بيـــن ذراعيهــــا.. الى مدرستي الابتدائية أبي تمام- نجمان ياسين

نجمان ياسين

‭( ‬الى‭ ‬مدرستي‭ ‬الابتدائية‭ ‬أبي‭ ‬تمام‭ )‬

الآن‭ ‬،

جسدُ‭ ‬مترَعٌ‭ ‬بالأشجان‭, ‬وذاكرة‭ ‬مثقوبة‭ ‬تبرق‭ ‬بوهج‭ ‬الدماء‭ ‬،

أقف‭ ‬في‭ ‬باحتك‭ ‬المرمر‭ ‬،

وأُمِّرغ‭ ‬الروح‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الضوء‭ ‬الملتمع‭ ‬من‭ ‬أرضك‭ ‬المباركة‭ ‬،

أستعين‭ ‬على‭ ‬نزيف‭ ‬عقلي‭ ‬برفيف‭ ‬فراشاتك‭ ‬الحالمة‭ ‬،

انفض‭ ‬الغبار‭ ‬عن‭ ‬وجهي‭ ‬واسري‭ ‬صوب‭ ‬سرب‭ ‬الحمام‭ ‬،

المستكين‭ ‬في‭ ‬شرفاتك‭ ‬الوادعة‭ ..‬

الآن‭ ‬،

هذا‭ ‬الكهل‭ ‬الفتى‭ ‬يقف‭ ‬في‭ ‬فنائك‭ ‬المشحون‭ ‬بالإشراق‭ ‬،

جسداً‭ ‬مهزولاً‭ ‬وروحاً‭ ‬متعثرة‭ ‬تنتظر‭ ‬‮«‬بدلة‮»‬‭ ‬معونة‭ ‬الشتاء‭ ‬،

عيناه‭ ‬حريق‭ ‬وصوته‭ ‬همسة‭ ‬حائرة‭ ..‬

الآن‭ ‬،

هذا‭ ‬الصبي‭ ‬الكهل‭, ‬مكبل‭ ‬ومطحون‭ ‬القلب‭ ‬،

تشجيه‭ ‬العجلات‭ ‬والمدرعات‭ ‬،

لا‭ ‬يبصر‭ ‬في‭ ‬السماء‭ ‬سوى‭ ‬بذاءة‭ ‬الطائرات‭ ..‬

بين‭ ‬ذراعيك‭ ‬كنت‭ ‬أبصرت‭ ‬السماء‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬زرقاء‭ ‬،

والشمس‭ ‬قطرة‭ ‬ندى‭ ‬ناعمة‭ ‬،

وكنتُ‭ ‬رأيتُ‭ ‬جدرانك‭ ‬مزدانة‭ ‬بزغب‭ ‬العشب‭ ‬،

وحرير‭ ‬الخضرة‭ ‬المنداة‭ ‬بصلاة‭ ‬الملائكة‭ ..‬

الآن‭ ‬،

أين‭ ‬أنا‭ ‬من‭ ‬ذراعيك؟‭ ‬

في‭ ‬أي‭ ‬غيهب‭ ‬جُبٍ‭ ‬أهوي‭ ‬وعلى‭ ‬أي‭ ‬جمر‭ ‬أتقلب؟‭ ‬

الآن‭ ‬،

بعيداً‭ ‬عن‭ ‬ذراعيك‭ ‬،

السماء‭ ‬دخان‭ ‬والشمس‭ ‬مطفأة‭ ‬،

المياه‭ ‬حطب‭ ‬يابس‭ ‬وروحي‭ ‬خشبة‭ ‬،

الآن‭ ‬،

تنادينني‭ ‬أم‭ ‬أُناديك؟‭ ‬

روحي‭ ‬جناح‭ ‬قطاة‭ ‬هائمة‭, ‬ودمي‭ ‬براق‭ ‬تحرسه‭ ‬الملائكة‭ ‬،

أسري‭ ‬بكلي‭ ‬وأسري‭ ‬ببعضي‭ ‬،

كي‭ ‬ألمَّ‭ ‬شظايا‭ ‬روحي‭ ‬المتناثرة‭ ‬،

أُقِّبلَ‭ ‬ترابك‭ ‬الغض‭, ‬وأكرع‭ ‬جرعة‭ ‬ماء‭ ‬من‭ ‬بئرك‭ ‬السلسبيل‭ ..‬

الآن‭ ‬،‭ ‬أتحسس‭ ‬رغيف‭ ‬خبز‭ ‬التنور‭ ‬،

أدنيه‭ ‬من‭ ‬قلبي‭ ‬أرش‭ ‬عليه‭ ‬السكر‭ ‬وأُبلَّه‭ ‬بالماء‭ ‬،

وأشعر‭ ‬بالدفء‭ ‬يسري‭ ‬في‭ ‬عروقي‭ ‬اليابسة‭ ‬،

والآن‭ ‬،‭ ‬طعم‭ ‬الرغيف‭ ‬مر‭ ‬وشائك‭ ‬وبارد‭ ‬مثل‭ ‬زمهرير‭ ‬ليل‭ ‬الإحتلال‭ ‬،

ماذا‭ ‬جرى‭ ‬للصبي؟‭ ‬وكيف‭ ‬أضاعته‭ ‬الطرقات؟‭ ..‬

أمسك‭ ‬الآن‭ ‬،

شدو‭ ‬عصافيرك‭ ‬الشريدة‭ ‬،

وألوذ‭ ‬بحزن‭ ‬الفواخت‭ ‬في‭ ‬شرفاتك‭ ‬العالية‭ ‬،

يقودني‭ ‬النداء‭ ‬الى‭ ‬البشير‭ ‬والنذير‭ ‬،

يستبدل‭ ‬أسلاك‭ ‬دمي‭ ‬الصدئة‭ ‬،

سنبلة‭ ‬مرة‭ ‬ومرة‭ ‬قنبلة‭ ‬،

يهديني‭ ‬اللهب‭ ‬ويرميني‭ ‬في‭ ‬الجلجلة‭ ..‬

الآن‭ ‬،

أجدني‭ ‬فيك؟‭ ‬أم‭ ‬تجدينني؟‭ ‬

أناديك‭ ‬أم‭ ‬تنادينني‭ ‬

اهرب‭ ‬من‭ ‬نفسي‭ ‬اليك‭ ‬ام‭ ‬اجدني‭ ‬لديك؟‭ ..‬

الآن‭ ‬،

أُبصرني‭ ‬أُكَحِل‭ ‬عيني‭ ‬بضوء‭ ‬علم‭ ‬العراق‭ ‬،

وأنشد‭ ‬مع‭ ‬الفتية‭ ‬المشاكسين‭ ‬المتراصفين‭ ‬في‭ ‬ساحة‭ ‬المدرسة‭ ‬؛

‭- ‬موطني‭, ‬موطني‭ ‬،

الآن‭ ‬،

أنفض‭ ‬هذا‭ ‬الرماد‭ ‬عن‭ ‬علم‭ ‬بلادي‭ ‬وأطرد‭ ‬كلَّ‭ ‬الأعلام‭ ‬المدنَّسة‭ ‬،

الآن‭ ‬،

دمي‭ ‬يهتف‭ ‬ودمي‭ ‬ينشد‭ ‬،

ودمي‭ ‬يرفرف‭ ‬في‭ ‬سمائك‭ ‬اليافعة‭ ‬،

بين‭ ‬ذراعيك‭ ‬كنت‭ ‬تقلبت‭ ‬في‭ ‬مشيمة‭ ‬الخلق‭ ‬،

أدركت‭ ‬رحم‭ ‬المحلات‭ ‬العتيقة‭ ‬وارتميت‭ ‬في‭ ‬نعومة‭ ‬النهر‭ ‬وسر‭ ‬الغابات‭ ‬،

آخيت‭ ‬بين‭ ‬الحليب‭ ‬المحبوس‭ ‬في‭ ‬صدري‭ ‬وحليب‭ ‬‮«‬الجاموس‮»‬‭ ‬

لأمسك‭ ‬وهج‭ ‬الجمر‭ ‬في‭ ‬الغام‭ ‬جسدي‭ ‬،

وأرتبك‭ ‬أمام‭ ‬خشونة‭ ‬صوتي‭ ‬المبكرة‭ ..‬

الآن‭ ‬،

أذكر‭ ‬شرف‭ ‬الفقر‭ ‬وقدسية‭ ‬الفقر‭ ‬،

وهزيمة‭ ‬دسائس‭ ‬‮«‬أبناء‭ ‬الذوات‮»‬‭ ‬

أمام‭ ‬النور‭ ‬المنهمر‭ ‬من‭ ‬رأسي‭ ‬البركان‭ ‬،وأذكر‭ ‬أغنيتي‭ ‬الفارعة‭ ‬،

واذكر‭ ‬دمعتي‭ ‬ودمي‭ ‬المسفوح‭ ‬في‭ ‬الطرقات‭ ..‬

الآن‭ ‬،‭ ‬أذوي‭ ‬كالحب‭ ‬بين‭ ‬يديك‭ ‬،

أشهق‭ ‬بالحنين‭ ‬والحريق‭ ‬،

وأمسك‭ ‬خيط‭ ‬النور‭ ‬المنبثق‭ ‬من‭ ‬صدرك‭ ‬الخصيب‭ ‬،

أجعل‭ ‬منه‭ ‬قنديلاً‭ ‬،‭ ‬ودليلاً‭ ‬،

وأجعل‭ ‬منه‭ ‬،

زادي‭ ‬وزوادتي‭ ‬في‭ ‬طريق‭ ‬الجلجلة‭ ..‬

الآن‭ ‬،‭ ‬لك‭ ‬وحدكِ‭ ‬،

أن‭ ‬توقفي‭ ‬نزيف‭ ‬هذا‭ ‬الجرح‭ ‬الراعف‭ ‬،

في‭ ‬ليل‭ ‬الإحتلال‭ ‬،

وأن‭ ‬تعيدي‭ ‬وسامة‭ ‬طفولتي‭ ‬الضائعة‭ .‬

مشاركة