أكشن

قصة قصيرة

أكشن

ماريسا سيلفر

غادرت مشيا محطة مترو أنفاق شارع 72 ومنطقة برودواي في ذات صباح تموزي حاملة حقيبتي النسيجية. في خلال أسبوع واحد، كان الجانب الغربي قد أخذ أولوية في قائمة محاذيري الشخصية في السفر؛ فهذا الجانب لم  يعد مكانا آمنا للمرور به. أنعطفت عند ركن الشارع وتوجهت مباشرة نحو شقتي المبنية بالحجر الأسمر، التي كنت أقيم فيها حتى آخر ليلة شهدت مطرا وضبابا وانتابتني خلالها مشاعر غريبة.

 وكان كل ما أحتاج إليه في تلك اللحظة هو أن ألملم ملابسي والآلة الكاتبة. ولكنني قررت مع نفسي فيما إذا وجدته في داخل الشقة أن أكون ودودة معه وسريعة. أي أنني لن أدع مجالا للخوض في الأمر. فـ(الأمر) يمكن وصفه بأنه شيء مشوه ينجم عن علاقة عندما تنتهي نهاية يتحكم في صوغها الغضب.

عندما تقدمت من شقتي السابقة، كان ينتابني شعور غريب من الذي ينتابك وأنت تقترب من السقوط: تحول في الأحشاء ينبؤك بأن الطبيعة قد انقلبت رأسا على عقب. و- كما لو أن شيئا اصطدم بجسدي وسحقه، فاندلقت أحشائي- كل شيء كان ضمن ملكيتي، بدا مكتظا بصفائح قمامة تعود لنفرين وكانت في مواجهة بنايتي القديمة. رأيت قمصاني وبلوزاتي، ونسختي من كتاب (دوغ سولجرز) أعظم عمل لـ(أريثا فرانكلين) يعتلي الملف، واكتشفت بطاقات التقارير المدرسية خاصتي، جنبا إلى جنب مع الكتب السنوية وموسيقى الناي، كلها ما تزال مضمخة بتاريخ قريب يملؤني شعورا بأهميتها وضرورتها. التقطت بطاقة تقرير السنة الدراسية الخامسة. وقرأت فيه (اللغة الانكليزية: 88، اللغة الفرنسية: 72) ما هذا 72 فقط، (لم تظهِر ماريسا قدرة على التحدث بالفرنسية) هذا ما قاله التقرير ويضيف (وهي مع ذلك مسكونة  بلكنة مقبولة). لم يكن أمامي إلا أن أترك حقيبتي النسيجية قرب  صفائح القمامة وغادرت مبتعدة عن المكان.

في اليوم التالي، بدأت باطلاق أول فيلم أكتبه بنفسي وأول تجربة لي في الإخراج السينمائي. الفلم بعنوان (قديم بما فيه الكفاية) وهو مبني على قصة طفولتي الساحرة مع فتاة كانت تقيم في المجمع الذي أقيم فيه في  الجانب الشرقي لمانهاتن. كنت آنذاك ساذجة وفضولية، فيما كانت صديقتي  مثيرة وخطرة، وصادف أنني تبعتها في ذات صيف ونحن نغمر أصابع أقدامنا في بركة المجمع المحاطة بالصبية والفتيات، فاكتشفت لأول مرة سر الجاذبية الذي يسبق فترة المراهقة.

في غضون ذلك، كنت وأنا أقف عند ناصية الشارع السادس، الجادة (أ)، أراقب العاملين وهم يرفعون آلات التصوير وينصبون أسلاك الإضاءة. وأسمع أصوات أجهزة اللاسلكي عند صدور توجيهات لايقاف سير المركبات ودفع الممثلين إلى مقطورة الماكياج. كان الوقت يشير إلى السابعة صباحا بالضبط، ولكن كل ما حمله الصباح معه من أثر لنضارة أو نسائم هواء نقية كان قد قضى عليها مزيج كثيف لروائح القمامة، والأطعمة، وأدخنة عوادم المركبات- ذلك هو عطر المدينة في عز القيظ. أما نحن فكنا نمثل الشركة الأصغر حجما بين الشركات المنتجة. شقيقتي هي المنتجة، وصديقها المتعهد.  والمتبقي من الطاقم هو مجموعة من أصدقاء المهنة وممثلين شباب من مدينة نيويورك، يقودهم جميعا، على نحو غير متوقع، مصور سينمائي ألماني من طراز عالمي وافق في وقت سابق على عبور المحيط ليصور هذا الفلم. وكان ينتاب الجميع شعور بالمسؤولية، وانحنيت بتواضع لفكرة أن هذا الجمع من الموهوبين كله يعمل هنا لأنني سبق أن كتبت على قصاصة ورق في يوم ما (الفتيات يعبرن الشارع).

جلست وسط ذلك المشهد كله، فقد استيقظت على فضاء جديد خال من أي شيء دخيل. كنت على وشك تقديم فيلم عن فترة من فترات حياتي، كانت البراءة الحامية للطفولة قد بدأت تنفصل عني كاشفة النقاب عن عالم الرغبة القابع في الظل. والآن، بعد مضي اثني عشر عاما، أكتشف أن الرغبة قد سددت لي ركلة على معدتي. هيمن علي شعور بالفجاجة، والسذاجة، وبأنني لم أعد كما في سنوات عدة ماضية قادرة على التأهب لدخول عالم الكبار القائم على المجازفة والعواقب.

وإذ كنا نفتقر إلى رافعة أو أي دمية أخرى مكلفة، كان علينا أن نلتقط مشهد الفتيات وهن يعبرن الشارع من أعلى شاحنة الكاميرا. وقفت فوق سطح الشاحنة المعدن الساخن بالقرب من المصور السينمائي وهو يتحدث إلى مساعديه. وكنت أرى من تحتي مواطنو نيويورك وهم في طريقهم إلى العمل، قلما يلفت انتباههم شيء مما كنا نقوم به، اللهم باستثناء أننا كنا عقبة في طريقهم. فجأة مرّ رجل على دراجة بلمح البصر، ومرة ثانية لمع في ذهني ذلك الحدس المقلق: إنه هو. لماذا مر بهذا المكان؟ ليحييني؟ ليشتمني؟ أو ربما لينبهني إلى حقيقة مؤداها أن فشل علاقتنا سيبقى، لفترة طويلة قادمة، يمرّ بي مرورا خاطفا كمرور هذه الدراجة: أكان ظلا عابرا أدكن، ليذكّرني بكم هو سهل تشويش الحاجة بالسعادة؟ فجأة توقفت أجهزة اللاسلكي. وقال مساعد المخرج (دوّر الصوت) و(دوّر الكاميرا). التفت إلى المكان الخالي حيث كانت الدراجة قبالة الوجوه المترقبة حولي، وحيث الجميع ينتظر مني أن أطلق تلك الكلمة.

كنت في الثانية والعشرين من عمري يومها. في لهجتي لكنة فرنسية مقبولة، وبمعيتي شلّة جديدة، هذا كل شيء ولا مزيد. وأدركت أنني في اللحظة التي أطلق منها تلك الكلمة، سيندفع كل شيء إلى أمام اندفاعة خاطفة- أعني الفلم، أعني حياتي. كان الجميع  ينتظر. أخذت نفسا وأطلقتها: أكشن.

ماريسا سيلفر مخرجة سينمائية أمريكية، وروائية وكاتبة ولدت في العام 1960 بمدينة شاكير هايتس في أوهيو، والدها المنتج والمخرج السينمائي رافائيل سيلفر، ووالدتها المخرجة جوان ميكلين سيلفر. أخرجت فلمها الأول (قديم بما فيه الكفاية) الذي تدور حوله سطور هذا المقال، وأخرجت بعد هذا الفلم مجموعة أفلام مميزة، كما صدرت لها مجموعة كتب أبرزها (إله الحرب) رواية -2008 .

المصدر: مجلة نيويوركر ��{���C� 0�� ذا، وقد استقرى الباحث مجموعة من الدراسات والأبحاث النقدية بغية البحث عن بلاغة الصورة الروائية أو السردية ، من خلال التوقف عند مفاهيم الصورة والتصوير، ودراسة المصطلحات النقدية، وطريقة تحليل الصور السردية. وقد توصل الباحث إلى أن هذه الدراسات قد وظفت الصورة والتصوير بالمعنى الحسي الذي يحيل على الصورة السينمائية أو الصورة التشكيلية أو الصورة الفوتوغرافية أو الصورة الدرامية، ولم توظف بالمفهوم البلاغي الجديد. وبالتالي، فقد حصر النقد الروائي والقصصي المغربي جل أبحاثه في الصورة الانعكاسية، حيث اعتبر الصورة معيارا لنقل الواقع بصورة صادقة وأمينة، ولم ينظر إليها نظرة تخييلية إبداعية إنسانية،  تتميز بقدرتها على الخلق والابتكار  والتجديد، وتجاوز الواقع نحو عوالم تخييلية أخرى.

وإذا كانت الدراسات النقدية المرجعية تدرس الصورة في ضوء الرؤية الانعكاسية، فإن الدراسات البلاغية ماتزال تدرس الصورة في ضوء بلاغة الشعر، من خلال توظيف المجاز والاستعارة وكل ما يرتبط بالبلاغة الكلاسيكية على مستوى البيان والمعاني والمحسنات البديعية . وعلى الرغم من كون جل هذه الدراسات لم تدرس الصورة السردية بمفاهيم البلاغة النوعية، فثمة مجموعة من الإشارات التي يمكن أن تستفيد منها بلاغة الصورة الروائية، وهي مبثوثة في هذه الدراسات هنا وهناك. ويعني هذا أن هذه الدراسات النقدية أو الجامعية لم تنطلق من تصور منهجي واضح ودقيق، بل كانت تتعامل معها من منطلقات عفوية ليس إلا.

هذا، ويلاحظ أنه في أواخر سنوات الثمانين من القرن الماضي، كان هناك اهتمام بالبلاغة النوعية، كما يحضر ذلك جليا عند حميد لحمداني في كتابه (أسلوبية الرواية)، فقد درس عدة مكونات تنتمي إلى البلاغة النوعية، خاصة صورة اللغة، متأثرا في ذلك بميخائيل باختين. كما يعد محمد أنقار كذلك من رواد الصورة الروائية أو بلاغة الصورة السردية كما في كتابه (صورة المغرب في الرواية الإسبانية)، فقد تنبه الباحث إلى أهمية الصورة والتصوير في النصوص السردية، ولاسيما الروائية منها.

وبهذا، يكون الكتاب قد فتح الباب على مصراعيه أمام النقاد للاهتمام بالصورة الروائية من خلال تمثل مفاهيم البلاغة النوعية ، واستيعاب آليات الصورة الروائية بمكوناتها وسماتها الفنية والجمالية والتخييلية. وفي هذا الصدد، يقول مصطفى الورياغلي:” لم يكن اضطلاعنا بالبحث في مجال الصورة والتصوير في النقد الروائي والقصصي بالمغرب من باب الاهتمام بقضية نقدية جزئية أو تفصيل أسلوبي وبلاغي، بل يندرج ضمن مشروع نقدي يتطلع إلى الإسهام في تجديد نقد الروائية والقصة في النقد العربي عموما، وفي النقد المغربي على وجه التخصيص، وإعادة النظر في مسلماته المعرفية وطرائق تشكله واشتغاله.إن البحث في موضوع الصورة والتصوير، وفق التصور الذي صدرنا عنه في هذا البحث، يقود إلى استقصاء كل مكونات العمل الأدبي الجنسية وسماته الصنفية وما تضطلع به من وظائف في التشكيل والتمثيل، ويوفر للباحث معيارا نقديا لا يسعفه في مقاربة النصوص الإبداعية واستجلاء خصائصها الجمالية والإنسانية فحسب، بل كذلك في محاورة  المناهج النقدية والأسلوبية والبلاغية وتشريح تصوراتها ومفاهيمها وأدواتها التخييلية، وتقويم مدى قدرتها على سبر أسرار العمل الأدبي الجمالية، واستشراف أبعاده الاجتماعية والإنسانية من غير أن تغفل طبيعته التخييلية وخصوصياته الإبداعية. وهكذا، يوفر البحث في موضوع الصورة والتصوير في مجال الأجناس النثرية على وجه العموم، والأجناس السردية على وجه الخصوص، للناقد العربي مجالا رحبا للاجتهاد والحوار والتجاوز بدل الاقتصار على نقل النظريات والمناهج وتطبيقها على نصوص عربية من دون تمحيص أو محاورة أو تقويم (9).

ويعني هذا أن البلاغة النوعية أو الصورة الروائية  هي تدشين منهجي جديد ، يساعد الناقد أو الدارس على تجاوز  المناهج النقدية الغربية ذات الصرامة العلمية، بغية الاقتراب أكثر من النصوص الإبداعية بتحليل صورها تخييلا وتجنيسا وتصنيفا وتنويعا وتنميطا.

وخلاصة القول، يعد كتاب (الصورة الروائية) لمصطفى الورياغلي من أهم الكتب النظرية والتطبيقية في مجال الصورة الروائية ، وكذلك في نقدنا الروائي العربي، إذ يبشر هذا الكتاب بميلاد درس نقدي جديد هو درس الصورة الروائية أو درس البلاغة النوعية أو بلاغة الصورة السردية، بعد أن كان النقد العربي، لأمد طويل وما يزال،  غارقا في مقاربات مرجعية وإيديولوجية، أو مقيدا بمقاربات بنيوية وسيميائية بعيدة عن مجال الصورة والتصوير البلاغي التخييلي والإبداعي.

المصادر

1 – د.مصطفى الورياغلي: الصورة الروائية، مكتبة دار الأمان، الرباط، المغرب، الطبعة الأولى سنة 2012م.

2- د. محمد أنقار: صورة المغرب في الرواية الاسبانية، مكتبة الإدرسي بتطوان، الطبعة الأولى سنة 1994م.

3 – بيرسي لوبوك: صنعة الرواية، ترجمة عبد الستار جواد، دار الرشيد ، بغداد، العراق، الطبعة الأولى سنة 1981م.

4- ميخائيل باختين: شعرية دويستفسكي، ترجمة : د. جميل نصيف التكريتي، دار توبقال للنشر، الدار البيضاء، المغرب، الطبعة الأولى سنة 1986م.

5- ستيفان أولمان: الصورة في الرواية، ترجمة رضوان العيادي ومحمد مشبال، منشورات دراسات سال، منشورات مدرسة فهد العليا للترجمة بطنجة، الطبعة الأولى سنة 1995م.

6 – جابر عصفور: الصورة الفنية في النقدي والبلاغي عند العرب، المركز الثقافي العربي، بيروت، لبنان، الطبعة الثالثة سنة 1992م.

7 – حميد لحمداني: أسلوبية الرواية، منشورات دراسات سال، الدار البيضاء، المغرب، الطبعة الأولى سنة 1989م.

8 – د.مصطفى الورياغلي: الصورة الروائية، ص:9.

9- مصطفى الورياغلي: نفسه، ص:208-209.