الوركاء أميرة دويلات المدن 3 3

الوركاء أميرة دويلات المدن 3 3
علاقة سرية بين الماء والحضارة السومرية
حامد فاضل
..ولد الدين من رحم المستوطنات التي أحتضنها السهل الرسوبي ، ومن قبل أن يولد التأريخ ، ظهر المعبد الذي هو مسكن الآلهة وأخذ على عاتقه إدارة الحياة الدينية والاجتماعية والاقتصادية .. فكان توأم النشاط الاجتماعي في مناحي الحياة كافة منذ ظهور دويلة المدينة في جنوب العراق ، حيث ساد الاعتقاد الذي توارثته الحضارات القديمة بأن لا قيمة لأي مدينة من دون معبدها ، ولا قيمة للمعبد من دون إله .. وطبقاً لهذا الاعتقاد فقد كان لكل دويلة أله خاص بها ، هو مالكها وحاميها ، وله حق السيادة على سكانها . وتولى المعبد ترسيخ هذا الاعتقاد ، فالمدينة » بأراضيها » بسكانها » بثرواتها » تمثل مقاطعة أله المدينة الذي يمثله » الحاكم » الملك » الكاهن » وما خلقت الآلهة الإنسان إلا ليخدمها . وقد وجد المعبد ليسهل للناس كافة مهمة خدمة الآلهة من خلال ارتباطهم بخدمة المعبد الذين يمثلهم الشتامو19 الذي يرأس الجهاز الإداري للمعبد ، وهو الذي يدير الشؤون الاقتصادية . يساعده القيو ممثل الملك الذي ينوب عنه في البت في القضايا التي تخص المعبد ، بالإضافة الى مجموعة كبيرة من الكتاب ، والناس الآخرين الذين ينذرون أنفسهم منذ الصغر لخدمة المعبد الذي يقوم » بإيوائهم » وإطعامهم » واكسائهم » .. كان المعبد يستأجر العمال والعبيد للعمل في الأراضي الزراعية العائدة إليه . وكانت المحاصيل التي تنتجها مقاطعات المعبد تجلب أولا الى المستودعات في الوركاء مهما كانت وجهتها النهائية . حيث ترسل فيما بعد الى الخارج ، لتستبدل » بالفخار » الشب » السمسم » المعادن » القماش » وكانت العاصمة تستورد النبيذ المنتج في الوركاء .. تذكر إحدى الرسائل المرسلة من بابل الى الوركاء سخط السلطة لان النبيذ المرسل الى بابل حُمِلَ في واحدة من السفن التي تحمل القير .. وتشير الرسائل التجارية التي اكتشفت في الوركاء الى أن المعابد كانت تلعب دورا متميزا في التجارة . تقول إحدى الرسائل التي كتبت عام 616 قبل الميلاد ، والمرسلة من شتامو احد المعابد الى شتامو معبد يقع الى الشمال من مدينة الوركاء.
استعمال الزخارف
ليبعث أخوتي عفصا بما قيمته مناً من الفضة ، وليأتي رسولكم إلي ، وسأرسل سمسماً أبيض مقبولا لدى أخوتي بما قيمته مناً من الفضة .. من أهم المعابد التي اكتشفت في الوركاء ، معبد آنو الذي أقيم في القسم الغربي من المدينة وفي الموقع الذي شيدت فيه زقورته على شكل مرتفع اصطناعي ارتفاعه حوالي 40 قدما . يرقى إليها بثلاثة منحدرات ، حيث شيد معبدان أطلق عليهما D و A ومعبد أي أنا المعبد العشتاري الكبير الذي أقيم لآلهة السماء أنانا عشتار في قسم الوركاء الشرقي ، والمعروف بالمعبد الأبيض لأنه مطلي بالجص ، وهو أكبر معبد بني على اليابسة في أرض الدلتا في وركاء ما قبل التأريخ .. استمر استعمال الزخارف الجدارية المؤلفة من المسامير الطينية الملونة الرؤوس ، وأضيفت اليها في دور جمدة نصر أشكال حيوانية ورموز اللآلهة أنانا لتنظم الى ما تحتويه المعابد من التعاويذ المشكلة على هيئة حيوانات .. وهناك ستة معابد أخرى شيدت في المنطقة الأولى على هيئة أزواج موزعة بين الطبقتين الخامسة والرابعة ، كل معبدين متجاورين ، يخصص الأول منهما لعبادة الآلهة أنانا عشتار ، والثاني لعبادة قرينها ألإله تموز ، كانت معابد الآلهة الكبار تتوزع على أراضي المنطقتين اللتين تتكون منهما الوركاء ، فهناك المعبد الذي سميّ بالكلسي لأنه أقيم على مصطبة من حجر الكلس . وهو معبد تصل سعته 75 29 ) متراً ، مزين كبقية المعابد بالفسيفساء الجميلة ، المكونة من مخاريط من الطين المشوي ، تتراوح أطوالها ما بين ثلاثة الى ستة انجات ، برؤوس ملونة » سود » حمر » بيض » مثبتة بجدران المعبد المملطة بالطين .. كما كشف في القسم المسمى A )) من المنطقة الرابعة عن معبدين أبعاد أولهما 83 53 )) متراً وأبعاد الثاني 54,20 20 ,22 )) متراً ، وثلاثة معابد في القسم المسمى B )) .. وهناك ستة معابد وركائية أخرى ، خصصت لعبادة الإله آنو تلوح لعين الرائي على شكل زقورة ، حيث شيدت الواحد فوق الأخر على هيئة دكات ترتفع نحو خمسين قدماً .. بنى المستوطنون الأوائل في وادي الرافدين المعابد الأولى على شكل حجرات مربعة من اللبن ، حيث يتكون المعبد من حجرة واحدة تحتوي جدرانها على الطلعات والدخلات ، وفي داخلها ينتصب المذبح ومصطبة القرابين . ومع تطور الهندسة والبناء في الأدوار اللاحقة توسع بناء المعابد ، وتطور تشيدها ، بحيث صار المعبد يتكون من أربع حجرات بدلاً من حجرة واحدة ، والمحراب أو السيلا الذي تقع الحجرات الأربع على جانبيه ، والمذبح الذي يقع قبالة المحراب ، ثم الممر الذي يقع خلف الحجرات .. في أطوار العبيد التالية أطلق مصطلح المباني التذكارية على المعابد المشيدة من اللبن المنتظم التي كانت تقام فوق مصاطب مدرجة منحدرة الارتفاع ، يرقى إليها بمنحدرات ترابية ، وقد شكلت هذه المباني أصل الزقورات وهي الأبنية الدينية التي تميزت بها حضارة وادي الرافدين .. بنى الأوركيون ، سكان أوروك المدرج أو الزقورة التي كانت تلوح للرائي من خارج المدينة ، والتي تمثل حلقة الوصل بين السماء والأرض .. يرجع أصل أول نموذج للزقورة بنيّ في وركاء ما قبل التأريخ الى العصر الحجري ، وهي الزقورة التي كان السومريون ، والساميون يقيمون على قمتها شعائرهم الدينية في عصر فجر السلالات .. وقد أستمد برج بابل الذي يُعَدُ أعظم الأبراج وأشهرها أسمه من أسم الزقورة فسمي أي تمن أي كي والذي يعني كما يقول المختصون بالسومريات بيت أساس السماء والأرض ، أو المعبد الذي أساسه السماء والأرض .. حيث تمثل الآلهة أساسه الذي في السماء ، بينما يمثل » الملوك » الحكام » الكهنة » أساسه في الأرض.. وقد بلغت المعابد السومرية ذروة أهميتها » الدينية » السياسية » الاقتصادية » الثقافية » ، حين كانت الوركاء مركزا حضاريا مهماً في التأريخ السومري . حيث أُعتُبِرَتْ قبلة المدن السومرية لأن أرضها المقدسة تحتضن معبد أي ـ أنا الذائع الصيت الذي امتدت ذراعاه لتحتضن الوركائيين كافة ، وتهيمن على جميع الأشياء والأسماء ، وتسمها بوسم المعبد المقدس ، الذي تجاوزت قداسته نطاق حدوده الجغرافية ، وصارت ظاهرة الاقتباس منه كمصدر للتوحد سمة فجر التأريخ ، الذي أشرقت شمسه بوحدة ثقافية غمرت أرجاء بلاد سومر ، وتجلت نصاعتها بوحدة الطرز المعمارية ، وتشابه النظم السياسية والدينية التي ساعد اكتشاف الكتابة على نشر مبادئها وتفاصيلها ، بحيث أصبحت علاماتها واحدة في مختلف المدن السومرية .. في منطقة أي ـ أنا وعلى أنقاض زقورة تعود الى العصر الشبيه بالكتابي وضع أور ـ نمو مؤسس سلالة أور الثالثة حجر الأساس لزقورة الوركاء الكبيرة ليتمها أبنه شولكي الذي تطور البناء في عهده وتميز باستخدام نوع من اللبن المستطيل الشكل المربع المقطع الذي أطلق عليه بالألمانية مصطلح ريمشن Riemchen .. لقد أُعْتِبُرَتْ معابد سومر الجنوبية أقدم من معابد أكاد الشمالية .. وكان الإله الأعظم آنو رب السماء » معروفاً » ومهيمناً » ومرموزاً » له بنجمة واحدة . أما سائر ألآلهة فهي جيش السماء ، مجموع ما يرصعها من كواكب .. وقد كرمه السومريون في الوركاء بزمن مبكر . وذلك في معبد أي أنا أي مسكن آنو أو بيت السماء ، وأصبح هو ألإله الأعظم عند السومريين والساميين على حد سواء .. وهو عندهم رب السماوات العلى ويشير القاضي علي الحميدي في مخطوطته عن السماوة على العلاقة بين معبد أي أنا وأصل تسمية السماوة منطلقاً من الكيفية التي استبدل فيها اللفظ السومري بآخر سامي .. حيث أستبدل لفظ رب السماء من السومرية الى معناه ليلفظ سامي وهو سموي الذي نعتت به أرض السماوة ، والذي كان تأثيره قد انبثق من معبد الوركاء الكبير المعروف بمعبد رب السماء . ثم امتد الى ما هو أبعد من السماوة حيث دعاه حمورابي في مقدمة شريعته الإله الأعظم .. وجعلوا مقره الذروة من قبة السماء .. فاسم السماوة كاسم الزقورة في معناه السومري هو السمو الذي جسده رب السماء الذي عُبِدَ في أول معبد شُيِدَ في الوركاء .. عشتار » ملكة السماء » آلهة الحب » الجمال » الخير » البركة » الزراعة » الحضارة » تطيبت بابتهالات الكهان ، بوركت بدعوات الأوركيين ، تدرعت بقداسة الآلهة ، ورحلت إلى كبد السماء لزيارة مقام أبيها الإله آنكي سيد السماء ، الذي أمر لها في لحظة من لحظات كرمه بأكثر من مائة هدية تظم جميع المقومات للحضارة السومرية ، وتشمل أموراً كالملكية التي تهبط من السماء ، والعدالة الحقيقة ..
الالهة المهيمنة
وقد صورت أسطورة عشتار عمق العلاقة بين الماء ومصادر الحضارة السومرية التي تجشمت هي عناء نقل مقوماتها إلى الوركاء .. عشتار سفيرة الوركاء التي هيمن اسمها على باقي الآلهة ، فتغنى بها شعراء سومر
هي المهيمنة هي سيدة الأرض
في ابسو استلمت صلاحية اتخاذ القرارات
أعطاها إيها أبوها آنكي
ووضع في يدها كهانة الملوكية العليا
وأقامت لها مع آنو مسكناً في المعبد الكبير
ومع انليل في بلاد سومر ثبتت الأقدار
وشهرياً عند بزوغ الهلال الجديد
ومن أجل أن تجعل الأمر مقدساًً صحيحاً
يجتمع أمامها آلهة بلاد سومر
ويبجلها الآنونكي الآلهة الرئيسية العظماء
وتُعُلَنُ بحضورهم سيدة بلاد سومر
عشتار سيدة الوركاء أو أننا سيدة السماء كما سميت في اللغة السومرية .. حطت الرحال في معبد أي ـ أنا وأُستهلت عبادتها في هذا المعبد ، ثم أصبحت هي الآلهة المهيمنة في جميع أرجاء الشرق القديم .. لقد بالغ السكان الأقدمون السومريون » والساميون » في تقديس هذه الآلهة ، لأنها كانت تمثل مصدر » الحب » الحنان » الرحمة » للناس كافة .. لذا فقد أُتْرِعَ الأدب السومري والبابلي بالتراتيل والأساطير الشعرية التي تمجدها ، وبخاصة رحلتها الى أريدو لنقل معالم الحضارة منها الى اليابسة .. لقد تبوأت عشتار عرش الأرضيين المعروفة بالهلال الخصيب ، وقد دلت كثرة القرابين التي كانت تقدم في العديد من المعابد التي شيدت خصيصاً لعبادتها على تقديس قدامى العراقيين لعشتار وإجلالها .. ولسموها وعلو مقامها فقد انتسبت اليها مدن أخرى مثل أربيل التي أصبحت مركزاً رئيسياً لعبادتها .. وقد ورد أسمها في المدونات المسمارية بصيغة بيت سيدة السماء على غرار كنيتها في الوركاء . كما شيدت لها معابد كثيرة في جل العواصم الأشورية … وانتشرت عبادتها عند الفينيقيين الذين كانوا يمثلوها في المجموعة الشمسية بكوكب الزهرة ، وأُطْلِقَ عليها أسم عشتار برية كما عبدت في بلاد الشام واشتهرت باسم بعلة أي السيدة على غرار أسمها الوركائي .. حيث اقترنت به أسماء بعض المدن مثل بعلة جبيلا .. كما عرفت باسم ملكة على غرار اسمها ملكة السماء الذي كان معروفاً ومشتهراً في الوركاء . وكان ملوك الأموريين ينسبون أنفسهم كخدم الى الآلهة عشتار التي أطلقوا عليها اسم عشرتا أو أشرتا مثل عبد أشرتا ، أما » الأكاديين » ألأشوريين » البابليين ، فكانوا يدعونها باسمها الوركائي عشتار في حين أطلقت عليها الأقوام السامية الأخرى اسم عشتاروت بينما سماها السريان عثر وجعل الكنعانيون اسم » بعلة » عاناة » عانة » صنو لها وند .. ومن الباحثين من يُرجع أسم بلدة عانه الى اسم عانه الذي عرفت به عشتار .. ويذهب البعض الآخر من الباحثين الى أن وثن العزة هي الزهرة ، كما يرى العهد القديم أن الملك سليمان ، كان يتعبد الى آلهة الصيد البابلية الأصل التي هي الآلهة عشتار .. في منتصف القرن الثالث عشر قبل الميلاد أطلق الفرعون رعميس الثاني على أبنه اسم ميري أشتروت أي محبوب عشتاروت .. أما في الديانات الفارسية القديمة فقد ورد اسم عشتار بصيغة أنا هيد ثم انسابت عشتار الى أساطير الإغريق ، وعرفت ب فينوس خالبة قلوب الرجال و أفروديت آلهة الحب والجمال ، المولودة من رغوة البحر ، المحبة للضحك ، التي ما أن تطأ قدماها الخفيفتان الأرض حتى ينبت فيها الورد .. وتظهر عشتار أيضاً ، في الأسطورة الألمانية المسماة فان هاوزر وهي التي تحكم جنة كلها ملذات حسية .. وهي الإله بستان كما وردت في الأساطير الايطالية القديمة ،.. وعندما قرن أسمها ب أفروديت غدت آلهة »الحب » الحرب » الخصب على غرار أصلها العراقي الوركائي .. أن عبادة عشتار ، وتقديسها ، وتشابه ذكرها في الأساطير » السومرية » البابلية »الأشورية » يعتبر امتداداً لعبادتها وتقديسها عند أهل الوركاء . برغم وجود بعض الفوارق في التفاصيل التي يؤكد المختصون في الأركولوجيا بأنها لا يمكن أن تغير من اللقب الذي استحقته عشتار بصفتها سفيرة الوركاء .
عظمة بابل
السماوة تقطف بواكير الدفء ، الشمس معلقة فوقها كالثريا ، ودفوف النسيم ترّقص سعف النخيل ، والفرات يسرح شعره على الضفتين ، وأنا على موعد مع الوركاء .. في غرة ذلك الصباح الربيعي خلعت ثياب النخيل ، وارتديت ثياب الرمال ، لا خيول تخب أمامي ، ولا عربة تحملني ، كنت في سيارة مستوردة وطريق جنوب شرقي السماوة ، قاصداَ أكبر حواضر سومر ، وأوسع المدن المدورة .. لم يكن معي من متاع غير كامرتي ، فتركتها لترعى في حقول البادية ، وتصطاد نوارس الغيوم السابحة في بحر السماء ، وفي الأفق الوركائي ، بين أسكفة العالم العلوي ، وأسكفة العالم السفلي ، لاح لعيني كائن يتحرك في برج الزقورة .. سرت لأصعد إليه ، وسار ليهبط نحوي ، حتى إذا صار ملء عيني ، وصرت ملء عينيه . رأيت رجلاً عليه سمات أهل القرى » عقال » شماغ » دشداشة » سترة » مسبحة » وعصا » ورأى رجلاً عليه سمات أهل المدن » نضارة » قميص » بنطال » كامرة » دفتر » وقلم » والتقينا رجلين سومريين على أرض سومرية . وقبل أن أسأل من ذلك الرجل الذي يدوس سجاجيد الوركاء بنعال من صنع محلي ، هاتف أخبرني أنه حارس آثارها .. وقبل أن يسأل من هذا الأفندي الذي يطيء بحذائه بساط الربيع ، هاتف أخبره أنني عاشق الصحراء وأثاثها ، وكالباشق انقضت يمناه على يمناي ، وقبل أن يرتد اليَّ طرفي سحبني نحو صدره ، فكنت بين ذراعيه استاف رائحة سومرية ، وهو يبصم خديَّ بالقبلات .. عرف الآن بمن التقى كاتب يصور بقلمه مرائي الصحراء . وعرفت الآن بمن التقيت ساحر يخفي في أكمامه كل أساطير الوركاء . هو لا يقرأ أو يكتب ، لكنه حين يحكي يرطن بلغات كل الرحالة والمنقبين الذين مروا في الوركاء ، قال لي وأصابعه تنقر حبات مسبحته أتدري أن أقدم من نقب في آثار الوركاء عام 1849 هو الجيولوجي الانكليزي وليم لفتس ، تلاه المهندس يوليوس يوردان الذي عمل في التنقيب هنا زهاء ستة أشهر من عام 1912 إلى عام 1913 وبإيفاد من المؤسسة الألمانية للأبحاث الشرقية ، والتي استأنفت أبحاثها في عام 1928 برئاسة نولدكه ، وثابرت في التفتيش والتنقيب شتاء كل عام حتى مطلع الحرب العالمية الثانية 1939 ، حيث توقفت لتعود لاستئناف عملها في عام 1953 وهو الموسم الثاني عشر لها في الوركاء ، وقد رسمت تلك البعثة خارطة المدينة ، وخرائط عديدة للبنايات التي كشفت عنها .. أزاحت أكف العاملين في تلك البعثة دثار الدهور عن جسد المدينة ، فأخرجت المدينة أثقالها ، وانكشفت لعين السماء » أبنيتها » معابدها » أدوار السكنى فيها » كما نفضت البعثة جيوب المدينة وما خبأته بأكمامها من » ألواح منقوشة » تماثيل بديعة » كتابات عديدة » تاريخية »أدبية » أسطورية » دينية » علمية » تجارية » .. أشار الى بقايا معبد أي ـ أنا هناك في مخزن السور الداخلي للمعبد عُثر على أغلب هذه الآثار. قلت أتدري أن هذه الآثار هي التي أنارت السبيل لمعرفة حضارة السومريين سكان العراق القدامى وتأريخهم . لم أخبره أني على معرفة بكل ما ذكر ، حيث كنت قد قرأته في ترجمة الدكتور عمر سليمان إبراهيم لكتاب هاري سكز عظمة بابل موجز حضارة وادي دجلة الصادر في الموصل عام 1979 .. كنا نجوب في أطلال الوركاء وأعيننا مفتوحة على سعتها ، نحدق في » بقايا المعابد » انحناء الأقواس » شروخ الحوائط » أفواه الأفران » كسر الفخار » شظايا الفسيفساء » حجارة الدروب » كثبان الرمل » حزام السور » نبات العاقول » أوجار الأرانب » أعشاش الطير » تحيط بنا بقايا سور المدينة الذي كان سوراً عظيماً طوله تسعة أمتار ونصف ، مكون من جدارين متلاصقين ، خارجي بعرض مترين ، وداخلي بعرض خمسة أمتار ، تلاصقه سلسلة من تسعمائة برج ، تطل على الخلاء خارج السور ، كما تطل على مساكن المدينة ، وأبنيتها التي أقيمت على الأرض البكر في أول عهد السكنى من » الطين » والحصران » والقصب » والتي تطورت بتعاقب العصور والحضارات منذ البنايات الأولى للسومريين ، حتى البنايات الضخمة التي أنشأها الإغريق السلوقيون ، أو تلك التي أقامها الفرثيون في معظم أقسام المدينة ، وأعلى طبقاتها .. سألت قدمي ترى على أي مطىء قدم وركائي تدوسين ؟ من مَرّ قبلي على هذه الأرض ، وفارقها وهي ما تزال خالدة ، أكان » ملكاً » كاهناً » قائداً » جندياً » عبداً » أم رجلاً حراَ من عامة الناس ؟ حملت بكفي حفنة من تراب ، رفعتها الى أعلى لأسلمها الى كف الريح .. ربما يجىء أحد غيري في زمان غير زماني ، يذريها كما ذريتها ألان ، لتحط في مكان آخر ، في انتظار زمان آخر ، وكف آخر . هكذا إذن يا وركاء رحل جلجامش ، ولم ترحل حفنة من تراب .. صعدنا إلى أعلا تل التحفت بترابه أحدى الزقورات ، تركت الحارس ينعم بلفافته ، هيأت الكامرة ومن مكاننا في قمة الموقع الوسيط بين الآلهة وبين البشر ، رحت التقط صوراً للأطلال الجاثمة في الصمت المطبق هنالك في أسف التل ، حيث الدروب مفروشة » بالرمال » العشب » بقايا الخزف » ربما يكون هذا الهواء الذي يعبث الآن بملابسنا صانعاَ بيرقاً من شماغ الحارس ، هو نفس الهواء الذي هب يوماً في الألف الخامس قبل الميلاد على رجلين وركائيين صعدا إلى الزقورة طلباً لرحمة الآلهة ، لم يكن لأحدهما كامرة ديجتال مثل التي في يدي ، ولم يكن للآخر مثل هذا العقال الذي يزين رأس الحارس .. ربما كان الذي يقف في مكاني رجلاً من عامة الناس » هزيلاً » طويلاً » حاسراً » نصف عريان » ينوء بثقل النذور التي بذمته .. وربما كان الذي يقف في مكان الحارس رجلاً من خاصة الناس » معافى » قصيراً » بطيناً » يأتزر بمئزر الكهنة ، حليق الرأس ، تلمع صلعته تحت أنظار الآلهة ، يرفع نحو مقام الإله ذراعين ورديين ، ويبسط كفين لحمين ، يلقن تابعه الأعجف نشيد الضراعة والابتهال إلى سكان العالم العلوي ليرحموا سكان العالم السفلي ..
آنية منقوشة من الحجر
انتبهت إلى الحارس الذي نزل إلى منحدر التل فاقتفيت أثره التفت اليَّ أترى بقايا ذلك البناء البعيد ؟ رفعت كفي لأظلل عيني أين ؟ . أشار إلى الأرض المسفوحة في القسم الشرقي من المدينة تلك هي أطلال بيت السماء . فهمت أنه يقصد معبد أي ـ أنا الذي كان » أقدم » أكبر » أضخم » أعظم » معبد شيد في منتصف الألف الرابع قبل الميلاد لعبادة الآلهة أن ـ نين سيدة السماء التي عرفت في العصر الاكدي باسم عشتار .. كانت واجهة هذا المعبد كما يذكر الكشاف الأثري في العراق الذي أعده الدكتور قحطان رشيد صالح مزينة بالفسيفساء المتكونة من مسامير الفخار الزاهية الألوان ، وكذلك سقوفه المقامة على أعمدة من اللبن .. تجاوزنا سور المعبد وبوابته، لنكون في ردهة وسطية طويلة ، حيث توجد الأماكن المخصصة لتقديم القرابين ، والمخازن الكبيرة التي يقول الحارس أن المنقبين عثروا فيها على آنية منقوشة من الحجر ، وأختام اسطوانية ، وأخرى قرصية منبسطة .. قلت للحارس أتدري أن أور ـ نمو مؤسس سلالة أور الثالثة الذي حكم الوركاء سنة ألفين وخمسين قبل الميلاد هو الذي جدد بناء هذا المعبد ، وشيد زقورته . قال أستاذ أنا لا أقرأ الكتب مثلك ، ولكني أعرف الكثير عن هذه الآثار .. تعال لأوريك معبد الفسيفساء .. اتجهنا الى معبد كبير ، جثمت أطلاله بين معبد أي ـ أنا ومعبد آنو وإذا توخينا الدقة فانه يقع في الزاوية الغربية من السور الداخلي لمعبد أي ـ أنا وقد ازدانت بقايا جدرانه بالفسيفساء ، وهو يتكون أيضاً من قاعة وسطية مستطيلة وقد فرشت حجره وساحاته بألواح من الحجر الكلسي ، أما جدرانه الداخلية فقد بنيت بمادة صلبة قوية ، وغلفت بمسامير الفسيفساء الوركائية الملونة ، وقد شيدت في الزاوية الشمالية من هذا المعبد بناية بلبن الريمشن تتكون من حجرة وسطية يحيط بها ممر . قال الحارس أن أحدى البعثات عثرت في الجانب الجنوبي من هذا الممر على بقايا أثرية ولقى متنوعة ، وقادني نحو معبد آنو وهو من المعابد القديمة أيضاً ، وقد حافظ هذا المعبد الذي شُيِدَ لعبادة الإله آنو على مكانته الدينية خلال عصور » العبيد » أوروك » جمدة نصر » وهو لا يختلف في مخططه عن معبد أي ـ أنا غير أنه شيد على مصطبة مرتفعة تشبه الزقورة ، تحف به ساحة واسعة ، وقد فرشت أرضيته بالقير ، وقد عُرِفَ بالمعبد الأبيض لآن جدرانه مطلية بالجص الأبيض .. الى الشمال الشرقي من هذا المعبد توجد بقايا معبد آخر هو معبد بيت ريش الذي شيده السلوقيون لعبادة الإله آنو وزوجته أنتم وقد كان هذا المعبد بناية جديدة ضخمة تشتمل على » عدة أقنية » ساحات فسيحة » حجر كثيرة » مصطبات عديدة » ولكنها تهدمت في أواخر عهد السلوقيين .. كما شيد السلوقيون الى الجنوب من هذا المعبد معبداً آخر عُرِفَ بمعبد إري ـ كال وهو بناية كبيرة شيدت في قسمها الغربي حجرة الهيكل ، بينما يقع قدس الأقداس أو السيلا Sella المشيد بالآجر المزجج في القسم الجنوبي منها .. والى الجنوب الغربي من معبد آنو تقع بقايا بناية تعتبر الوحيدة من نوعها في العراق ، وهي بناية معبد مثرا الذي شُيِدَ في القرن الأول للميلاد لتقام فيه الطقوس الدينية الخاصة بالإله مثرا .. وهناك في أقصى جنوب أطلال الوركاء يجلس المعبد الهلنستي كاريوس على تل أخبرني الحارس أنه يدعى مرتفع ورور كان القسم الوسطي من المعبد ما يزال منتصباً مشرئبا نحو السقف .. كنت أتطلع مبهوراً بالزخارف الهندسية التي تزدحم بها الجدران حين فاجأتني حيوانات ذلك العصر وهي تتجول في غابات الآجر ، بينما انتشرت الأقواس بين الأعمدة الملاصقة للجدران خارج المعبد .. قال الحارس لقد عثروا في هذا المكان على تمثال من الرخام ، لكنه كان مشوها ، ثم عثروا بعد ذلك على لوحة جبسيه عليها كتابات يونانية ، عرفوا منها اسم صاحب التمثال واسم المعبد وحددوا تأريخ بنائه بنحو عام 110 للميلاد .. أستاذ لم تبق إلا بناية واحدة سترها ، ثم أدعوك لشرب الشاي ، إنها تدعى بيت أكيتو وهي تقع خارج السور في شمال مشرق الوركاء .. وصلنا الى بقايا البناية المشيدة من اللبن والتي ترتفع نحو متر واحد عن ما يحيط بها من أرض . كانت هذه البناية ـ كما يقول الحارس ـ تتوسط الحقول والبساتين في العصور السومرية ، وهي مخصصة لإقامة الحفلات الدينية ، ورأس السنة ، ولهذا سميت بيت أكيتو التي تعني بالبابلية بيت الولائم والحفلات .. أطلت النظر الى بقايا سور الوركاء ، وحين انتبه إليّ الحارس ، وسألني بم أفكر .. قلت أتساءل هل دار في خلد جلجامش الذي بنى هذا السور أن اليابانيين الذين قدموا بمعية القوات الأمريكية سينتخون إليه فيطوقون سور مدينته بأسلاك B.R.C )) لحمايتها من لصوص الآثار ، وعبث الأحفاد .
/9/2012 Issue 4302 – Date 12 Azzaman International Newspape
جريدة الزمان الدولية العدد 4302 التاريخ 12»9»2012
AZP09