
نبض القلم
غري غيري ..
غالبا ما ينصرف الذهن عند الحديث عن السلطة الى الدنيا ، وكيف يربط بينهما الزاهدون بهما لصفة الزوال ، وعدم الثبات التي تجمعهما ، ولأشتراكهما في صفة الغرور الذي يتملك قلب من يهيم حبا بهما.. وتلك حقيقة لا جدال فيها ..
والزهد بهما شي محمود ، إلا ما كان فيه رضا لله ، والضمير ، والمصلحة العامة ، وذلك لن يتحقق الا بالسيطرة على النفس ، وضبطها من أن تنخدع بمظاهرهما البراقة ، والسقوط في إغراءاتهما ، والانحراف عن الاهداف الحقيقية ، وتتلخص في إعمار الارض ، وتحقيق العدالة لخدمة الانسان ، والاهتمام بشؤون حياته المختلفة ..
وهنا يتبادر الى الذهن سؤال مفاده .. كيف يكون المنصب في خدمة الدولة والمجتمع وتطورهما نحو الافضل ، دون أن يقع من يشغله في حب السلطة ، أو يستخدمه لمنافع ذاتية مادية ، أو إجتماعية أو إعتبارية ؟.
هناك قول مشهور للامام علي بن أبي طالب (ع) في الزهد بالدنيا يمكن ان تجد فيه البداية التي تنطلق منها لمعرفة الجواب … (يا ابن آدم كن في الدنيا غريبا أو كعابر سبيل ولا تكثرث بما فيها من زينة فانية) … (اليك عني يا دنيا ، غري غيري ، اليّ تعرضت أم اليّ تشوقت ؟؟ هيهات هيهات فاني قد طلقتك ثلاثا لا رجعة فيك ، فعمرك قصير، وخطرك كبير، وعيشك حقير..) ..
فمن كان حب الدنيا يشغل قلبه ، سيكون صيدا سهلا لها ، ويمكن أن تغريه السلطة بسهولة ، وتلفه في شرنقتها ، ولا يجد فكاكا منها ، ويكون سهل السقوط في فتنة المال ، ومد اليد الى الحرام ، وإرتكاب المعاصي ، وعدم تطبيق العدالة مع الجميع ، والخروج عن طاعة الله فيها ، وتعليمات القوانين ، أو تكييفها لاهدافه الخاصة ، والتحايل عليها ، دون الالتفات الى مخاطر ذلك ، وعواقبها عليه ، وما تلحقه من ضرر فادح بالبلاد والعباد ..
إن مثل هذا الشخص إذا ما تسلم مسؤولية سينحرف بالمنصب عن هدفه الوطني الكبير في تحقيق رؤية سياسية تخدم الوطن والمواطن ، ويجعل منه مشروعا خاصا، أو سلعة تباع وتشترى في المزاد ، ويساعد في إستشراء الفساد ، كما يخلق حالة من الاحباط لدى المواطن ، ويضعف هيبة الدولة والتشكيك بها ، في وقت يفترض أن تكون هي سنده ، وملاذه وحاميه والأمينة على ماله ومصالحه ، وإستثمار الاموال في مجالها الطبيعي بتقدم ونهوض البلاد وخدمة العباد ، وليس أن تذهب الى جيوب الفاسدين ، وفي غير مجالها الطبيعي ..
إن المنصب ليس تشريفا ، أو مكافأة تمنح لتقدير موقف شخص ما ، أو لنضاله ، او لحسابات ذاتية ، كما هو ليس (حصة) ، أو (مكافأة ديمقراطية)، إذا جاز التعبير بفعل الاصوات ، فهو (في هذه الحالة يكون لخدمة الشخص الذي يشغله ، أو الحزب الذي جاء به ، وليس لخدمة الشعب والدولة) ..
المنصب هو (أمانة ومسؤولية أمام الله)، وتسليم هذه الأمانة (لمن لا يستحقها خيانة في الدنيا ، وخزي وندامة يوم القيامة إلا من أخذها بحقها ، وأدى الذي عليه فيها) … كما جاء في حديث للرسول الكريم محمد (ص) (نعم الشيء الامارة لمن أخذها بحقها وحلها ، وبئس الشيء لمن أخذها بعير حقها فتكون عليه حسرة يوم القيامة) ..
وتبرز أهمية الاختيار للمنصب والتشدد في المواصفات المطلوبة في الظروف الاستثنائية والازمات التي تمر بها البلاد ، لكي يخرج بها من تلك الظروف الصعبة ، وإختيار ملك مصر ليوسف (ع) ليكون (وزيرا للتموين) في ظروف القحط المعروفة التي مرت بها بلاده مثال على ذلك .. ويعطي نموذجا على دور المنصب في الظروف الاستثنائية ، وكيف يخرج بالبلاد من محنتها ، مثلما إستطاع (يوسف) بنجاح أن يمكن مصر من أن تعبر السنين العجاف ، ويضمن العدالة في توزيع القمح على المواطنين ، وهو المادة الاساسية لحياتهم يومذاك ..
والاصلاح يبدأ من هنا .. من الدقة في الاختيار وفي تقديم الانموذج في الكفاءة .. كفاءة الضمير (النزاهة) والكفاءة المهنية ، فهما متلازمتان ، ولن يتحقق الاصلاح والهدف المطلوب منه إن لم تكن الكفاءة هي المعيار في الاختيار ، لكي تأخذ حقها في المناصب والوظائف ..
إن نجـــــاح الاصـــلاح يحتاج الى مســـؤول بدرجة (قدوة) في الضمير والكفاءة والنزاهة والامانة والاخــلاص والتضــحية ونكران الذات ، وليـــــس في الامتــــيازات …
فكم هو المنصب خطير ، وأمانة ثقيلة في عهدة من يسند اليه ، لانه يتعلق بمستقبل وطن ، وحياة مواطن ..
وكم هي مسؤولية أصحاب القرار في الاختيار جسيمة أيضا امام الله والشعب .. في التدقيق في الحصانة المبدئية والكفاءة المهنية ، خاصة في الظروف الصعبة التي تتطلب أن يكون على رأس المؤسسة شخص بمواصفات (يوسف) في (الامانة) على (خزائن) البلاد وثرواتها ، وتوفير قوت الشعب في الظروف العصيبة ، وزهد (علي) ، وأخلاقه في الحصانة من المغريات ، والامانة ، ونظافة اليد وسلامة الضمير ، والاقتداء بسلوك (علي) وتعامله مع الرعية ، وحلمه وعلمه وشجاعته وكرمه ورؤيته الى الدنيا والسلطة، لكي لا يغره المنصب ، ويأخذه الطمع ، وينسى حساب الأخرة …
السلطة باختصار شديد .. تتطلب شخصا يمتلك يمتلك ضميرا يكون بوصلته الهادية له في عمله ، ويمنحه مناعة قوية من الاصابة بإغراءاتها ، و ينتزع حب الدنيا من قلبه ، ولا يكترث بزينتها الفانية ، لكي يكون محصنا من فتنة المال، فلا تمتد يده الى الحرام ، أو يستخدم المنصب في غير مجاله الطبيعي..
وعندها يستحق المنصب بحق واستحقاق…
وهو أمر ليس بالعسير على من يعمل لأخرته ، ولم تكن الدنيا أكبر همه..
{ { { {
كلام مفيد :
سُئل أحد الصالحين ..
كيف أنت ودينك ؟
قال كالثوب … تمزقه المعاصي وأرقعه بالاستغفار .
سؤال جميل وجواب أجمل ..
اللهم إجعلنا من المستغفرين التوابين الأوابين ، وأعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك ..
طالب سعدون


















