خالد علي مصطفى أكبر من التصنيف الأدبي –  أحمد كاظم نصيف

في الذكرى الرابعة لرحيله

خالد علي مصطفى أكبر من التصنيف الأدبي –  أحمد كاظم نصيف

التجربة الأدبية لكل أمة من الأمم تتمثل بنتاج شعرائها وكتابها، وهي تجربة تعبر عن سمات وملامح بيئتها، فيتحول الشعر إلى موقف فكري يعكس ارتباط الشاعر بأحداث ووقائع عصره، أو في التعبير عن توهج الوجدان الانساني، والشعر العربي قديمه وحديثه، ولد ونشأ وترعرع في بيئة غنائية، وواقع مشحون بالتحدي، فكانت سمتا الغنائية والواقعية من أبرز خصائصه الفنية.

والشاعر الراحل خالد علي مصطفى أحد الشعراء العرب في العصر الحديث الذي كان يعي ويدرك أن الشعر ليس تعبيراً عن حزن وفرح فردي، وأن الفن ليس ضيقاً إلى هذا الحد، بل هو بما فيه من سعة ورحابة جدير بأن يعنى بقضايا الانسان والواقع والأحداث، وقد مثل صوتاً وجدانياً ملتهباً، وفكراً انسانياً متجدداً، فكانت قصيدته تمثل القيم الشعرية العربية المتمثلة بفصاحة اللغة، وسلاسة التراكيب، وأصالة الصور، والوزن الشعري الواحد، وتعد قصيدة خالد علي مصطفى نموذج شعري ومثال فني أثبت وجوده وسيبقى، لأنه لم يكتسب خصائص فنية خارج بيئته العربية ولم يستحدث أشكاله بصورة قسرية بل بعفوية مستمدة من واقعه؛ وكذلك سيبقى خالد علي مصطفى خالداً وشعلة متوهجة في الأدب العربي الحديث، وضوءاً لا ينطفئ أستاذاً في ضمائر طلابه، وشاعراً في ذائقة القراء، وناقداً في عيون الشعراء، فقد تميزت شخصيته بكونها تتفجر حيوية ومرحاً، وتشع تعاطفاً، وإذا ما قرأ الشعر فأنك تنصت خشوعاً لصوته العذب، ويترك في داخلك انطباعاً ينطوي في كلمة واحدة: السحر.

والراحل مصطفى لم يختلف عن أقرانه الشعراء، كون الشعر الحر الذي كانت بداية حركته سنة 1947 في العراق حسب رأي نازك الملائكة، واحتدت هذه الحركة حتى غمرت الوطن العربي كله، لم يكن وليداً شعرياً بلا هوية قومية أو انسانية، فهو ظاهرة فنية أدبية، ارتبطت بالحركة الثورية العامة التي عاشها المجتمع العراقي والعربي معاً خلال سنوات ظهورها ونشأتها وتطورها، فحركة الشعر الحر لا تختلف عن أي حركة أدبية أخرى، فكان خالد علي مصطفى أحد كوكبة الشعراء العرب التي مثلت هذه الحركة والتي مثلت نماذجها قيماً فنية جيدة استطاعت واستأثرت في الوقت نفسه بالتأثير الفكري في الشعر العربي الحديث.

والراحل كان تواقاً للحرية ويحب الغموض، فالنزوع للحرية بعد الاحتلال والنزوح والهجرة والكبت والحرمان والعذاب وتجسيد الروح الاستقلالية، كل هذه العوامل مهدت إلى خلق شخصيته، فالحرية أعانته على تجنب تصنيفه تصنيفاً ضيقاً؛ بيد أن هذه الحرية قد جاءت بنتائج عكسية غير مرضية ولم تكن في حسبان الراحل ولا في خاطره، فعندما يكتب النقاد عن الشعراء الفلسطينيين يصنف خالد علي مصطفى شاعراً عراقياً، وعندما يتناولون شعراء العراق يصنف على أنه فلسطينياً، ورغم تجرببته الكبيرة والمخضرمة، فإن الدراسات حول شعره وتجربته ليست كثيرة، حاله حال شعراء فلسطينيين كثر من مجايلي محمود درويش وسميح القاسم، لم يُلتفت إلى تجاربهم كما تستحق أن تدرس شعرياً لأسباب ليست كلها إبداعية، فلم ينصفه النقد ما عدا مقالات نقدية قليلة، قال ذات مرة بهذا الصدد مجايله الشاعر الراحل سامي مهدي: “خالد شاعر مبدع مجتهد، ولكن النقد لم يولِ شعره من الاهتمام ما يستحقه، ومن الدراسة ما هو جدير بها، والسبب يعني النقاد وعُدَدَهم النقدية وانحيازاتهم الخاصة، ولا يعني شعره وعافيته الإبداعية، أما هو نفسه، أما خالد، فقد كان دائماً متحرجاً، زاهداً، في الحديث عن نفسه وعن شعره، وأما أنا فقد كتبت عنه وله أكثر من مرة، كتبت قصيدتين أهديتهما له هما قصيدتا: القيامة، ورغبة، وكتبت عنه، عن شخصه قصيدة عنوانها: خالد علي مصطفى.. وحين ألّفت كتابي (الموجة الصاخبة) كان اسم خالد يتردد في الكثير من صفحاته، وعدا ذلك خصصته بصفحات منه حللت فيها إحدى قصائده المبكرة هي قصيدة: ملاح الصحراء، وحين نشر ديوانه الأخير (غزل في الجحيم) كتبتُ عن هذا الديوان دراسة موسعة من ثلاثة مباحث عنوانها: في شعرية خالد علي مصطفى، ونشرتها أكثر من مرة، وكتبت عن خالد وشعر خالد غير هذا وذاك، وها أنا أكتب الآن هذه الشهادة الموجزة.. خالد علي مصطفى شاعر جاد، مثقف، واسع الثقافة، عميقها، وهو معروف بطلاقة لسانه، وخصب حديثه، لم تغره السهولة ولا بهارج اللعبة، ولم يعنَ بالادعاء، أو الاستعراض، ولا البحث عن الأضواء، إنه يكتب قصيدته ويتركها لنا، ولا يمنّ بها علينا، أرى أن شعر خالد ينتمي إلى الشعر العراقي الحديث في خصائصه الفنية، قبل أن ينتمي إلى غيره، حتى ليمكن القول: إنه شاعر عراقي، قبل أن يكون شاعراً فلسطينياً، ولعل من المفارقة أن يعده العراقيون شاعراً فلسطينياً في حين ينظر إليه الفلسطينيون وكأنه شاعر عراقي!” انتهى كلام سامي مهدي.

أما الغموض فقد مكنه من الهروب من النظرات النقدية الضيقة والطائشة، وقد تميز معظم شعر الراحل بهذا الغموض، مما حدا بالقارئ لأن يحار حيرة شديدة أمام هذا الغموض الكثيف؛ وليس غموض الشعر هنا متأتياً من غياب الوضوح الذهني لما يريد الشاعر قوله، فمعطيات شعر خالد علي مصطفى تؤكد وعيه الشديد، ومعرفته التامة بموضوعاته، وقدرته على رصد أفكار وتجميع تجاربه في نسيج شعري، وانما لسببين متصلين، الأول: ان المفردة لديه مشحونة بالظلال، وذات دلالات مجازية أو رمزية في الغالب يضيفها الشاعر على كلماته بيتاً بعد آخر مما يجعل متابعة المعاني بشكل واضح عملية صعبة، ولذا فلن تكون تلك الرموز بالنسبة لنا “منابع ايحاء” كما يقول ستندال، بينما هي لدى الشاعر أدوات تعبير أساسية؛ وثاني السببين: هو ان الشاعر سيشكل من هذه الكلمات والجمل صوراً متلاحقة تمسك الواحدة بالأخرى في نسيج تصويري غريب، ليست صورة فقط، إنها صور متتالية تقول أحداثا ً ذات اتجاه وهدف؛ وهي ليست مجرد صورة لموقعة مدهشة ذات إيقاع ديناميكي دقيق وذكي، بمعنى آخر ليست مجرد تصوير انسيابي بل هي مدّ درامي، بمعنى إن تكوين هذه القصيدة موجود في ثلاثة أمكنة في آن: المكان الأول هو القصيدة، والمكان الثاني هو ذاكرة القارئ، والمكان الثالث هو ذلك الفراغ الذي يفصل بين العين والقصيدة؛ وبهذا ينتقل تأثير الفعل من جماد يتتالى على القصيدة، إلى فعالية تتتالى في عيني القارئ ومن عينيه إلى ذهنه، ومن ذهنه إلى حياته اليومية.

في الوهلة الأولى تبدو قصيدة خالد علي مصطفى صعبة عصيّة، ولكنك إن أمعنت النظر فيها تكشفت لك أسرارها، وتبدّت بكل حيويتها وخصبها وثرائها، فهي قصيدة تغلب عليها الصنعة، قصيدة ذات طبقات، مركّبة تركيباً معمارياً دقيقاً، ومعقداً، ولذا تتطلب قراءة صبورة تخترق بنيتها السطحية وتصل إلى بنيتها العميقة، لاكتشاف قوانين اشتغالها، والتعرف على نسيجها الداخلي.

ونظن أن ليس بين الشعراء العراقيين والفلسطينيين والعرب من يضاهي الشاعر خالد علي مصطفى في ولعه بخلق الصور.

والراحل خالد علي مصطفى اشتغل في النقد الأدبي أيضاً بحكم وظيفته التدريسية، فقد كان أستاذأ في مادتي العروض الشعري والنقد الأدبي الحديث في كلية الآداب في الجامعة المستنصرية، ومارس النقد صحافياً، وهو ناقد معروف، بيد أن هناك ثمة صعوبة بالغة ومزلق خطير يواجه أي شاعر يتصدى لأن يجمع بين الشعر وفن آخر، وهذه الصعوبة هي القدرة على الامساك الواعي بمتطلبات الفنين معاً، فلكي يكون الشاعر ناقداً، أو قاصاً، أو روائياً، أو مسرحياً في الوقت نفسه فان عليه أن لا يجعل أي فن منهما يقوم على حساب الآخر، وتلك مسألة ليست بالسهلة اطلاقاً، بيد أننا لا نشك بأن خالد على مصطفى قد أجاد في صنعتي الشعر والنقد معاً.

أصدر الراحل ست مجموعات شعرية بدأها بـ “موتى على لائحة الانتظار” (1969) و”البصرة حيفا” (1975) ثم “سفر بين الينابيع” (1973) و”المعلقة الفلسطينية” (1979) و”سورة الحب” (1980) وأخيراً “غزل في الجحيم” (1993) وهي آخر إصداراته الشعرية وتتكوّن من تسعة أجزاء من بينها “سفر التكوين الفلسطيني”، و”السونيتات الفلسطينيه”، و”كتاب الرؤى” و”سورياليات”.

للراحل مصطفى أيضاً كتب ومراجعات في النقد الأدبي؛ من بينها دراسة بعنوان “الشعر الفلسطيني الحديث” (1978)? ودراسة أخرى بعنوان “شاعر من فلسطين” عاد فيها إلى تجربة مطلق عبد الخالق (1909 – 1937) و”في الشعر الفلسطيني المعاصر” و”شعراء البيان الشعري”.

مشاركة