جنون وما أشبه قصص لنجمان ياسين

جنون وما أشبه قصص لنجمان ياسين
اللغة المجنونة وجماليات القبح البشري
أنور عبد العزيز
منذ سنة 1957 وأنا طالب في الاعدادية الشرقية، كنت مولعاً بمراقبة ومتابعة حركات المجانين وسماع ما كانوا يطلقونه بوجه الآخرين من عبارات صادمة يظلون يكرّرونها هي هي وبالحاح لمواجهة عبارة اثارة واستفزاز يطلقها عليهم الآخرون وخاصة الصغار فتراهم بعدها ثائرين هائجين مضيفين صخباً وجنوناً ثائراً لجنونهم الأبدي، ومما جعلني مهموماً بقصص وحكايات اولئك المجانين ما صرت أراه من صور معبّرة عن وجوههم في ستوديو المصور العالمي مراد الداغستاني… وجوه خشنة قاسية، وجوه ساكنة بليدة، وجوه هادئة معبّرة عن أقسى حالات وملامح الألم والحزن الانساني… وكنت أميل الى التقرّب من المجانين الحزانى الوادعين وأقرف كارهاً الأشرار والعدوانيين والشتّامين منهم حتى لو لم يقترب أحد منهم بأي أذى… كان منهم مَن هو فاقد للوعي بوجوده بشكل نهائي مما جعله يتصرّف بحيوانية في طعامه وشرابه وتعامله مع الناس… آخرون ربما كانوا يدركون فجيعتهم وأنهم ليسوا أسوياء كالبشر، وهؤلاء كان ظهور ملامح الحزن عليهم واضحاً مكشوفاً… في خمسينيات القرن الماضي شكّلوا ظاهرة في المدينة بتواجدهم في أماكن معيّنة مخصوصة لكل منهم… في شارع حلب وسوق الصراي ومنطقة الجسر العتيق وشارع نينوى والدوّاسة… كان من أشهرهم حامد المجنون وكان قبل جنونه صفّاراً تراه غالباً في حديقة الشهداء بعمامته وعباءة سوداء وزبون… جالساً على مقعد منعزل وكأنه شيخ عشيرة لا يمكن أن تخمّن أنه مجنون الا اذا خرج عن صمته وتكلم وكانت تفضح جنونه تلك الخرق الملونة التي يعلّقها في صدر زبونه… كان من عقلاء المجانين وله قولة شهيرة يعرفها الموصليون ويتذكرونها بوعي وتقدير… ومنهم ايضاً شلله بقنينة مكسورة الفوهة يشهرها دفاعاً عن نفسه ضد تحرّشات الصغار وحتى الكبار… رصيف الشرقية المواجه للنادي العسكري كان مكانه المفضل لسكرته وهو يرسل من لسانه وحنجرته معزوفات الموسيقى العسكرية التي يتذكرها أثناء سنوات تكليفه بالجندية… موسيقى الصباح والاستيقاظ، موسيقى التعداد، موسيقى التجمّع، موسيقى الطعام، موسيقى تحية العلم… يعزفها كبوق مما يزيد من حالة تجمّع الناس حوله والتحرّش به… كان غالباً بدشداشة ممزّقة حافياً مجرّحاً في يديه ورجليه ووجهه، كان كريهاً عدوانياً وقلّما أحبه وتعاطف معه أحد… و حولي الصبي الصغير القصير كبير الرأس في سوق الصراي وكان بعض التجار ممن لا ضمير لهم يشترطون على ضربه في الرأس خمسين ضربة من النعال لقاء خمسين فلساً… كان يقبل الشرط ويتحمّل وكانت وليمة النعالات تلك للصبي البائس مناسبات ترفيهية لتجار السوق والعابرين من الناس… وكان منهم ايضاً أزغشت في الدوّاسة وهو شاب أنيق قيل أنه كان مفوض شرطة وقيل أن سبب جنونه هو مشاركته في مواجهة عاصفة بالرصاص مع مجموعة مهرّبين وبعدها ويوماً بعد يوم بدأ يفقد قواه العقلية… كانت العبارة وهي الماركة المسجّلة باسمه أزغشت على هلعقل يحاجج بها أي كلام أو رأي يسمعه… كل الاقوال لم تكن تقنعه وكل عقول الاخرين كانت عنده هراء وخواء، ما أن تردّ عليه بعبارة حتى يصفعك محتدّاً، دون أن يلحق بك الأذى، بعبارته الخالدة أزغشت على هلعقل ، والعبارة واضحة وفيها رفض لما قلته ولصغر عقلك حسب قناعته… وواضح أن أزغشت فعل أمر، نعرف ذلك من المعنى أما صيغة الفعل ونحته لغة فـ عادل وحده يعرف معنى وسرّ أزغشت … أضيف لهم أيضاً أصليل أكع ذلك الصبي الذئب الأسمر النحيل شبه العاري برجليه القصبيتين حافياً يسابق الريح والسيارات في الغزلاني وكان أشدّ الناس ضرراً وخطراً على شفيق الجليلي رحمه الله المشرف الرياضي في معارف الموصل في سباقات كرة القدم بين الثانويات في ساحة الغزلاني ، فرغم هيمنة الجليلي وحبّه للنظام وفرضه سيطرته على الساحة بعصاه الشهيرة الباسطون وهو يضرب بها على الركب لمن يحاول من الطلاب والمشاهدين اختراق الخطوط البيض المحيطة بساحة كرة القدم… شفيق الجليلي وحده كان معادلاً لعشرة وأكثر من الانضباط العسكري، ولكن ما ان تعلن الصافرة ويتحرك اللاعبون الا ويكون أصليل اكع بسرعته المفاجأة وقفزاته مثل كنغر قد اخترق كل الخطوط مربكاً حركات اللاعبين مضيّعاً على الجليلي كل حذره وترتيباته المسبقة، وكذا كان يفعل يوم المهرجان الرياضي للجيش وخاصة عندما ينطلق الفرسان على خيلهم بلعبة طعن الكرب السريعة… ولن أنسى ذلك الراعي الأرمني أدور مع عنزاته الخمسة يرعاها مقابل دارنا بالدواسة في بقعة لا نبت فيها… كان ابداً ساهياً يدمدم مع نفسه وابداً كان معه كتاب عتيق بالانكليزية يقرأ فيه وفي خرجه المعلّق بكتفه دفتر ملاحظات ثخين يخرجه بحرص ليدوّن عليه عبارات غير واضحة لنا بالانكليزية ثم يعيده لمخبئه… كنّا في الخامس الادبي والكتاب المقرر علينا بالانكليزية هو بلد العميان لويلز… كنا نستعين بأدور لتدريسنا الكتاب وكان صعباً بلغة انكليزية قديمة، كان استاذنا في الانكليزية يونس عزيز الدكتور فيما بعد وكان يستغرب من ترجماتنا أثناء الدرس ويقول من أين لكم هذه الترجمة؟ فنجيب من الراعي ابو البرنيطة والعصا أدور، فيظل مندهشاً، ولكن أدور لم ينفعنا بشيء ونحن نواجه امتحان البكالوريا، فما أن يترجم لنا سطراً وسطرين حتى ينسانا ويروح مهمهماً مع نفسه بلغة غريبة علينا، أو متحدّثاً مع عنزاته شاتماً وموبخاً مؤنباً لواحدة حاولت الابتعاد عن القطيع الصغير ناسياً ما كان قد قاله لنا قبل لحظات وبلغته العربية المهلهلة الركيكة…
في ثمانينيات القرن الماضي نشرت بعض قصص اولئك المجانين كقصص فنية وبعضها جاء كصور قلمية و شواهد بعنوان من ذاكرة المدينة في جريدة الحدباء التي هي الان بين عيونك وايديكم… بعدها بسنوات اضفت قصصاً اخرى نشرتها في جريدة المدى البغدادية ومجلة الموقف الادبي السورية و الاسبوع الادبي السورية، ثم بعدها في الزمان اللندنية بطبعتها الدولية وطبعة العراق…
قبل أسابيع ولنقل شهراً أقل أو اكثر نشر الباحث والكاتب سعد الدين خضر مقالاً تحدّث فيه عن نشرياتي لبعض قصص المجانين في جريدة الحدباء بطبعاته القديمة وأورد في مقاله معلومة مهمّة لم أكن أعرفها… قال سعد الدين خضر وبما معناه ان رئيس تحرير جريدة الحدباء سابقاً كان يجد حرجاً في نشر بعض قصص المجانين لأنور عبد العزيز والسبب هو خشية أن تحدث مثل هذه القصص أحزاناً وآلاماً وحرجاً لأهليهم وأسرهم وعوائلهم رغم ان كل القصص لم تنشر أبداً باسم المجانين الحقيقية بل بالالقاب التي يعرفها عنهم أهل الموصل… ومع ذلك فان رئيس التحرير في تلك السنين كان يحتاط للامر لان من اولئك المجانين مَن هو من عوائل وأسر مشهورة ومعروفة في المدينة حتى لو لم يذكروا بالاسماء… كل ما كتبته هو مقدّمة وهي عندي شأن خاص ليس غير… والآن مع الكتاب الابداعي الحيوي والمثير لصاحب العشرين كتاباً التي ظهرت بداياتها في مطلع ثمانينيات القرن الماضي، وهي كلها ابداعية، كماً ونوعاً، لجدّية كاتبها في التفاعل مع سحر الكلمات وجماليات القول… لغة نجمان ياسين المضيئة الحالمة بمزيج متناغم من عذوبة شعر وموسيقى ونثر وسرد متجانس وبؤر ضوء سينمائي وومضات خاطفة لكاميرا ذكية تلتقط الواقع لتحيله اجنحة متراقصة لخيال مبهر مشرق بمخزون من كلام ووقائع وأحداث واصوات وهمسات وترانيم وسعادات وأنين وموجعات أو مفرحات مما اختزنته ذاكرة الطفولة والصبا… ذاكرة الطفولة والصبا التي هي التأسيس العجائبي لكل ابداع مخبوء لسنين قابلة… وهذا ما فعله نجمان ياسين… هذا ما أبدعه في كتابه السردي الأثير جنون وما أشبه … الذي هو من اصدارات الدار العربية للموسوعات ببيروت في طبعته الاولى لسنة 2012… كتاب الجنون هذا في أربعين ومائتي صفحة من القطع الكبير بمقدّمة للكاتب سمّاها وعنونها إضاءة بعدها بعشرين نصّاً أو قصّة قصيرة … وبنهاية نقدية توثيقية جاءت على شكل شهادات مركّزة حول خصوصية جنون وما أشبه كحالة ابداعية متقدّمة… الشهادات كانت دقيقة في مؤشراتها النقدية وجاءت ايجابية وبكل استحقاق لكاتبها… أربعة من المبدعين منحوا المجموعة وكاتبها، وبكل محبة وألفة وحميمية وتقدير، قناعاتهم المتكاملة بحيوية القصص والثقة بنجاحات الكاتب في سرده الابداعي… الشاهدون هم اربعة من المبدعين معد الجبوري بشاعريته المترفة وأمجد توفيق وثامر معيوف بابداعهما القصصي والدكتور محمد صابر عبيد بابداعه الاكاديمي والأهم النقدي…
سراديب مهجورة
قبل أن أقرأ قصص المجانين هذه مجموعة وموحّدة في كتاب، فقد سبق أن قرأت بعضها قبل قليل من السنين في جريدة الموصلية … استهوتني هذه القصص لواقعيتها ولروح الحنان والقبول بحالة هؤلاء المجانين لا الرفض… هم بعض من ذكريات واستذكارات طفولته وصباه في محلة الشيخ فتحي و شارع الفاروق و الأحمدية و الجسر العتيق و الميدان و القليعات و سوق السمك و الخاتونية ، وفي كل محلة ومكان وزقاق كان يأنس به هؤلاء عندما يطمئنون من أذى قسوة البشر وسخرياتهم، فان شعروا بخطر المؤذين والمتحرشين بهم بلا رحمة، فهم يلجأون لأماكن الخفاء في مقبرة أو تحت قنطرة أو في سراديب مهجورة لبنايات متهدّمة… التعامل مع المجانين وقصصهم ووقائعهم ويوميات حياتهم لا تحتمل السرد المبني على تهويمات الخيال وافتراضات الرومانسية… خشونة حالتهم وبؤس وجودهم وهم بمجموعهم واختلاف مظاهر جنونهم امّا ضحايا لأمراض وراثية، أو ضحايا فقر وجوع وتخلّف وهوان لأهليهم، أو من ضحايا القهر السياسي أو الاجتماعي، أو من ضحايا الغدر من قبل أقرب الناس اليهم، ومنهم من هو ضحيّة حبّ تجريدي كاسح لم ينته بجنون مسرّات وفرح الحلم بنوال الحبيبة، بل انتهى بجنون من نوع آخر أوصله لحالة التيه والعري والحفاء وضياع أيّ وعي يربطه بدنيا الناس والحياة… المبدع الاستثنائي كان واعياً لمهمّته كقاص ومشاعره كانسان عندما هجر في معالجاته القصصية لهم أية جملة أو عبارة أو كلمة توحي بالانتقاص منهم، وعندما هجر أية تعابير توحي ببطر الكاتب تجاههم واتخاذهم كمادّة مسلّية يلهو بها ليس أكثر عبر كلمات مبهرجة ملوّنة خادعة لا تنفع القاص في ابداع فنه القصصي… كنت انتظر الموصلية الجريدة اسبوعاً بعد اسبوع لاستأنس واستمتع بقصصه وخاصة تلك التي كان بطلها أبو الزمايل هذه الشخصية البسيطة المفجوعة والموجعة بحياتها اليومية مع فكاهات ومقالب تحصل لها، كم أحزنتني لمفارقات حياتها والتي استطاعت في بعض مواقفها ان تضحكني، وأنا أقرأ، بصوت مسموع، يكفي أنها أضحكتني في زمن لم نعد نحلم فيه بضحكة أو فرحة، أبو الزمايل أطلق ضحكة فرح في روحي أنا الذي لم أصدّق أنني، ومنذ سنوات ليست قليلة، صار الضحك عندي وبات شيئاً من ترف الماضي البعيد… قصة تثيرك حزناً ولوعة وفرحاً ومسرّة وضحكاً لا بدّ أن تكون روح الابداع قد تغلغلت في أدقّ مساماتها الفنية كقصّ يؤكد ان النتاج الادبي، أيّ نتاج، ان لم يكن موجّهاً لروح الانسان وعقله وقلبه وضميره، وان لم يكن متفاعلاً مع القارئ لا يحقق له أيّة متعة وفائدة مضافة، يظلّ نتاجاً عقيماً خاوياً كعظام نخرة متآكلة لا تشمّ منها غير رائحة الموت والعفن والخواء… نجمان فعل غير ذلك وأتحف قرّاءه بقصص واقعية انسانية موغلة في العمق وبما أراه مؤشراً كبيراً على اضافة مهمة في السرد القصصي العراقي بل العربي عموماً ذلك أنّ القاص تبسّط مع مجانينه واحتواهم بمحبته ولم يهدف لان يجعل منهم موضوعات أو ثيمات لقصص ليس غير، وهو وكما كان انساناً فقد كان حريصاً على تعامله مع انسانيتهم حياتياً وقصصياً، ومن لغة كانت الحياة لهؤلاء المهمومين… ومن هذا ولذا كانت النتائج نجاحات باهرة في فن القصّ… أقول بل وأزعم كما يعبّر الاكاديميون أن القاص نجمان ياسين ربّما لاقى بعض المصاعب، وتحديداً، في مجموعته عن المجانين، اذ صار من المعروف ان الكاتب في معظم كتبه ونشرياته، الا التاريخية الاكاديمية، ينحو ومنذ بداياته عاشقاً للغة السحر والموسيقى والعذوبة ليس في الشعر فقط، بل في فنونه النثرية، وهو حتماً قد واجه مشقّة في تعامله مع صنف ضائع تائه من البشر المجانين الذين لهم حركاتهم ولغاتهم الخاصة، لذا فقد اخترع لغة أكاد أسمّيها لغة المجانين وبثقة مطلقة استطيع القول انه نجح في ذلك وأنه كان أميناً اكثر في ترجمة مصطلح جماليات القبح ، هذا المصطلح النقدي الذي استطاع عبره ان يحيل حالة البؤس والفقر والجوع والجنون والجرب والقبح الانساني المادي البايولوجي والنفسي الى جماليات أثيرة عندما تصير جماليات كتابة فن وقصص وهدايا من تجارب انسانية للاخرين…
جنون وما أشبه كتاب قصصي في أو من عشرين قصة واذا كانت للعناوين دلالاتها الكبيرة كما يلحّ النقّاد، واذا كان العنوان هو ثريّا النص النجم الهادي لعابري الصحارى وبحار الرمل، فلم لا تكون العناوين او العنوانات دليلاًَ شارحاً ومعبّراً وليس بديلاً أبداً عن الحالة العامة للقصّ، فان العشرين عنواناً بل وأكثرها كان مؤشراً أو منبّهاً لما سيأتي من حالة القصّ لهذا أو ذاك من المجانين، وهي العناوين ذاتها التي ظلّـت متواشجة منسجمة متآلفة مع ثيمة النص وروحيته وبواقعيته الظاهرة… ومن هذه العناوين كدليل خيول الفتى، بيضة حمدون ابو الجبن، جنيّة الولد اليتيم، حرائق آسيا، سر حمّوش الهبل، كيف مات حامد المجنون؟، خطيئة سعيد أفندي، بكاء دهشان السكران، حجارة لها عيون، مآثر رأس الافعى، عشيق الملكة، تلك الحمير…
افعال ساذجة تافهة
اما عن لغة القص فاسجّل للقاص موهبته في القدرة على تجميع تهويمات مجانين وشحطات مجانين وبلمّ أشتات من كلمات ورموز ومقاطع مهلهلة مفكّكة بمضطربات عقول اصحابها التائهة ليخلق منها كلام بشر و حوارات حافظت على ان تظل من لغة المجانين دون ان يتدخل القاصّ حتى على حذف او تهذيب بعض الفاظها فتركها لهم لغة حياة ولغة مجانين… هكذا اراد وكما نطق بها مجانينه… لم يكن ابداً أمراً سهلاً اخضاع هذرهم لتقنية قصصية خاصة عندما نسعى لنحيط بذلك التخبّط والهذر وهوس الكلام ونسيطر عليه لنلمه ونضعه في كلام دارج او حوار قصصي له اشتراطاته الفنية رغم كل غموضه ومضطرباته…
اسلوبية القصّ جاءت في اغلبها معتمدة الحوار… وأيّ حوار طبيعي سلس مقنع وكما يجري في الحياة وبطرافة الحوارات التي نتحسس عافيتها واقعاً ولغةً بين ما يرويه السارد او الراوي العليم او القاص بين عاقل ومجنون أو بين مجنون ومجنون أو بين كومة من خليط عجيب من عقلاء ومجانين وحتى ممن لا تستطيع فرزهم او وضعهم في خانة عاقل أو مجنون… كان لخال الراوي او السارد التأثير الكبير في ايضاح ما تفرزه العقول القاصرة الضامرة من اقوال وطروحات وحركات يستحيل بعضها لافعال مؤذية أو افعال ساذجة تافهة تبدو نتائجها مضحكة في غالبية الاحداث… هذا الخال الاليف المحبوب من قبل الصغير المستغرب والمتسائل ابداً عن اسرار حركات المجانين طالباً من خاله تفسيرات لها ويجيبه الخال بواقعية او تكهنات وقد لا يجد، في حالات، عند خاله وهو قدوته ونموذجه في قوّة العقل والادراك لا يجد عنده أي تفسير لظاهرة غريبة فيضطر ملتجئاً للحيرة والصمت بعد الحاح لا نفع فيه… وكان الاحلى ايضاً في هذه الحوارات تغذيتها وتطعيمها بعبارات او كلمات عامّية مما تشيع في الاوساط الشعبية الأمية البسيطة التي تستعيض للتعبير عما تريده، باقوال وأمثلة دقيقة عن الحالة المطروحة وبكل تلقائية غير متكلّفة تعويضاً عما حرمت منه من اشكال كلام المتعلمين او القارئين ولو في الحدود الدنيا .. وبعد هذا وذاك فالقاص كان حريصاً على تصوير روح التآلف بين شخوصه والمكان وبحرفية وفنية عالية تحسب له امتيازاً، اسم المجنون أو لقبه ومكان تواجده وما يصدر عنه من قول او فعل كانت كلاً متلاحماً يحفر في عيون القارئ او القرّاء وذاكرتهم ومخيلتهم ان ما كتبه القاص لا بد ان يكون قد حدث فعلاً فيطمئنون له ويتواصلون مع القصة حتى النهاية وبكل متعة وشغف…
هذا كتاب قصصي بهي مقروء… وسيقرأ غداً وبعده… وبعد سنين وأكثر وأكثر وسيترسّخ في ذاكرة القرّاء لاكثر من جيل من القرّاء، ليتأمّلوا ويستعيدوا من خلاله زمناً سابقاً من حياة مدينتهم وناسها ويومياتها الحياتية، ليس فقط لاسياد القوم من العقلاء بل وحتى لمجانينها وبكل شقائهم وبراءتهم ومن ايام قاسية موحشة مرت بهم وبما رافقها من فسحات مسروقة لكلمة ضاحكة مضحكة وفكاهة واستراحات نفسية اشاعتها حركة بريئة هي لازمة لهذا المجنون او ذاك او قولة جنونية مؤنسة لم ينتشِ بها اولئك المجانين وحدهم بل اشاعت المرح والمسرّة حتى في نفوس العقلاء، وليدرك قراء الاجيال لازمان لاحقة ايضاً أن ملامح مدينتهم في وجوهها وبشرها لم تكن ابداً صارمة جدّية عابسة، بل تخللتها فترات، وان كانت قليلة، من ابتسامات وبشاشات وفرح، وكان مثل اولئك المجانين بافاعيلهم واقوالهم المرسومة في عقولهم التائهة ومع المقالب التي كان يصنعها لهم العقلاء بخبث أو براءة أحد المسببات لفرح النفوس وكذا سيتأكّد الاحفاد القادمون ان ما مرّ بمدينتهم وناسها لم يكن دائماً موجوعاً بالالم والاحزان والنكبات ومع الكوارث الرهيبة التي مرّت بهم وعليهم، انهم وبروح من الآمال الواعدة أن نفوسهم ستظلّ حيّة باشراق التفاؤل وستظل تطلب ولو مسروقات من الوقت لانعاش الجسد والعقل والروح وان القلوب اذا كلّت عميت … وربما كان هذا ما هدف اليه المبدع نجمان ياسين في مشروعه الجنوني قصصياً والذي أرى انه قد حقّق فيه اكثر من هدف حياتي وتربوي وانساني قارب ان يشكّل ملحمة في الفن القصصي المعاصر، وان ما ساعد او حقق مثل هذه الملحمة هو منظومة الطفل بذاكرته النشيطة المتحفّزة المستثارة وبهواجسه البريئة الحالمة الراغبة في الكشف والفهم بتساؤلاته الملحاحة، مع حكميات الأب وخبراته الحياتية مع كل اصناف البشر، والاكثر تأثيرأً ذلك الخال البسيط المتواضع والمؤثر في روحية الطفل وعقله، الطفل الذي صار هو الراوي العليم والشاهد، ومع وجود حموش الاهبل و ابو الزمايل وأمثالهما… تلك المنظومة ومع المراقبة لحشد آخر من المجانين، ومع مراعاة رسم خارطة أمكنة تواجدهم التي تكاد تكون ثابتة عند اغلبهم الا في بعض ايام ضاعوا منها وظلت سراً… تلك الاماكن التي توحّدوا بها وصارت عناوين لهم، أما الزمان في قصص المجانين هذه فظل متذبذباً وغير واضح ملغياً حتى لتأثير الفصول، ففي قلب الشتاء ترى مجنوناً حافياً شبه عارٍ قد شطب أي مفهوم او احساس بالبرد، وفي حرّ الصيف والشمس الكاوية تراه ملتحفاًبسترة ثخينة كبطانية وبجوارب صوفية…
ضحكة بعد ضحكة
من الملاحظ على تلك المنظومة بشخصياتها المتنوعة تأثر الطفل الراوي فيما بعد بشخصية الخال المهيمنة على مسار الكثير من الاحداث… ذلك الخال الذي عرفنا ومن خلال السرد القصصي أنه كان المتعلّم الوحيد وابن جامعة وسط حالة بشعة من أمية وجهل وتخلّف وهذا ما جعله يطغى حتى على شخصية الاب في التأثير بالطفل الصغير النشيط المتسرّع لاكتشاف اسرار وغوامض ما يشاهده، لذا فقد كانت تفسيرات الخال هي ما جعلته أثيراً عند الطفل… كل ذلك هو البشارة بالخلق الحياتي والفني الواعي لهذه المجموعة المتآلفة بقصصها وحكاياها هدية الكاتب الذهبية لقرائه…
وأنا كواحد من القرّاء لن أنسى الملامح الحزينة لاولئك المجانين وكما ابدعها الكاتب، والحزن المرّ والتيه الذي عانوه في حياتهم المضطربة بعد ان انسلخوا عن وعيهم ووعي العالم… ومعها لن انسى، وكما ذكرت، تلك الضحكات المفرقعة المتعاقبة وأنا أعايش تذكارات اولئك المجانين في حالات صخبهم ومرحهم وما يقررونه ويصرون على فعله أو ما يرفضونه، ومع غرائب المقالب التي يدبّرها أنداد لهم من العقلاء المرشحين للانتقال الى خانة المجانين… ضحكة بعد ضحكة بعد ضحكة وأنا وحيد في غرفتي… ثم بعدها وانا صامت مصدوم بذهولي وحزني خجلاً من ضحكاتي، مع انها انعشت روحي وعقلي، فالسفهاء والحمقى فقط يستطيبون ويستطيعون الضحك في هذه السنين الكالحة ومع كل الوان المخزيات والعاهات والعفن والعقم والعوق والعهر البشري وتشوّهات الحياة والجرب والجيفة وتوديع القيم والضمائر في هذا البلد الحزين… عذراً لقارئي فانا ابداً لست، ولن أكون، واحداً من هؤلاء الحمقى والسفهاء، فابداع الكاتب، وبكل استحقاق، وليس غير وملاحظاته لمجانينه هو الذي نقلني لحالة مرح، وكما غيري، وبعد سنين الالام والموجعات رسمت على وجوهنا ملامح كآبات ثقيلة يبدو انها سترافقنا لسنوات طويلة قادمة… فأنا انظر واحدّق وأبحلق فلا تلتقط عيناي ولو رفّة ضوء في آخر النفق بل وحتى في الافق البعيد البعيد…
مجداً للتراث الحضاري للمدينة العريقة… ولهذا الوفاء الجميل حتى لتراث مجانينها بلطفهم وبراءتهم وضياعهم في التيه الابدي ومع حزنهم ووجودهم الأليف… ولمبدع هذه المجموعة الذي تقمّص وزاوج بين اعلى مراحل الجنون وغياب العقل وبين ما كان ينزفه اولئك البؤساء، دون وعي منهم، من ارهاصات فاقت بافاعيلها واقوالها دنيا العقلاء… ولتلك الاستذكارات والاسترجاعات لماضٍ كان بهيّاً وجميلاً من عمر هذه المدينة قد يجد فيه ناس هذا الزمان نبض حياة آفلة لابائهم وأجدادهم وبمسرّات أو محزونات الايام والسنين أهداها لهم ذلك الفتى الواعد ومن الحيّ العتيق … الحيّ العتيق الذي اراه ايضاً يصلح عنواناً أثيراً لرواية باذخة مؤثّرة منطلقها ومسراها من جنون وما اشبه ومع مجانين آخرين ومع من بقي، في هذا الزمان، من عقلاء في طريقهم الى الجنون…
/9/2012 Issue 4307 – Date 18 Azzaman International Newspape
جريدة الزمان الدولية العدد 4307 التاريخ 18»9»2012
AZP09