني

من جهته، قال الدكتور ثابت درويش، الصحفي في جورنال الحرية من جمهورية مصر العربية: في ظل التطور التكنولوجي السريع وتزايد الاعتماد على الإنترنت والخدمات الرقمية، يبرز دور الأمن السيبراني كأحد أهم الأولويات الوطنية. ومن خلال عملي في الوسط الصحفي، أستطيع أن أقول إن وعي المجتمع المصري بقضايا الأمن السيبراني يشهد تطوراً ملحوظاً، حيث أصبحت هذه القضايا تحظى باهتمام متزايد من قبل مختلف فئات المجتمع.

ومع ذلك، لا تزال هناك تحديات كبيرة تواجه المجتمع المصري في هذا المجال، أبرزها نقص الوعي بالتكنولوجيا والتهديدات السيبرانية، خاصة بين الفئات الأقل خبرة في التعامل مع التكنولوجيا. ومن هنا، تبرز أهمية الدور الإعلامي في توعية المجتمع بمخاطر الأمن السيبراني وكيفية مواجهتها.

وفي هذا السياق، أرى أن الجهود الإعلامية الحالية لتثقيف الناس بهذا المجال لا تزال محدودة وتحتاج إلى مزيد من التكثيف والتنوع، فالحملات التوعوية يجب أن تستهدف مختلف الفئات العمرية والاجتماعية، وأن تُقدم بطريقة مبسطة وسهلة الفهم، لضمان وصول الرسالة إلى أكبر عدد ممكن من الناس.

ومن خلال التغطية الصحفية لقضايا الأمن السيبراني، يمكننا أن نُسهم في رفع مستوى الوعي لدى المجتمع، وتوضيح المخاطر والتحديات التي تواجهنا في هذا المجال. كما أن التعاون بين مختلف الجهات المعنية، مثل الحكومة والقطاع الخاص والمؤسسات التعليمية، يُعد أمراً ضرورياً لتعزيز جهود التوعية وتقديم رسائل إعلامية فعالة ومؤثرة.

وفي النهاية، أؤكد على أهمية الاستمرار في بذل الجهود لتوعية المجتمع  بقضايا الأمن السيبراني، وتقديم الدعم اللازم لتعزيز قدراته في مواجهة التحديات السيبرانية المتزايدة.

دور اليونسكو في تعزيز الوعي بالأمن السيبراني في العراق

بدوره، قال الأستاذ ضياء ثابت، مسؤول برامج ومشاريع قطاع الاتصال والمعلومات في مكتب اليونسكو  العراق: في ظل انتشار الجهل الرقمي تولي اليونسكو اهتمامًا متزايدًا بقضية الأمن السيبراني، لا سيما في المجتمعات التي تعاني من فجوات رقمية واسعة. في العراق، أطلقت المنظمة عدة مبادرات لتثقيف الفئات الأكثر هشاشة، مثل النساء والشباب والصحفيين، حول أساسيات الأمن الرقمي، والسلامة الرقمية، والخصوصية على الإنترنت. ومن أبرز هذه الجهود، تنظيم ورش عمل لبناء القدرات، وإنتاج أدلة تدريبية مبسطة، إضافة إلى دمج مفاهيم الأمن السيبراني في البرامج التعليمية غير الرسمية، خاصة ضمن مشروع   4  الذي يهدف إلى تعزيز السلام الرقمي ومكافحة خطاب الكراهية والمحتوى الضار.

وأضاف أن المسؤولية مشتركة في نشر الوعي الرقمي ولا يمكن حصرها في جهة واحدة، لكنها تبدأ من المدرسة باعتبارها المؤسسة التربوية الأولى التي يفترض أن تدمج الثقافة الرقمية في مناهجها. يوازيها دور الإعلام الذي يجب أن يرتقي من مجرد ناقل للأخبار إلى منصّة توعوية تثقيفية تشرح المخاطر الرقمية بلغة يفهمها العامة. أما الأسرة، فهي الحلقة الأقرب إلى الطفل والناشئة، وعليها أن تواكب التغيرات التكنولوجية لتكون جزءًا من التوجيه لا مصدرًا للرقابة فقط. لذا، فإن غياب التنسيق بين هذه الأطراف هو ما يؤدي إلى فجوات يصعب ردمها لاحقًا.

وأكد ثابت أن هناك تنسيقًا متناميًا بين مكتب اليونسكو في العراق والجهات الوطنية المعنية، بما في ذلك وزارات التعليم، والثقافة، والاتصالات، فضلًا عن المؤسسات الأمنية واللجان البرلمانية ذات العلاقة. يبرز ذلك من خلال شراكات في إعداد سياسات توعوية، وتنفيذ تدريبات تقنية بالتعاون مع جهات دولية مثل الاتحاد الأوروبي، إضافة إلى مساهمة اليونسكو في تطوير منصات رقمية تدعم حرية التعبير مع ضمان الأمان السيبراني، خاصة في البيئات الإعلامية. إلا أن هذا التنسيق يحتاج إلى مزيد من الدعم المؤسسي والإرادة السياسية لتحويله إلى استراتيجيات وطنية شاملة.

وأشار إلى أن أبرز التحديات التي تواجه العراق في حماية بيانات مؤسساته ومواطنيه رقميًا هي ضعف البنية التحتية الرقمية، وغياب تشريعات رصينة تحمي البيانات الشخصية وتحدد مسؤوليات الجهات الحكومية والخاصة في حال الاختراق. كما يعاني العراق من نقص الكوادر المتخصصة في أمن المعلومات، وافتقار معظم المؤسسات إلى خطط استجابة للحوادث السيبرانية. أضف إلى ذلك اعتماد العديد من الوزارات على نظم غير مؤمنة ومفتوحة للاختراق، ما يجعلها عرضة لهجمات تؤثر على الأمن الوطني والاقتصادي.

وأضاف أن الإعلام العراقي قطع شوطًا لا بأس به في تغطية التطورات التكنولوجية، لكنه لا يزال بعيدًا عن التخصص في موضوع الأمن الرقمي. معظم التغطيات تقتصر على الأحداث بعد وقوعها، دون التطرق إلى التوعية الاستباقية أو بناء ثقافة رقمية لدى الجمهور. كما أن هناك نقصًا في الكفاءات الإعلامية القادرة على تبسيط مفاهيم مثل الهندسة الاجتماعية، الاحتيال الإلكتروني، أو حماية البيانات، بل وحتى الصحافة الاستقصائية الرقمية لا تزال في بداياتها. لذلك، من المهم تدريب الإعلاميين على مفاهيم الأمن السيبراني وتعزيز الشراكة بين مؤسسات الإعلام والجهات المتخصصة.

وقال إن الخصوصية الرقمية في العراق لا تزال هشّة، في ظل غياب قانون وطني شامل لحماية البيانات، واعتماد الأجهزة الرسمية على سياسات متضاربة أو غير معلنة. المواطن العراقي غالبًا ما يكون عرضة لتسريب معلوماته الشخصية عبر التطبيقات والخدمات الإلكترونية، دون معرفة أو موافقة منه. كما أن المراقبة الرقمية غير المنضبطة، وغياب آليات الشفافية والمساءلة، تضع الخصوصية في خطر دائم. لذا فإن الحاجة ملحّة لتشريع قانون خاص بحماية البيانات الشخصية يتماشى مع المعايير الدولية، ويوازن بين الأمن وحقوق الإنسان الرقمية.

الأمن السيبراني أولوية جامعية وليست رفاهية

أكدت الأستاذ المساعد الدكتورة دنيا زكي محمد الخفاجي، عميد كلية الهندسة في جامعة كلكامش، أن الإلمام بمبادئ وأسس الأمن السيبراني لم يعد ترفًا، بل أصبح ضرورة مُلحّة في ظل التطورات الرقمية المتسارعة. وأضافت أن الآونة الأخيرة شهدت اهتمامًا متزايدًا من المؤسسات الحكومية والأهلية بهذا الملف، من خلال تكثيف الندوات والمحاضرات والنشاطات العلمية التي تتناول أمن البيانات والتعريف بالتهديدات السيبرانية وطرق تفاديها من قبل الجهات المعنية، سواء كانت أكاديمية أو غيرها.

وأشارت الخفاجي إلى أن جامعة كلكامش تضم فريقًا متخصصًا في تكنولوجيا المعلومات، يتولى مهام حماية وأمن المعلومات والبيانات، إلى جانب تنفيذ برامج توعوية تستهدف الأكاديميين والطلبة على حدّ سواء.

وفي إطار هذا الاهتمام، نظّمت كلية الهندسة في الجامعة، بالتعاون مع مكتب رئيس الوزراء، منتدى هندسيًا متخصصًا في الأمن السيبراني، استضاف مجموعة من الخبراء البارزين، من بينهم الدكتور علي الشيرباز، والدكتور أمير موسى، والدكتورة رشا ثابت، والدكتور عصام الخالدي، والدكتورة إسراء النعيمي. وقد شهد المنتدى حضور عدد من المتخصصين، وأسفر عن تقديم مجموعة من التوصيات المهمة للجامعة والمؤسسات الأكاديمية المعنية.

كما نظّم طلبة قسم هندسة الحاسوب في كلية الهندسة ورشة عمل لزملائهم، تناولت مفاهيم الأمن السيبراني، في خطوة تعكس مدى الوعي والاهتمام الطلابي بهذا المجال الحيوي.

وفي ختام حديثها، أكدت الخفاجي أن الجامعة تدعم جميع المشاريع العلمية، لاسيما الهندسية منها، مشيرة إلى تبني كلية الهندسة لمعرض خاص بمشاريع الطلبة، يُسلّط الضوء على إبداعاتهم وابتكاراتهم.

تجربة وتطلعات طالب في مجال الأمن السيبراني

يقول بلال فوزي الشمري، طالب المرحلة الثانية في قسم الأمن السيبراني بجامعة الإسراء: أعتقد أن الوعي بمجال الأمن السيبراني ما زال محدودًا عند بعض الطلاب، فهم يدخلون الجامعة دون أن يدركوا حجم التحديات والدراسة التي تنتظرهم. خلال دراستنا في هذا التخصص، نكتسب معرفة واسعة حول مختلف جوانب الأمن السيبراني، ونفهم مدى خطورة التهديدات الرقمية التي تحدث خلال دقائق، خصوصًا في منطقتنا بالشرق الأوسط التي تشهد نشاطًا ملحوظًا في هذا المجال.

الطلب على الكوادر المتخصصة في الأمن السيبراني كبير جدًا، وهذا يتضح من كثرة الاستفسارات حول التخصص. للأسف، عدد المتخصصين قليل جدًا، وهناك نقص في فرص العمل والتدريب حتى لو كانت بشكل تطوعي لتطوير الذات. كثير من المختصين يحاولون الاحتفاظ بخبراتهم كأداة لتحقيق مصالح شخصية، وأحيانًا يتعرضون للابتزاز في حياتهم الخاصة، سواء ماديًا أو غيره.

من وجهة نظري، من الضروري أن يكون الأفراد أكثر اهتمامًا بالحماية الرقمية بدل التركيز فقط على الهجوم. الشخص غير المحصن سيكون هدفًا سهلاً في الفضاء الإلكتروني. وأرى أن المسؤولية الأولى عن التطوير النفسي والمهني للفرد تقع على نفسه ورغبته الداخلية في التعلم والتطور، تليها الجهات الإعلامية والجامعات التي تقدم الدعم والتوجيه.

وعند الحديث عن نشر الوعي الإلكتروني، أؤكد أن الإعلام هو المسؤول الأول، يليه باقي الجهات، وفي النهاية تأتي الجامعات التي تقوم بدورها في التعليم والتوجيه. وفي نهاية المطاف، استخدام هذه المعرفة بشكل صحيح أو خاطئ هو مسؤولية الفرد شخصيًا.»

التربية الرقمية بين مسؤولية المدرسة والأسرة في عصر التكنولوجيا

التربوي المتقاعد صادق الذهب يتحدث عن التكنولوجيا والتعليم: بين الإيجابيات والسلبيات حيث قال إن لا أحد ينكر أن التكنولوجيا الحديثة والإنترنت أحدثت ثورة في مجال التعليم، إذ غيرت طريقة تفاعل الطلاب مع المعرفة والعملية التعليمية، وسهّلت الوصول إلى المواد الدراسية  من أي مكان وفي أي وقت، مما جعل الدروس أكثر تفاعلية وتشويقًا، وعززت فهم الطلاب واستيعابهم لها.

وأشار إلى أن هذه التطورات زادت من مرونة العملية التعليمية، وأسهمت في تحسين كفاءة التعليم وتنظيم المناهج وتسريع عملية التقييم ومتابعة تقدم الطلاب، كما أتاحت فرصا أوسع للبحث والاستكشاف وتطوير المعارف، مما ينمي الطلاب ويشجعهم على التعلم الذاتي.

لكنه في الوقت نفسه حذر من سلبيات وصفها بـ»الخطيرة»، مشيرًا إلى أن التكنولوجيا ساهمت أحيانًا في حرف العملية التعليمية عن أهدافها التربوية والأكاديمية، إذ انشغل كثير من الطلاب بالإنترنت ووسائل الترفيه على حساب الدراسة والتفاعل المجتمعي، حتى باتوا يعانون من ضعف التواصل الاجتماعي بسبب الاعتماد الزائد على التكنولوجيا، الأمر الذي أدى إلى نوع من العزلة وضعف التواصل البشري.

كما نبه إلى ظهور مشكلات في الصحة النفسية والجسدية، واضطرابات في النوم، بالإضافة إلى القلق المتزايد بشأن الأمان والخصوصية. وأضاف أن هناك حالات من التقليد السلبي للمحتوى المنتشر على المنصات الرقمية، وأصبح السلوك العام للطلبة يتأثر بما يرونه على الإنترنت أكثر مما يتلقونه داخل الصفوف.

وعن وعي الطلبة بمخاطر الإنترنت، أكد الذهب أن «الوعي الرقمي لا يزال محدوداً لدى شريحة واسعة من الطلبة، خاصة في المراحل الابتدائية والمتوسطة»، موضحًا أن الكثير منهم يستخدم الإنترنت دون معرفة بأساسيات الحماية أو خطورة مشاركة المعلومات الشخصية، مما أدى إلى تعرض بعضهم لحالات ابتزاز أو تنمّر إلكتروني دون أن يعرفوا كيف يتصرفون.

وشدد على أن هناك «حاجة ملحّة لتثقيف الطلبة بأساليب مبسطة ومباشرة حول الأمان الرقمي»، معتبرا أن المدرسة هي الحاضنة الأولى للتوجيه، ويجب أن يكون لها دور فاعل في تعزيز ثقافة الاستخدام الآمن للتكنولوجيا، من خلال إدخال مفاهيم الأمن الرقمي في المناهج وتنظيم ورش توعوية داخل الصفوف، مع أهمية إشراك الأهل والمعلمين معًا في هذه المهمة، «فالتثقيف لا يقتصر على الطالب فقط، بل يشمل البيئة التعليمية بأكملها»، بحسب تعبيره.

ووجه صادق الذهب نصيحة مهمة للأهالي، قائلاً: لا تتركوا أبناءكم وحدهم في هذا العالم المفتوح. الرقابة الأبوية مطلوبة، لكن بطريقة ذكية لا تقوم على التهديد أو التقييد فقط. من المهم بناء علاقة ثقة مع الطفل، بحيث يشعر بالأمان في مشاركة ما يواجهه. كما أن على الأهل تحديث معلوماتهم حول التكنولوجيا ليكونوا مساعدين حقيقيين، لا مجرد مراقبين».

وختم حديثه بالتأكيد على أن التربية الرقمية أصبحت جزءًا من مسؤوليات الأسرة الحديثة، وأنه من الضروري أن يتواجد الأهل في حياة أبنائهم ويقدّموا لهم الدعم والتوجيه في ظل التحديات الرقمية، عبر التواصل المفتوح، وتعزيز الوعي، ووضع القواعد، والتدخل الإيجابي، والتعاون مع المدرسة، وتقديم القدوة الحسنة.

دور المجتمع المدني في التصدي للابتزاز الرقمي وتعزيز الوعي العام

من جهته، قال الناشط المدني زياد الطائي : للأسف، لا يزال الوعي محدودًا لدى شريحة واسعة من المجتمع، خصوصًا بين الفئات الضعيفة تقنيًا مثل النساء، القاصرين، وكبار السن. كثير من الناس لا يدركون أن الضغط على رابط مجهول أو مشاركة معلومات شخصية قد يعرّضهم لابتزاز أو اختراق. وهناك أيضًا من يخجل من الإبلاغ عند التعرّض للابتزاز الرقمي بسبب الأعراف الاجتماعية أو الخوف من الفضيحة، مما يعزز سطوة المجرم الرقمي ويطيل عمر الجريمة».

وأشار إلى أن بعض المبادرات موجودة، لكنها  للأسف  متفرقة، غير مستمرة، وغالبًا ما تقتصر على المدن الكبيرة، في حين أن الحاجة الفعلية تكمن في حملات دورية مستدامة تستهدف المدارس والجامعات وحتى المناطق الريفية، بلغة بسيطة ومحتوى بصري مؤثر.

كما دعا إلى وجود دعم حكومي وتشريعي واضح لحماية الضحايا، وتدريب أفراد الشرطة على التعامل مع قضايا الجرائم الإلكترونية بطريقة تقنية وإنسانية.

وأكد أن المنظمات المجتمعية يمكن أن تكون خط الدفاع الأول، من خلال إنشاء خطوط ساخنة سرّية للإبلاغ، وتقديم الدعم القانوني والنفسي للضحايا، وتنظيم ورش توعوية تُدرّس بشكل تفاعلي للأطفال والمراهقين، خاصة في المدارس.

وشدد على أهمية بناء شراكات حقيقية بين هذه المنظمات والجهات الأمنية والقانونية لضمان الاستجابة السريعة والتعامل الحساس مع الضحايا، كما أشار إلى أن إشراك الشخصيات المؤثرة  قد يُسهم في إيصال الرسائل التوعوية بشكل أوسع وأكثر تأثيرًا.

الأمن الرقمي  ليس ترفاً، بل ضرورة تربوية وطنية

أ. د. حسين سالم، رئيس مركز البحوث والدراسات التربوية في وزارة التربية السابق ، قال: لا تزال مناهجنا التربوية تفتقر إلى محتوى واضح يُعنى بالأمن السيبراني، رغم تنامي المخاطر الرقمية التي تهدد أبناءنا. هناك إشارات بسيطة ضمن مناهج الحاسوب، لكنها لا تكفي. نحن بحاجة ماسة إلى دمج ثقافة السلامة الرقمية ضمن المحتوى الدراسي بشكل منهجي ومدروس.

من خلال المركز، نظمنا العديد من الورش والمؤتمرات بالشراكة مع جهات متخصصة، ورفعنا توصيات لتطوير السياسات التعليمية بهذا الاتجاه. كما بدأنا خطوات عملية لفتح قسم خاص بالأمن السيبراني في التعليم المهني، ونسعى لتوسيع هذا التوجه ليشمل المناهج الرسمية.

ونؤكد أيضاً على ضرورة تدريب المعلمين وتأهيلهم لمواكبة هذه التحديات، لأنهم الخط الأول في التوعية داخل المدرسة. الأمن الرقمي اليوم ليس ترفاً، بل ضرورة تربوية وطنية.»

الاستجابة النفسية للأمن السيبراني… بين الدعم والثقة

من جانبها، ترى انوار خالد اختصاص علم نفس : أن الأمن السيبراني لا يقتصر فقط على حماية الأجهزة والشبكات، بل يشمل أيضًا حماية الأفراد نفسيًا من الآثار المترتبة على الجرائم الرقمية، خصوصًا الابتزاز الإلكتروني.

وتقول: «الضحية في هذه الجرائم لا تتعرض فقط لخرق خصوصية، بل لهزة نفسية قوية، خاصة إذا كان التهديد مرتبطًا بصور شخصية أو معلومات حساسة. كثيرون يدخلون في دوامة القلق، الخوف، العزلة، أو حتى الاكتئاب، ويشعرون بعدم الأمان حتى داخل منازلهم».

وأضافت أن ضعف التوعية النفسية ضمن برامج الأمن السيبراني في العراق يجعل الاستجابة للضحايا غير مكتملة، مشيرة إلى أن كثيرًا من الضحايا لا يملكون أدوات المواجهة النفسية ولا يعرفون إلى من يتوجهون عند تعرّضهم للابتزاز أو التهديد عبر الإنترنت.

وتؤكد أن إدماج اختصاصيين نفسيين في حملات التوعية، وفي مراكز استقبال شكاوى الجرائم الرقمية، سيساهم في تعزيز مناعة المجتمع الرقمية والنفسية، مشددة على ضرورة نشر ثقافة «الأمان النفسي السيبراني» إلى جانب التوعية التقنية والقانونية، خصوصًا في صفوف الشباب والفئات الهشّة.

الأمن السيبراني يدخل المدارس العراقية

استحداث وزارة التربية اختصاص الأمن السيبراني ضمن فرع الحاسوب وتقنية المعلومات في التعليم المهني، وذلك للعام الدراسي 2024-2025، في خطوة تُعد الأولى من نوعها على مستوى المناهج الدراسية في العراق.

ووفقًا لوثيقة رسمية صادرة عن مديرية التعليم المهني، فقد تم اعتماد هذا التخصص في 30 مدرسة مهنية موزعة على مختلف المحافظات العراقية، في إطار خطة تهدف إلى مواكبة التطورات العالمية في مجال التكنولوجيا وتعزيز قدرات الطلبة في حماية البيانات والأنظمة الرقمية.

ويأتي هذا الإجراء ضمن سلسلة إصلاحات تربوية تبنّتها الوزارة، تشمل تطوير المناهج، ورقمنة التعليم، وتوسيع مسارات التعليم المهني ليتلاءم مع متطلبات سوق العمل المحلي والعالمي.

كما أشارت الوزارة إلى استعدادها لإطلاق برامج تدريبية وتأهيلية للكوادر التدريسية المختصة بهذا المجال ، لضمان تقديم مادة علمية متطورة تواكب التحديات الرقمية المتسارعة.

ويُعد هذا الاستحداث خطوة استراتيجية نحو ترسيخ مفاهيم الأمن الرقمي لدى طلبة المدارس، وتمهيدًا لإعداد جيل مؤهل لحماية البنية التحتية الرقمية للعراق في المستقبل.

مشاركة