القدوة – مروان ياسين الدليمي

   

 

مروان ياسين الدليمي

 

 

(1)

في صباحٍ بلا اسم،

جلستُ على حافة نافذتي،

أرقب الشمس وهي تُجرُّ عظامها خلف الأبنية الرمادية،

كأنها عاملة تنظيف لم تأخذ إجازة منذ بدء الخليقة.

كنتُ أتأمل الوجوه،

التي تمشي على الأسفلت كما تمشي المسامير في لحم الخشب.

كل وجهٍ كدمة،

كل جسدٍ وثيقةُ عملٍ لا تنتهي صلاحيتها.

قلتُ لنفسي:

هل القدوةُ من يعرف كيف يركل الكرة بالقدم

أم من رَكَل تعبَه كل صباح وذهب ليشحن جسده بالفقر؟

كنت أرى في الشارع

رجلاً يُشبه أبي

يحمل وجهاً مبللاً بالدهر،

وجيوباً فارغة إلا من مفاتيح الصبر.

مرَّ ولم ينظر إليّ،

لكنني شممتُ من خطواته رائحةَ الخبز المخبوز بالخوف،

وسمعتُ في احتكاك نعاله بالأرض

أنينَ وطنٍ خائفٍ من النوم.

(2)

أقول لكم

كل نجم كرة

هو مجردُ طفلٍ لم يكبر،

يركل أوقاتنا لنصفّق له

بينما آباؤنا يركلون صمتهم في مشقة العمل ،

ولا أحد يصفّق.

كأنَّ العالمَ خُلِق ليُبهِجَ من يُتقن القفز .

القدوةُ ليست على الشاشات،

بل في ظهرٍ محنيٍّ كقوسٍ لا يرمي سوى وجعه،

في يدٍ متشققةٍ تنزُّ منها الروح

وتُدسُّ في يد طفلها قطعةَ تفاحٍ مسروقة من فم التعب.

(3)

في المساء،

كانت السماءُ تضحك كأنها لا تعرف الفرق بين مَن يأكل الكافيار

ومن يختنق برغيفٍ يابسٍ مغموسٍ بحياء.

وأنا…

أفركُ عينيّ،

أحاولُ أن أفهم لماذا يلمع الحذاء أكثر من القدم،

ولماذا يُكرّمُ مَن يركض خلف كرة،

ويُنسى من يركض خلف الخبز ؟ .

أسمعُ الضحكات تأتي من شاشةٍ ملوّنة،

بينما في الحارة المجاورة

كانت أمٌّ تطفئ الشموعَ كي لا يرى أولادها فراغَ المائدة.

(4)

الحياةُ كلبٌ مدلّلٌ عند الأغنياء،

وكلبٌ هاربٌ من الضرب عند الفقراء.

وكلنا نُطارد الكلب،

لكننا لا نصل إليه.

الغنى لا يعرَفُ كيف ينظر إلى وجه مَن أنهكه الحذاء.

الشهرةُ تضع نظارات سوداء،

كي لا ترى العيون الحقيقية.

بينما القدوةُ

تجلس على رصيفٍ مكسور،

تأكل خبزًا ناشفًا،

وتهمس للريح:

“سأعود غدًا… حتى لو لم أعد أنا.”

(5)

أستيقظُ في الخامسة،

ليس لأنني أحبّ الفجر،

بل لأن الجوعَ لا ينام،

ولأن الأطفال لا يعرفون أن الحليب أغلى من الحلم.

أغسل وجهي بماءٍ لا يوقظني،

بل يعيد إليّ وجهي القديم،

الذي يشبه خارطةً قديمة،

شُطبت منها أسماء المدن،

وبقيت فقط آثار الحروب.

أمشي في الشوارع التي لا تحفظني،

ولا أُلام إن قلتُ إن البلاطَ ذاته

يحمل صوتَ أبي،

حين كان يعودُ متأخراً،

ويخبئ التعبَ تحت طاولة العشاء،

مثل لصٍّ يخفي مسروقاته من الخيبة.

(6)

هم يقولون إن القدوةَ هو من يجعلنا نحلم،

لكنهم لم يسألوا:

هل الجائعُ يحلم؟

وهل من يغلق دكانه بعد خمس عشرة ساعة،

يملك وقتاً لتأمل البطولات في ملاعب العشب الصناعي؟

رأيتُ عاملَ البناء يتسلّقُ الرافعة كأنه يرقى إلى الجلجلة،

كل خطوة له صليبٌ،

وكل إسمنتٍ يحملهُ شاهد قبرٍ آخَرَ لأحلامه.

رأيته يبتسمُ لابنه عبر صورةٍ مهزوزة في الهاتف،

وقال له:

” أنا ما زلتُ في هذا العالم يا صغيري،

فقط أثقلني القليلُ من التعب، لا أكثر” .

هل هناك بطولة أصدق من أن تبقى موجوداً،

بينما كل شيء فيك يذوب؟

(7)

الأبطال الحقيقيون لا يصعدون المنصات،

بل يسقطون في الحفر ولا يصرخون،

يُسمّون التعبَ “واجباً”،

والشقاءَ “رجولة”،

والنسيان “قسمةَ العمر”.

رأيتُ حارسَ مدرسةٍ في منتصف الليل

يعدّ نوافذ الصفوف كأنها أولاده،

يضعُ يده على الزجاج البارد،

ويهمس:

“تصبحون على وطن.”

“رأيتُ الممرضةَ تشدُّ الصدرية البيضاء فوق جرحها،

وتهمس لابتسامتها:

‘عودي إلى الوراء قليلاً… فالوجع ليس لي وحدي ‘” .

أولئك هم قدوتي.

الذين لا نعرف أسماءهم،

لكننا نأكل من تعبهم،

ونتنفّس من ليلهم،

ولا يطالبوننا بشيء،

سوى ألّا ننسى.

(8)

حين أكون في السوق

وأرى امرأةً تمسح العرق عن جبينها بثوبٍ قديم،

وتساوم بائعة الخضار على حفنة بصل،

أعرف أن القدوةَ لا يتحدث في المؤتمرات،

ولا يوقّع صورَه لمعجبين لا يعرفون أين تنام الحقيقة.

القدوةُ

يسيرُ بيننا خفيفاً كظِلٍّ للمنسيين،

يضحك حين لا يكون في القلب متّسع،

ويبكي حين لا يكون أمامه سوى جدارٌ لا ينهار.

(9)

في المدينة،

الضوء لا يشبه الضوء.

إنه بريقُ واجهات المحلات

التي تبيع أوهاماً مطلية برائحة العطور الفرنسية،

بينما في الزقاق،

كان الضوء شاحباً كيدِ أرملة،

تعدّ كسراتِ الخبز قبل أن توقظ أولادها.

الناس يهرولون خلف الشهرة

كما تلاحق الفراشة لهب المصباح،

ولا أحد يلتفتُ

إلى من يزيل الرماد عن موقدِ الحياة كل صباح

بلا تصفيق،

بلا صورٍ على “إنستغرام”،

بلا كأسٍ،

بلا مدحٍ عابر في نشرة أخبار.

(10)

أعرفُ عاملاً

كلما أكلَ، شاركَ الخبزَ مع نملة.

قال لي:

“هي لا تملك بيتاً، وأنا لا أملك مستقبلًا،

فلماذا لا نكون إخوة في الكفاف؟”

ذاك الرجل علّمني أكثر

مما تعلّمتُ من كل الوجوه التي تطلّ من شاشاتٍ مرقّطة بالكذب.

عند الغروب،

تتحوّل الطرقات إلى ألسنةٍ متعبة،

تلعق ببطءٍ أقدام العائدين من الشقاء،

وأنا أراقبهم من زاوية القلب،

أضع يدي على صدري،

وأقول:

“هؤلاء هم نشيد الحياة الحقيقي،

البطيء، المؤلم، الشريف.”

(11)

أنا لا أحسد نجومَ الكرة،

ولا أولئك الذين يضحكون بأسنانٍ بيضاء على الشاشات،

لكنني أسأل:

لماذا تصفقون لمن لا يعرف اسم خبازِكم؟

لماذا تبكون في نهاية فيلمٍ

ولا تبكون على أمٍّ تقف في طابور الإعانة؟

العظمةُ،

تسير حافيةً في الأحياء الفقيرة،

تختبئ خلف ستائر المطبخ،

وتتسلل بين أصابع الجدّات

اللواتي يعجنّ الصمتَ

ليطعمْن أطفالاً لا يسألون عن “القدوة”

بل يسألون: هل سنأكل اليوم؟

(12)

جلستُ يوماً في مقهى بلا نوافذ،

وأمام عينيّ

كان رجلٌ يلتهم شطيرته كمن يلتهم آخر فرصة في الحياة.

لم يكن معه هاتف،

ولا ساعة فاخرة،

ولا حذاء من جلدِ العجلِ الإيطالي،

كان معه فقط…

تعبٌ عمره ثلاثون سنة

وابتسامة لم تتعلّم كيف تشكو.

قلت له:

“ما اسمك؟”

فأجاب:

“أنا اسم لا يُكتب في الصحف.”

وفي عينيه قرأتُ كل أسماء الذين أنساهم العالم

لأنهم لا يعرفون كيف يملأون المسارح،

ولا يوقعون على قمصانٍ للبيع.

(13)

المجدُ لا يحبُّ الضوضاء.

إنه يشبه النسمة التي تمرّ على جبين عامل النوم

في لحظة استراحة بين جدارٍ وجدار.

رأيتُ في المدينة

رجالاً يركضون وراء الشهرة،

فيما كانت النساء

يركضن خلف الوقت ليكملن غسلَ الملابس،

قبل أن يأتي الظلام.

الغسّالة في بيوتهن

كانت كائناً يتنفس الحنين،

والماءُ الخارج منها

رائحة مراهقةٍ لم تعش حُبها.

(14)

أعترفُ لكم:

أنا منحازٌ لتلك الأصابع التي لا تُصوّر،

والتي تشتغل في صمتٍ،

كأنها تخيطُ العالم حتى لا يتفكك.

أكتب لكم

من نافذةٍ بلا إطلالة،

من روحٍ قرأت الكثير

ولم تصدّق شيئاً

إلا رجلًا يشتري لأبنائه دفاتر

ولا يشتري لنفسه شيئاً في العيد.

(15)

أنا ذلك الذي خُلق من تعبِ جدتي،

ومن صمتِها حين كانت تُخيطُ القمصان القديمة

وتقول لي:

“ارتدِ هذا،

العالمُ لا يُلاحظ الفقر، بل يُحاسب عليه.”

تعلمتُ منها

أن الخيطَ أقوى من السيف،

وأن الثوبَ البالي إن غسلته بدمعةٍ صادقة

يصبح درعاً.

 

القدوةُ لا تلبس البَدَل الرسمية،

بل ينام بثيابه كي لا يتأخر عن العمل،

ولا يطلب احتراماً،

يكفيه أن يعود لأطفاله

ولا ينقصهم الحليب.

(16)

في الساحات الواسعة،

الضوء يكشفُ وجوه النكرات،

وفي الأزقة،

العتمةُ تُخفي وجوه العظماء

كي لا نُحرج أمام مرايا ضمائرنا.

كلّ من أحبّ صمته أكثر من صوته،

هو قدوة.

كلّ من نظرَ إلى يده ووجد فيها خبزًا لطفلٍ،

هو قدوة.

كلّ من أدار المروحة في الصيف

وقال: “دعها عليهم… أنا سأتحمّل الحرّ”،

هو قدوة.

لكنهم لا يظهرون على التلفاز،

ولا يملكون فرقًا إعلامية،

ولا مستشارين لشؤون “التأثير البصري”.

هم فقط يعيشون.

ولا يعرفون كيف يموتون… لأنهم لا يرتاحون حتى في القبر.

(17)

اليوم،

رأيتُ صورةً لطفلٍ يحتضن حقيبته كأنها وسادة نجاة.

كتبوا تحته: “سعيد بالعودة إلى المدرسة”.

لكنني كنتُ أسمع، في الخلفية،

صوت والده يفاوض دكانًا على الدفتر الأرخص.

القدوة هناك.

تحت الكلمة الصغيرة،

تحت ما لا يُقال،

في كفٍّ تخفي الارتجاف وتُصافح الحياة كما هي:

خشنة، عمياء، بلا اعتذار.

(18)

أنا لا أملك خاتمةً لهذا الكلام.

لأن الذي لا يعرف العطلة

لا يعرف النهاية أيضًا.

كل ما أملكه:

أن أكتب أسماءهم على هوامش هذا النص،

أن أفتح نافذة قلبي

وأعلّق فيها صورهم،

لا ليراها الناس،

بل كي لا أنساهم أنا…

إن نسيت.

(19)

الزمنُ لا يسير،

بل يحفر،

في الوجوه،

في الأكتاف،

في أصابع الجدّات

حين يلففن خصلات الزمن المهملة

على رؤوس حفيداتهنّ،

كأنهنّ يُعدن ترتيب فصولٍ أُسيء نطقها.

الزمنُ طفلٌ لا يتعب،

يجرّ القوافل من غبار الفجر

حتى تنكسر ركبة الليل.

والأسماء

تضيع على الطريق،

تتساقط من الكتب الرسمية،

تتوارى خلف “المجهول”،

ولا تبقى سوى تلك التي حُفرت على أكفّ من عملوا بصمت،

وبقوا هناك…

حيث لا ينظر أحد.

(20)

أنا لا أُجيد العد،

لكنني أحصي القوافل التي مرّت،

كلّ فجرٍ يحمل نفسَ الأجساد

بأسماءٍ مختلفة.

كلّ يدٍ تنقل كيسًا من الطحين

تحمل تاريخًا لا يُدرَّس في المدارس،

ولا يُقرأ في يوم الاحتفال بالعيد الوطني .

سليمان،

ذاك الذي كان يجمع القناني الفارغة

ويقول إنّ الحياةَ تستحق التدوير.

فاطمة،

كانت تمسح وجوه أطفالها بماء الأمل،

وتُلبسهم صمتها كسترة نجاة.

علي،

بائع الكتب على الأرصفة،

الذي كان يُطعمني قصائد السياب،

ويقول:

“البطولة لا تحتاج سيفًا… فقط كلمة تُقال بصوتٍ جائع.”

(21)

القافلة لا تتوقّف،

وإن توقّفت، فذلك لأن أحدهم

سقط دون أن يشتكي،

ووضعَ تحت رأسه حجرًا،

ونام… كي يستريح قليلاً من المدى.

كل مدينة مررنا بها،

كانت تنزف أسماءً،

وأرصفةً نائمة،

وذكرياتٍ تسير بلا أحذية.

مدنٌ تحرّك عظامها وهي نائمة،

كأنها ترفض أن تكون شاهدًا فقط،

على من يجرّون التعب كالدواب،

ويبتسمون.

(22)
في المساء،
تأتي القوافل من كل الجهات،
ولا تحمل معها ذهبًا،
بل قطرات العرق
التي تسقط فوق وجوه الأبناء،
فتُحييهم.

هؤلاء
من علّمني
أن الزمنَ ليس شيئًا يُحسب بالساعات،
بل بالألم الذي نحمله دون أن نشتكي،
وبالخبز الذي نتركه على الطاولة
حتى بعد موتنا.

 

مشاركة