الرثاء عند الشاعر المغترب علي عزيز العبيدي

الرثاء عند الشاعر المغترب علي عزيز العبيدي

قصائد تلازم أمنيات راحلة

ساجدة البغدادي

يعدُّ الرثاء من أغراض الشعر العربي المهمة التي ترتكز على العاطفة واكثرها قرباً من النفس البشرية وأشدها تأثيراً على المتلقي ؛ لانها تعبر عما يكنه القلب من مشاعر صادقة تمر على كلِّ البشر فالرثاء المتنفس عما يشعر به الانسان من ألم وحزن لفراق الاحبة ، لذا كلما كان المرثي قريبا كان الرثاء اصدق واعمق . والمتأمل في شعر الدكتور العراقي علي عزيز العبيدي يلاحظ صدق العاطفة وطغيانها في قصائد الرثاء ؛ لان من يرثيهم له ذكريات كثيرة وعميقة معهم فهم اما اخوته واقرباؤه أو اصدقاؤه فهو رثاء لايشبه رثاء الاخرين ؛ لانه فارقهم سنوات عدة في الاسر وبعدها عاش الغربة لسنوات اخرى فنجده يقول في رثاء أخيه :

محمود كم مرَّتْ عليَّ مصائبٌ

إلا رحيلك ليس بالحسبانِ

أرثيك ما جفتْ بحور قصائدي

 أبداً ولا ملَّ الرثاءَ لساني

التمس معي  كم اكتنزت من معاني الحزن واللوعة بل كيف صاغها من مفردات عميقة فعنده الرثاء حرف يصرخ بصمت الوجع فقلبه يبكي كمداً على فراق احبته اذ يقول :

أخي محمود ياوجع الليالي

 وياسفرَ المآثر في الرجالِ

ويافرحاً لخمسينِ تقضَّتْ

وصارت محض أيام خوالي

فحسرته على فراق اخيه كانت وسيلة للانتقال الى سرد صفات المرثي وكأن الشاعر يرسم صورته بريشة حزينة مع كثير من الزهو بهذه الصفات مذ كان طفلا مرورا بشبابه الجسور في لوحة لحياة مليئة بالصدق والرجولة  والشجاعة وهذه عادة  الشاعر العربي في رثائه فانه يعدد ماكان له من صفات اذ يقول العبيدي :

كأنك من سماء اللهِ آتٍ

فلم نعهدْ لشخصكَ من مثالِ

فقد عشت الحياة وديعَ طبعٍ

ولم تجنحْ حياتكَ لابتذالِ

ولا قربت نفسك من حرامٍ

وكنت كريمَ نفسٍ في الحلالِ

وقد أرضيتَ ربك والبرايا

بميلكَ للترفِّع والتعالي

فاخوه كان رجل تقوى وصلاح لذا يبدأ ابياته بتشبيه جميل الا هو ((كأنك من سماء الله )) فهل هناك افضل من الملائكة وصفاتهم فالمرثي في نظر الشاعر هو يشبه الملائكة وداعة وطهراً بل انه حتى في الحلال كان كريم النفس ليختم المقطع برضا الله وهو غاية كل البشر وكأن الشاعر هنا يواسي نفسه من خلال يقينه ان المرثي قد أرضى الله من خلال خلقه ولكن الشاعر حين يرثي أخاه (حميد ) نجده يعتمد مفردات لها وقع الالم في من خلال مطلع القصيدة إذ يقول :

اشتاقكَ اللهُ أم أسرى بكَ القدرُ

 أم أتعبتكَ الليالي وهي تعتكِرُ؟

أم ضقت ذرعاً بحالٍ لست راغبها

 كأنما الفلك الدوار ينتظرُ؟

تساؤلات يعرف الشاعر لاجواب لها ، لكنه يريد ان تكون هذه التساؤلات جسراً للعبور الى مايختلج في نفسه     من الم الفراق وسرعته ، ولتكون ريشته في رسم لوحة ناصعة الشفافية لشخصية المرثي  مبيناً عمق ومتانة علاقتهما فقد كان يتمنى ان يجمعها السهر كما كانا ولاينسى الشاعر محنة وطنه فهي السبب في هذا الفراق والغربة ووجعها إذ نراه يقول :

عذراً أبا مصطفى كم كان لي أملٌ

 أني أراكَ ليحلو حولنا السَهَرُ

وكنت أحسب يوماً ثم ثانِيَهُ

 لعل ذا الغمَّةُ السوداء تندحِرُ

ويرجع الأمنُ في أهلي وفي وطني

ونلتقي وبنا يخضوضرُ السمَرُ

وهذه الامنيات بقيت تلازم الشاعر في كل قصائده ، تكاد لاتخلو قصيدة من قصائده الا كانت منبراً للتعبير عن وجع العراق ، فالشاعر يحمل وطنه اينما رحل وحلَّ ،  وليس هموم الوطن فحسب مايحملها في قلبه ، بل يعاني كما يعاني اهله من فقد الاحبة فقوله :

أخي حميد ولي عتْبٌ أسجِّلهُ

أن قد تركت لنا ( وهاب) يعتصِرُ

ما بين فك هموم مابين فكِّ هموم الحالِ تعْركُهُ وبين فقدِ أحبَّاءٍ لهم قدرُ

ما هو الا دليل على كلامنا ، فعتبه على اخيه ( حميد )من اجل اخيه (وهاب ) الذي بقي وحيدا بعد فقد اخوته وغربة اخيه الشاعر ، لذ فان الشاعر في كل ما يبوح به من مشاعر الحسرة والالم والعتب هي مشاعر يعيشها هو لكنه يُعيرها للاخرين لتكون لسان حالهم .

وما ان نصل الى قصيدة (ام وهاب) الا ونجد نمطاً آخراً من الرثاء فرثاء أمه قصيدة بوح تخرج عن قصائد الرثاء التي قيلت في أخوته واصدقائه  فنجده يمهّد لقصيدة طويلة تتراوح بين الاعتذار والشوق والوصف وبين اللوعة والفخر بامرأة عجزت الكلمات عن وصفها وابدع هو  فيه ، فانتقاء مفردات الاعتذار جاءت ملائمة لما يشعر به من بوح فقوله :

عذراً أقولُ ألا فلتقبلي عذُري

 يا أمَّ وهَّاب ، يا عيني ويا نظري

عذراً إليكِ فقد قصَّرْتُ يا امرأةً

 وقد غرقتُ ببحر الذنبِ والقَتَرِ

فاعتماده على النداء في بيان مايكنه من مشاعر (ياعيني ، ويانظري) وكأني أرى هذه المفردات كانت تناديه بها ، فاراد ان يضمّنها شعره ليقول لها انه مازال يعيش في رضاها عنه رغم كل الالم ، وما يقوله بعد هذين البيتين يؤكد تحليلنا

يا أمَّ وهاب أدري أنت راضيةً

لكنني طامعٌ أن تقبلي عُذُري

ها قدْ أتيتُكِ روحاً دونما جسد

 فما اهتديتُ إلى أي المدى قدري

ومن هنا تبدأ رحلته مع والدته التي هي اشبه برحلة استذكار لسنوات قد اسعدت الشاعر واخوته واخرى غيبته فكانت معاناته حتى بعد  عودته من الاسر فأنظر كيف سرد هذه الذكريات باسلوب قصصي جميل

يا أمَّ خمسة أقمارٍ وسادسهمْ

 أنا الذي ماعرفتُ الفَرْحَ من صغَري

مذْ كنتُ في الجبِّ أعواماً أكابدها

وأنتِ دمعُكِ زخَّاتٌ من المطَرِ

يكفيكِ زهواً بأنْ كنا ثمانيةً

 وأنتِ واحدةٌ ، أقوى من الضَجَرِ

وكل واحد منَّا نال قسمتَهُ

من الرعايةِ والتحنانِ في يُسِرِ

للهِ درُّكِ قلبٌ أنتِ أم حجَرٌ

 فكيفَ وفَّقْتِ بين الفرْحِ والكَدَرِ؟

وكيفَ روَّضْتِ هذا القلبَ يا امرأةً

أمامَ ويلاتِ هذا الواقعِ الأشِرِ؟

فالشاعر هنا يعتمد الاستفهام وسيلة للبوح وذكر صفات هذه المرأة ، فهو مرة يذكرها بالم فراقه ومرة أخرى يشكرها لرعايتها لهم ، وهي واحدة عنده اقوى من الضجر ، ومرة يتعجب من قدرة تحمل قلبها لكل هذا فهي بين الفرح والكدر قوية متمكنة من الحزن لم يلوها رغم شدة قسوته ، ولن يتوقف عند هذا بل اخذه الحنين لها ليبوح باعجابه بشخصها

أمِّيَّةٌ أنتِ لكنْ عقلُ عالِمةٍ

 جيناتُ صبْرِكِ من مستصْلبِ الصَخَرِ

رقيقةٌ زادكِ التحنان مرتبةً

 بها تفيضينَ إحساناً إلى البشرِ

آمنتُ أنكِ أمٌّ بل وظلُّ أبٍ

ولامناصَ من الإقرارِ بالأَمُرِ

ماغابَ وجهكِ عني قيدَ أنملةٍ

أجولُ فيهِ كما التجوالُ في السفَرِ

مااروعها من صورة شعرية هي لوحة اعتنى بها الشاعر ايّما اعتناء فوجهها الحبيب لم يفارقه وحبه لها يصوره لنا في الابيات الاتية  رغم قسوتها  مؤرخاً لرحيلها في ذاكرة المتلقي إذ يقول :

محظوظةٌ أنتِ أنْ غادرتِ مبْكِرةً

إبانَ غزوِ الأميركيينَ والتَتَرِ

أقولها رغمَ أنَّ القولَ يؤلمني

 فأنتِ أمي التي أغلى من العُمُرِ

رحيلُكِ الأمس في عزٍّ وفي كرَمِ

 أجلُّ منهُ بظلِّ الواقعِ القَذِرِ

فربما يتبادر الى ذهن المتلقي قسوة الشاعر بكلامه هذا ، لكن نجده يبرر هذا بحبه لامه حتى في وقت رحيلها في زمن العز والكرامة ؛ لان ام الشاعر ذات عز وكرامة ربت أولادها الستة على حب الوطن الحر الكريم … فالاحرى ان ترحل في زهو ومحبة…

في هذه القراءة اكتفيت برثاء الاهل ولي وقفة أخرى ان شاء الله مع رثاء الشاعر لأقربائه و أصدقائه ومعلميه

مشاركة