نقد النسق الرجعي

نقد النسق الرجعي
إدريس جنداري
1 ــ مركزية روح التاريخ وهامشية الحشود
عادة ما يبرر المثقف الرسمي رفضه للمد الثوري العربي، بكونه يخدم أجندة محافظة ورجعية، تمثلها حركات الإسلام السياسي، التي تجني ثمار الثورة، في الأخير، ولذلك، فإن دعم الأنظمة الاستبدادية الفاسدة، في اعتباره، أفضل من دعم هذه الثورات الرجعية والمحافظة.
يؤكد المثقف الرسمي، أن الأولوية يجب أن تعطى لبناء ثقافة ديمقراطية وذلك، لأن الديمقراطية قبل أن تكون ممارسة هي ثقافة يجب أن تخترق الحشود الشعبية. لكن، لا يحدثنا عن الوسائل الكفيلة بنشر الثقافة الديمقراطية، هل هي علم لدني يمثله أنبياء يمتلكون قوة خارقة، يجب أن ننتظر لتعمنا بركاتهم في يوم ما؟ أم إن الثقافة الديمقراطية، تتشكل في وعي الأفراد والجماعات من خلال الممارسة الديمقراطية، التي من بين ركائزها الأساسية، التعددية السياسية، والتداول السلمي على السلطة الذي توفره الانتخابات كآلية ديمقراطية، وكذلك الفصل بين السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية؟
ونحن نتساءل، هل يمكن توفر هذه الأسس، في ظل ممارسة استبدادية، تقوم على أساس الحزب الوحيد والطائفة الواحدة والزعيم الأوحد؟ عن أي ثقافة ديمقراطية نتحدث، في واقع يطبعه التسلط والاستبداد، حيث تتحول المدرسة والمسجد والجامعة والحزب والجمعية… إلى أدوات لإعادة إنتاج النسق الاستبدادي الفاسد؟
إن المد الثوري العربي لا يمثل الاستثناء في تاريخ الثورات عبر العالم، فالفرنسيون لم ينتظروا رواد الفكر السياسي والفلسفي ليغيروا واقع الاستبداد والفساد، رغم فعالية هذا الفكر، ولكن الشعب الفرنسي، بجميع فئاته، هو الذي صنع أحداث الثورة الفرنسية، وهو الذي رعاها حتى نضجت ونجحت في ترسيخ مبادئ الديمقراطية، ورغم أن الثورة خلقت نقيضها في مرحلة ما، عبر وصول نابليون بونابرت إلى الحكم، واستعادة التقاليد الاستبدادية القديمة، فإن الشعب الفرنسي ظل يناضل، من أجل ترسيخ المبادئ الحقيقية للديمقراطية.
لقد كان دور الفئات الشعبية واضحا في إنجاح الثورة، وبعد ذلك ساعدت الممارسة الثورية على ترسيخ مبادئ الديمقراطية. ولذلك، فإن أهم حدث يسجله التاريخ، هو بروز الإرادة الشعبية كمحدد أساسي لشرعية السلطة وهذا ما تبلور، بشكل أوضح، بعد النجاح في تجاوز التناقضات التي أنتجتها الثورة.
لكن، المثقف الرسمي في العالم العربي، لا يهمه كل هذا التاريخ، بل يتعامل مع الحدث الثوري كشيء طارئ من شانه أن يقلب التوازنات السائدة، التي يستفيد منها ويحقق انسجامه الفكري في ظلها. لذلك، فهو لا يعترف أولا بقدرة الممارسة الثورية على ترسيخ مبادئ الديمقراطية، كما لا يعترف ثانيا بدور الإرادة الشعبية، في تحقيق التحول نحو الديمقراطية.
تغيير التاريخ
السياسي الفرنسي
في حوار مع المفكر المغربي عبد الله العروي ، يؤكد أن شباب 20 فبراير، ليسوا هم الذين سطروا الدستور الجديد للمملكة، باعتباره الوثيقة الوحيدة التي سيتدارسها المؤرخون مستقبلا، ويستدل على ذلك، بأن مؤرخي الثورة الفرنسية يؤكدون على دور الحشود، ودور التجمعات في الأحياء… لكنهم يتوقفون، بشكل أكبر، عند الدستور لأنه ترك كما كبيرا من الوثائق، بينما تكلمت الحشود وكلامها ذهب في مهب رياح التاريخ .
Abdallah Laroui-Entretien- Zamane NO 18 Avril 2012
ونحن نتساءل، من دفع إلى كتابة هذا الدستور، ومن خلاله تغيير التاريخ السياسي الفرنسي؟ هل كانت إرادة ملكية للتنازل عن السلطات المطلقة التي كانت تتمتع بها؟ أم هو نتيجة الضغط الشعبي، الذي استطاع قلب التوازنات الاجتماعة والسياسية والاقتصادية السائدة، وبذلك تمكن من تنزيل النظريات الفلسفية والسياسية من أبراجها العاجية إلى حيز الممارسة الواقعية، هذه النظريات التي جسدتها مبادئ الثورة الفرنسية الحرية، الأخوة، المساواة ؟
فهل، حقيقة، تكلمت الحشود وكلامها ذهب في مهب رياح التاريخ، أم إنها النخبوية المفرطة للمفكر»المؤرخ الذي يقبض على جهاز التحكم عن بعد، ويمارس استيهاماته مغمض العينين، فيرى فيما يراه النائم، أنه يحرك التاريخ وأحداثه كما يشاء. إن هذه النخبوية المفرطة وهذا التعالي عن الواقع الاجتماعي والسياسي، هو الذي دفع الفيلسوف الألماني الكبير هيجل إلى الاعتقاد، في وجود قوة روحية مطلقة محركة للتاريخ، هذه القوة التي تلبست في جسد آدمي، ليس سوى المستبد نابليون بونبارت. فحينما كان بونبارت يقود جنوده لاحتلال ألمانيا، كان هيجل منشغلا بالبحث عن روح التاريخ، وأخيرا عثر عليها، حينما رأى بونبارت ممتطيا صهوة فرسه، ولذلك، صاح مندهشا ومنبهرا اليوم شاهدت روح التاريخ على ظهر الحصان .
إذا حدث هذا في أوربا وفي ألمانيا، بالضبط، فإن التاريخ السياسي في العالم العربي تسيره الأرواح، منذ القديم، هذه الأرواح التي تلبست في أجساد آدمية، فاقت نابليون في تطبيق دروس ميكيافليي. وقد كان لمثقف النظام دور كبير في رفع هذه الأرواح إلى مرتبة القداسة، حيث لا تغيير إلا ما تريده وتفعله، أما الإرادة الشعبية فهي لا تعدو أن تكون حشودا و عامة و رعاعا ، ميزتها الأساسية هي السلبية والخنوع، فقد تمكن منها براد يغم الطاعة 8
الطاهر لبيب ــ هل الديمقراطية مطلب اجتماعي ــ علاقة المشروع الديمقراطي بالمجتمع المدني العربي ــ ضمن أعمال ندوة المجتمع المدني في الوطن العربي ودوره في تحقيق الديمقراطية ــ منشورات مركز دراسات الوحدة العربية ــ 1992 ــ بيروت ــ ص 339.
وفي علاقة بهذا التقابل بين الزعيم السياسي روح التاريخ ، وبين الحشود حطام التاريخ فإن عبد الله العروي، في حواره، لا يعترف بقدرة الإرادة الشعبية على التغيير، وفي مقابل ذلك يتعامل باندهاش كبير مع أي تمويه سياسي يمارسه النظام، فهو يتفاجأ بكل ما يحدث في المغرب، وهذا ما جعله يندهش في كل مرة، كلما حاول فهم النظام . وتتلاشى حجب العقلانية فجاة، ليربط مفكرنا الحداثي بين النظام وبين الزعيم الأوحد ، فسر هذا الاندهاش، في نظره، يعود إلى أن الحسن الثاني كان يتصرف بناء على حدسه. ولذلك، يؤكد مفكرنا العقلاني، ليس هناك واحد من أفعال الحسن الثاني لم يثر اندهاشه، بسبب أنه لم يكن متوقعا.
Abdallah Laroui-Entretien- Zaman NO 18 Avril 2012
إنه موقف هيجلي مصغر، حقيقة، مع فارق كبير في مفهوم السلطة خلال المرحلتين، حيث كانت خلال القرن الثامن عشر تصارع للقطيعة مع المفهوم المطلق للحكم، لكن العقل السياسي الحديث نجح، إلى حد بعيد، في القطيعة مع هذا المفهوم، في صراعه ضد الأنظمة التسلطية المطلقة، طوال مرحلة القرن العشرين، والمسيرة مستمرة خلال هذا القرن، للقضاء على كل معالم المفهوم القديم للسلطة والحكم. إذا كان مفكرنا العقلاني»الحداثي يدرك كل هذا، على مستوى التنظير، فإن الموقف السياسي يخونه، حينما يروج للسلطة كإرادة مطلقة، تمارس تسلطها ضدا على الإرادة الشعبية الحشود ، التي هي، في حقيقة الأمر، المصدر الحقيقي للشرعية السياسية في المفهوم الديمقراطي الحديث.
وهكذا، تتشقق القشرة الحداثية الرقيقة، لتكشف عن موقف سياسي رجعي، ينزل بالمفكر العقلاني من أبراجه العالية، ليتفاجأ ويندهش وينبهر، لكل خطوة يقدم عليها الزعيم الأوحد والحاكم بأمره، باعتباره يمثل روح التاريخ، ويتصرف بناء على حدسه الذي لا يخطئ، أما الحشود فهي تتكلم، لكن كلامها يذهب في مهب رياح التاريخ. إن من أهم ملامح الديمقراطية، هو ربط ممارسة السلطة بالإرادة الشعبية، حيث يكون ل الحشود دور فاعل في اختيار ممثليهم بشكل دوري يتحكم فيه التداول السلمي على الحكم، من خلال التنافس السياسي والحزبي، الذي يبوئ الأفضل والأصلح، في علاقة بالمشاريع السياسية المقترحة. وما دامت نخبتنا الثقافية تروج لصورة سلبية عن الفئات الشعبية لتغذية نرجسيتها النخبوية، فإن الحاكم بأمره هو الذي سيمثل دائما روح التاريخ، وبذلك سيرفض أي تعددية سياسية وأي تداول سلمي على السلطة، وبالتالي، أي تنازل عن كرسي الحكم إلا عبر موته.
ولعل، مشهدنا السياسي الراهن، في العالم العربي، ليمثل هذه الصورة بامتياز، لأن الحاكم العربي مقتنع تمام الاقتناع، أنه يمثل روح التاريخ، أما الشعب فهو لا يعدو أن يكون، جرذانا ومراهقين ومخربين وإرهابيين… ولذلك فهو يشكل خطرا مدمرا على روح التاريخ هاته، حيث يتلاشى الوطن بتلاشي الحاكم بأمره وتقوم ساعة التاريخ ويأذن بنهايته.
إنها كوابيس حقيقية، تسكن مخيلة الحاكم وتحوله إلى نصف إله، يحكم الأرض ويتحكم في أقدار البشر، وأي أذى يصيبه فهو يدمر الحرث والنسل. لكن، ما يجب أن نقر به، حقيقة، هو أن الحاكم ليس وحده المسؤول عن هذه الصورة الكاريكاتورية لمفهوم السلطة والحكم، وهي صورة تنتمي إلى عصور الظلام الأولى، حيث كانت الملوك تمثل سلطة السماء على الأرض ولكن، المسؤولية الكبرى يتحملها المثقف الذي قدم خدماته الرمزية، عبر العصور، للحاكم وباعه الأوهام لتأمين رصيده في السلطة والمال.
تعظيم المستبدين
وهكذا، فإن النفسية الاستبدادية المتأصلة في الذات العربية الحاكمة، تنتسب تاريخيا إلى عصور الاستبداد التي أصل لها بعض الفقهاء، الذين عاشوا وقفا على بلاط الملوك والأمراء، في حين انصرف بقية المثقفين والساسة إلى مملكة الشعر، والذي كان معظمه يصب في تعظيم المستبدين وتطويع الشعوب لهم .
ألبرت حوراني ــ الفكر العربي في عصر النهضة 1798 ــ 1939 ــ تر كريم عزقول ــ دار النهار ــ بيروت ط 4 1976 ــ ص 16
2 ــ الثقافي في خدمة السياسي.. تكريس النسق الرجعي إن نموذج تبعية الثقافي للسياسي لا ينطبق على العصور القديمة، فقط، بل إن هذه العلاقة هي التي تحكم علاقة المثقف بالحاكم، في العالم العربي، إلى حدود اليوم، وذلك رغم التطور الذي عرفته النظرية السياسية، ورغم الاستقلالية التي أصبحت تميز المثقفين عبر العالم. ولعل هذا ما يؤكده الأستاذ سعيد يقطين، في حديثه عن العلاقة بين الثقافي والسياسي، حيث يؤكد أن وجه العلاقة الذي كان يتحكم في الوعي والممارسة، على هذا المستوى، وخلال كل تاريخنا الثقافي الحديث، كان هو التبعية وليس الارتباط. ويرجع ذلك، في اعتباره، إلى كون المسألة الثقافية في العالم العربي مغيبة أو موجهة لأغراض سياسية ما، ولكن لم يتم التعامل معها قط باعتبارها قضية إنسانية.
د. سعيد يقطين ــ الأدب والمؤسسة نحو ممارسة أدبية جديدة ــ منشورات الزمن ــ الكتاب 12 ــ مارس 2000 ــ ص 8 ــ 51
إن هذه التبعية تزداد خطورتها، حينما تكون نسقية، يخفي ظاهرها الحداثي والمتحرر باطنها الرجعي والمتخلف. وإن كنا نلمح هذا بجلاء على مستوى الممارسة والخطاب السياسيين، فإن الذي لم نعره كبير اهتمام، هو المجال الثقافي إبداعا وفكرا حيث يخفي الخطاب الحداثي، ظاهريا، نسقا رجعيا ومتخلفا، على مستوى الباطن.
ولنكون أكثر وضوحا، فإننا نقصد بهذا الكلام، أن الازدواجية التي يعاني منها الخطاب والممارسة السياسيين في العالم العربي، بين مؤسسات وخطابات حديثة، وبين ممارسة غارقة في التقليدانية والرجعية، هذه الازدواجية هي في حقيقتها ازدواجية تم تكريسها ثقافيا، قبل أن تنعكس على المستوى السياسي، أي إن المثقف العربي، يتحمل مسؤولية تاريخية، في تكريس النسق الاستبدادي التسلطي ثقافيا. فقد كان، على امتداد قرون من التاريخ العربي، أبا شرعيا للمستبد السياسي، فهو الذي وضعه نطفة في رحم الواقع السياسي العربي، وهو الذي أشرف على عملية الولادة والتنشئة.
حينما سئل الناقد الثقافي عبد الله الغذامي عن رأيه في الموقف الرجعي للشاعر أدو نيس، في علاقة بالثورات العربية، لم يتردد في الإجابة، بأنه لم يفاجأ بهذا الموقف، لأنه سبق له أن أكد ذلك، عبر التحليل العلمي، في علاقة بإبداع أدو نيس الشعري، الذي قال عنه في كتابه النقد الثقافي كل دعاوى أدونيس في الحداثة خطاب لفظي لا يؤدي إلا إلى مزيد من النسقية والرجعية عبد الله الغذامي ــ النقد الثقافي.. قراءة في الأنساق الثقافية العربية ــ المركز الثقافي العربي ــ ط 3 ــ 2005 ــ ص 8
إن الفرد، المبدع والمفكر، قبل أن يكون مبدعا لفكر أو فن، فهو يمرر موقفا يتسلل عبر شقوق اللغة والأفكار، وهذا الموقف هو تعبير عن نسق ثقافي، قبل أن يكون موقفا شخصيا. لذلك، نجد المثقف العربي يعيش سكيزوفرينيا قاتلة، في ممارسته الفكرية والإبداعية، فهو بقدر ما يسعى إلى إثبات تطلعاته الحداثية، على مستوى التفكير والإبداع، يكون في نفس الآن مدافعا شرسا عن النسق الثقافي الذي يبلوره، وهو نسق رجعي لا يمت بصلة إلى تطلعاته الفكرية والإبداعية، ذات الطابع الحداثي. وفي حديثنا عن الشاعر أدونيس دائما، فإن عبد الله الغذامي يؤكد أنه رجعي الحقيقة، وإن بدا حداثيا وثوريا، فقد ظل ينتج النسق الفحولي ويعيد إنتاجه في شعره وفي مقولاته، بدءا من الأنا الفحولية وما تتضمنه من تعالي الذات ومطلقيتها، إلى إلغاء الآخر والمختلف عبد الله الغذامي النقد الثقافي.. قراءة في الأنساق الثقافية العربية المركز الثقافي العربي ــ ط 3 2005 ــ ص 271
إن الاستبداد الشرقي، هو في جوهره تجسيد للأنا الفحولية، فالحاكم بأمره يجب أن يثبت فحولته الجنسية أولا، قبل أن تنعكس هذه الفحولة على المستوى السياسي، حيث يتحول الشعب كله إلى أبناء غير شرعيين للحاكم، وهذا ما يؤسس في نفس الآن للعلاقة الباترياركية بين الحاكم والشعب.
إن خطورة الفعل الثقافي إبداعا وفكرا تتجلى في تأسيس هذا النسق الفحولي»الباترياركي ثقافيا، كمدخل رئيس لشرعنته على المستوى السياسي، فيما بعد، بحيث يتم تهييء الشعب ثقافيا للدخول ضمن هذا النسق، بل وتزكيته باعتباره خصوصية حضارية وهكذا، يصبح الاستبداد والتسلط قدرا مقدرا على الشعوب العربية، وأي تحرك لتغيير الواقع السائد هو تجرؤ على الزعيم، الذي لا يتصور أن الوطن كله قادر على إنجاب شبيهه، القادر على قيادة الوطن وتسيير شؤون الشعب.
لقد مارس المثقف العربي الرسمي عنفا رمزيا خطيرا على الشعوب العربية، على امتداد قرون، وذلك، حينما شرعن الاستبداد ودافع عن المستبدين، باسم الدين تارة، وباسم منطق الفكر والإبداع والسياسة تارة أخرى، كما عانت الشعوب العربية أكثر من الفعل الثقافي الرسمي، حينما حضرت في الذاكرة الثقافية الرسمية، باعتبارها، عامة وغوغاء وحشودا ورعية.
ومن خلال هذا التقابل، المقصود، بين الزعيم المستبد باعتباره روح التاريخ ومحرك الدولة، وبين الشعب باعتباره عامة وغوغاء، كان المثقف الرسمي يخطط لوأد أي فعل ديمقراطي، وذلك عبر اعتماد آليات الفكر والإبداع الحديث التي نجحت، لعقود، في إخفاء النسق الرجعي.
إن أهم إنجاز حققه الربيع الديمقراطي العربي اليوم، يتجلى في انكشاف الطابع الرسمي»السلطوي، للكثير من رموز الحداثة في الفكر والإبداع أمام الرأي العام العربي، هؤلاء الذين صاغوا النسق الاستبدادي، فكرا وإبداعا، في غفلة من الذائقة النقدية، التي تم تخديرها عبر القراءة البنيوية السطحية، التي تكشف فنية الأسلوب وشكل الصياغة، بهدف إخفاء الموقف الرجعي، الذي يتسلل عبر شقوق اللغة والفكر.
إن الواجب العلمي والفكري يفرض على الجيل الثوري الجديد، يفرض عليه مسؤولية كبرى في محاربة كل بؤر الاستبداد والتسلط في الفكر والإبداع والممارسة، ولا يمكن أن تنجح هذه المهمة، إلا عبر المزاوجة بين الدرس السياسي من جهة، والدرس الفكري والنقدي من جهة أخرى. ــ على مستوى الدرس السياسي، يجب الحفر في النظرية السياسية الحديثة، التي نجحت في تحقيق القطيعة مع الفكر والممارسة السياسيين، بطابعهما القروسطوي القديم، وهذا من شأنه التأسيس لممارسة سياسية حديثة، تقوم على أساس رد الاعتبار للإرادة الشعبية، التي تم تهميشها لقرون، بادعاء أن الدهماء تشكل خطرا على الدولة. ولذلك، فإن النخبة السياسية والثقافية، هي المؤهلة، وحدها، لاحتكار ممارسة الحكم وتسيير شؤون الدولة.
ــ على مستوى الدرس الفكري والنقدي، يجب الحفر والتنقيب في تراثنا الفكري والإبداعي، وتشجيع المواقف التقدمية في هذا التراث، وهي كثيرة، من محنة ابن حنبل إلى نكبة ابن رشد إلى محنة الفقيه جسوس… وفي المقابل، يجب فضح المواقف الرجعية، من فقهاء الاستبداد إلى شعراء ومفكري البلاطات السلطانية، وأسماؤهم لا تعد ولا تحصى. وفي هذا الإطار، يجب الاهتمام بالنقد الثقافي، الذي يعتبر وسيلة فعالة للكشف عن الأنساق الرجعية الثاوية خلف جمالية الأسلوب ورصانة البناء.
إنها مسؤولية عظيمة، تنتظر الفكر التقدمي العربي، بجميع اتجاهاته الفكرية والإيديولوجية، لأن التقدمية إيمان بالتطور والتقدم إلى الأمام عبر مراكمة الإنجازات، وليست إيديولوجية تقتصر على نخبة دون غيرها، فكل من يمتلك وعي التقدم والتطور، هو تقدمي، ويجب أن يساهم، من منظوره الخاص، في إثراء هذا الحراك العربي التاريخي.
كاتب وباحث أكاديمي مغربي
/6/2012 Issue 4235 – Date 26 Azzaman International Newspape
جريدة الزمان الدولية العدد 4235 التاريخ 26»6»2012
AZP07