نذير الأسدي
وأنا أسير بمحاذاة الرصيف، اعترض طريقي شابان ظهرت عليهما علامات النضج والوسامة والشباب.
انهالا عليَّ تقبيلًا وعناقًا واحتضانًا، وسط كلمات الحب والترحيب واستذكار الماضي.
لقد كانا من تلامذتي الذين أصبحوا رجالًا.
ومن بين ما استذكراه عني هو قسوتي وشدتي وغلظتي في محاسبة المقصرين. وأكدا لي أن صفعاتي والعصا أثمرت بوصولهما إلى أهداف ومقاصد تحققت لهم بفعل تلك العصا.
فقد وصل أحدهما لدراسة هندسة الطيران في روسيا، بينما نال الآخر شهادة الدكتوراه.
شعرت بزهو وفخر يفوق أي مكسب حققته في حياتي، فإن وصول عدد من تلاميذي الصغار إلى مناصب ووظائف مهمة في مجالات الحياة جعلني أشعر أنني ربما كنت سببًا من الأسباب التي أوقدت النور لهؤلاء التلاميذ الذين نسيت الكثير من أسمائهم وصورهم بفعل تقادم الأيام.
الحقيقة أنني لم أعرفهم في بادئ الأمر، لكن اتضح لي أنهما من التلاميذ الصغار الذين درستهم في المراحل الأولى بمدرسة المجتبى الابتدائية.
تذكرت هؤلاء التلاميذ، وغيرهم من المئات الذين تسلموا مناصب وأعمالًا كبيرة.
لقد أصبحوا أطباء مهرة ومهندسين وطلاب ماجستير ودكتوراه، وضباطًا وإداريين وحتى نوابًا ومسؤولين في الدولة.
كانت جهود جميع المعلمين المخلصة هي التي أسهمت في تقويمهم ووصولهم، وأخص بالذكر الأستاذ بسيم كاظم محمد الحسن، مدير المدرسة، الذي كان متفوقًا في إدارة المدرسة وحريصًا على إظهارها بالوجه الذي جعلها من المدارس المتفوقة في محافظة بابل آنذاك، حيث كان له دور مهم في متابعة التلاميذ ودراستهم.
كانت جهودًا تعاونية مشتركة أسهمت في إعداد جيل اتسم بالجد والإخلاص والوفاء.
هذه ليست المرة الأولى التي يصادفني فيها أحد تلاميذي وينهال عليَّ بالإطراء والمديح والاحتضان، فقد أوقفني قبل عام ضابط برتبة عقيد في إحدى السيطرات، وطلب مني الترجل من سيارتي، وطلب إجازة وسنوية السيارة، وراح يضع أمامي بعض المخالفات والمعرقلات، لكنه اتضح أنه كان أحد تلاميذي وأراد أن يمازحني بلطف، وكاد أن يقبل يدي وشكرني على تلك القسوة والصفعات والعصا التي أوصلته لهذا المنصب، فأراد مجازاتي بطريقة طريفة.
كنا نهتم بالجانب الدراسي، وليس فقط به، بل بالجانب الأخلاقي والاجتماعي، ونحاسب على النظافة والملابس والشكل العام للتلميذ.
إن من أعظم المكاسب هو أن تشعر أن زرعك قد أثمر وأعطى، وأن من قسونا وشددنا عليهم وحاسبناهم ورفعنا العصا عليهم، كان ذلك لغرض التعليم والتهذيب.
والحمد لله، فقد أصبحوا لنا أبناء بررة يتابعون أخبارنا ويستقبلوننا بالأحضان حيثما وجدونا.
إن القسوة والغلظة والعصا لم تكن سوى أدوات لصناعة إنسان مدرك وواعٍ ومهذب.
الحمد لله الذي جعل من قلوب التلاميذ الصغار قلوبًا كبيرة تهفو إلينا وتحيطنا بالحب والتقدير.
لقد دخلنا في هذه القلوب بفضل ما قدمنا من وفاء وإخلاص وحرص لأبنائنا التلاميذ.