بين نموذجين – طالب سعدون

نبض القلم

بين نموذجين – طالب سعدون

سمها ما شئت … تظاهرة .. إنتفاضة .. ثورة .. وبغض النظر عن أي ملاحظة  من هنا أو هناك ، فهي تأخذ عنوانها من مضمونها  .. ممارسة شعبية سلمية تمثل حالة  متقدمة في تقدير المواطن لدوره ، وكانت أكثر اتساعا وشمولية  هذه المرة من المرات السابقة ، وتعبر عن  مستوى عال من الوعي في أن يتمتع هذا المواطن  بكامل حقوقه المشروعة ،  وينعم بثرواته ، مع إدراك حجم المخاطر التي تتهدد بلاده ، إذا استمرت على هذه الحال ، وضرورة أن تحتل موقعها الطبيعي ، وتمارس دورها المعهود بين دول العالم في النهوض والتقدم والحضارة ، بما يناسب تلك المكانة ..

وهذا ما لا يختلف عليه إثنان من مختلف الاتجاهات ، بما في ذلك الطبقة السياسية الحاكمة .

ومن هنا فان أي تفسير للتظاهرات لا ينطلق من هذه الحقيقة يكون قد  صادر حقا دستوريا  أولا ، وخالف طبيعتها ، وما عرف عن الشعب العراقي، برفضه المساس بحقوقه  المشروعة على مر العهود والعصور،  ودفاعه المشرف عن وطنه ، وإن إمتاز أيضا بصبره العالي ، وقوة التحمل ، ولكن الى حدود، وتمسكه بثوابته الوطنية  والدفاع عنها مهما بلغت التضحيات ، كأن  يفسرها  البعض على وفق (نظرية المؤامرة) ، كأن تكون بايعاز من هذه الجهة الخارجية أو الداخلية أو تلك ،  رغم أنه قد يكون هناك من يحاول إستغلالها  ، من هذا الطرف ، أو ذاك ، لاغراض بعيدة عن الاهداف التي خرجت من أجلها الجماهير ، ومشروعية مطالبها الوطنية ، وهذه مسألة متوقعة في كل التظاهرات في العالم …

ولذلك كان هناك اجماع  داخلي وخارجي  عليها ، سواء في تفهم طبيعتها  من مختلف الجهات  بما في ذلك من الحكومة والاحزاب ، أو في التعبير عن حالة التضامن معها …

فماذا يتوقع هذا البعض من شعب أصبحت  بلاده  تتصدر قائمة الدول في الفساد ، وتُنهب ثرواته ، وهو يعيش في حالة صعبة ، من أنعدام أبسط الخدمات وفي مقدمتها الماء الصالح للشرب والكهرباء ، التي تجدها متوفرة بمستويات طبيعية في أفقر الدول …

وماذا يتوقع من شعب تصل نسبة الفقر  فيه الى حد يعجز الانسان عن أن يوفر لقمة العيش لأبنائه ، الذين إضطروا الى ترك الدراسة ، والعمل تحت ظروف قاسية لا تناسب أعمارهم …؟

 فهل لم يلحظ هذا البعض حال الاطفال في الشوارع ، وعلى تقاطعات الطرق ، وكيف يتجمعون حول السيارات طلبا للمساعدة ، أو بيع أمور بسيطة ..؟

وهل لا يعرف هذا البعض أن فقر الاطفال أصبح ظاهرة  في العراق ، إذ يشكل 48  بالمائة من السكان أعمارهم أقل من 18 عاما ، بينهم 23 بالمائة فقراء ، أي أن كل طفل من اربعة اطفال يصنف فقيرا على حد ما تشير احصائية دولية …

وهل يعلم هذا البعض أن العراق إذا استمر على هذه الحال من الفساد قد  )يواجه مصير دول  تصنف على أنها (دولة المعونات والمنح الغارقة بالفقر) ، أو يكون من نموذج ما يسمى بـ (الدول الهشة) ،  فمصيره سيكون بين هذين النموذجين  اذا لم يتخلص من هذه الحالة ، على ما حد ما نقلته الوكالات عن تقرير نشره موقع (ذي اتلنتك)  اُعد للمجلس الاطلسي الامريكي (ليس بسبب عدم إمتلاكه ثروات تؤهله للعيش الكريم) ، وإنما بسبب الفساد وعدم الكفاءة والادارة وغياب الفاصل بين الرسمي وغير الرسمي الذي تسبب باهدار موارد هائلة كان يمكنها أن تمنع تفاقم الازمة ، وتتعامل مع قضايا ذات أثر بعيد  المدى، مثل شحة المياه والتغير المناخي) ولذلك يجب إعادة النظر بجوهر دور الدولة ، ووظيفتها ،  واعادة هيكلتها على حد ما ذهب اليه التقرير  …

وهل إطلع هذا البعض على الاحصاءات الحديثة للبنك الدولي التي تشير الى إن نسبة الفقر في العراق وصلت الى (2 . 41 بالملـــئة) في المناطق المحـــررة و (30 بالمائة في المناطق الجنوبية) و (23 بالمائة في الوسط ) و (12.5 في اقليم كردستان ) …

ألا تجعل تلك الاحصاءات تصنيف العراق يكون من الدول الفقيرة ، وإن كان يملك ثروة كبيرة من الموارد الطبيعية جعلته يصنف في المرتبة  التاسعة على مستوى العالم ، بما يملكه من موارد طبيعية تبلغ نحو 15.9 تريليون دولار من (النفط والغاز والفوسفات) ، على حد ما  سبق أن نشرته  صحيفة وول ستريت جورنال الامريكية ، وتناولته في مقال في حينه في صحيفة  (الزمان) بعنوان (وهم الثروة)..

وإذا كانت هذه الثروة وهي بقوتها تعجز عن توفير أبسط مقومات الحياة للمواطن وهي  الماء الصالح والكهرباء والعمل لكي يعيش فما قيمتها في حياته ، وكيف ستكون حال الاجيال في المستقبل …؟..

فهل عرف هذا البعض المولع بنظرية المؤامرة لماذا خرج اهل الجنوب في تظاهرة انطلقت شرارتها من البصرة ، واتسعت الى محافظات اخرى ..؟

 فهل  يصدق أحد في العالم  عندما يتطلع الى التلفاز ، و يرى المشاهد  الصعبة أمامه التي تتمثل بافتقار الانسان الى ابسط  مقومات الحياة وهو الماء الصالح للشرب والكهرباء والعمل بأنها صور تنقل من بلد له  تسلسله المتقدم  في العالم من حيث الموارد الطبيعية ؟..

فما قيمة تلك الترليونات من الثروات الطبيعية  في باطن الارض وعلى ظهرها ، إن لم تسعد الانسان ، وتشطب خط الفقر نهائيا  من على خارطتها  ، ويضمن كل مواطن حقه ، وحق الاجيال اللاحقة في حياة كريمة ، وليس أن يعيش هذه الحياة الصعبة .. ؟..

كان يمكن للثروة أن تجعل العراق ينهض ويكون نموذجا خاصا به ، و قوة اقتصادية عالمية ، وتجربة فريدة يحتذى بها في العالم على غرار النماذج العالمية ، وهي كثيرة ، مثل  نموذج اليابان ، أو  نموذج ماليزيا ..

نعم .. كان يمكن للعراق أن يكون كذلك  نموذجا مثل  هذين النموذجين  في التطور والنهوض ، وليس  مثل النموذجين اللذين  اشار اليهما  التقرير في مقدمة  المقال ، لولا الفساد ، وسوء الادارة ، وعدم الكفاءة بسبب المحاصصة المقيتة  ..

ومع ذلك يمكن أن ينهض العراق من جديد عندما تتوفر الارادة والادارة  (الحاسمة  والحازمة) والكفوءة ، ويتخلص من المحاصصة المقيتة ، لكي تحتل الكفاءات  الوطنية موقعها الطبيعي في العمل والنهوض والتقدم ، وبناء دولة  قوية..

وعندها تكون للثروة  بكل مسمياتها الطبيعية والبشرية قيمة ، وللموقع القيادي  والرسمي والسياسي  مهمة ودور في الحفاظ عليها وتنميتها ، لتكون في خدمة الوطن والمواطن …

 فهل  ذلك بالأمر العسير …؟

– لا اعتقد جازما…

 – وربما جاءت التظاهرات في وقت مناسب لتزامنها مع الحراك السياسي لتشكيل الحكومة .. عسى ان تأتي  الحكومة المقبلة  ، بما يشتهي الشعب هذه المرة ، ويتخلص من المحاصصة المقيتة ، التي كانت بيئة  مناسبة ساعدت على الفساد والاضرار بالبلاد والعباد..

                              { { { {

كلام مفيد :

إهتم بمن يهتم بك ، أما الباقـــــون فرد التحـــــية يكفي … ( شكسبير ) .