أمل الجبوري
في زمن تتصاعد فيه ألسنة النار على جسد فلسطين، ويُستباح فيه الإنسان العربي دون مساءلة، تتراجع الأصوات التي كانت تُعدّ ذات يومٍ ضميرًا ثقافيًا للأمة. والمفارقة المؤلمة أن هذا التراجع لا يصدر عن خصوم العدالة، بل من داخل البيت الثقافي العربي نفسه، وتحديدًا من بعض من حملوا لافتة “النشر المعرفي الرصين”، فإذا بهم يرفعون الراية البيضاء، لا أمام عدو خارجي، بل أمام ضغوط السوق، وموازين القوى، وعُقدة البقاء.
حينما تواصلتُ مع أحد الناشرين المعروفين، ممن كانت لهم بصماتٌ معتبرة في رفد المكتبة العربية بأعمال فكرية وموسوعية، لأعرض عليه مخطوطي الجديد حول المؤرخ آفي شلايم ودوره في تفكيك السردية الاستعمارية، باغتني بجواب يفيض مرارة:
“كلا، لم نتوقف عن النشر، لكننا ننشر أشياء خفيفة… بل أشياء كنتُ أتمنى عدم نشرها. لم نعد نملك خطًا فكريًا أصلًا. نسعى فقط لأن نستمر، وهذا كتاب لن يجد له سوقًا في عالمنا العربي العظيم… هذا كل شيء، وبكل شفافية.”
وهنا تنقلب الشفافية إلى خيانة رمزية. لا خيانة لي كمؤلفة، بل خيانة للمعنى، للمثقف، للقارئ، وللزمن الذي يتطلب صوتًا لا يرتجف أمام كلفة الانحياز للحق.
أما الناشر الآخر، فكان صريحًا على نحو أشد قسوة:
“أعفني من نشر أي كتاب عن الصهيونية أو إسرائيل أو اليهود. إن فعلتُ ذلك، ستُمنع كل كتب دارنا من النشر والتوزيع. وأنا مسؤول عن أسرة وموظفين عليهم أن يتقاضوا رواتبهم.”
بأية معايير أخلاقية يمكن تقبّل هذه الأعذار؟ هل أصبحت الرقابة غير المعلنة، والمصالح التجارية، والخوف من ردود الأفعال الخارجية، هي البوصلة التي توجّه النشر في العالم العربي؟ هل يُعقل أن تتحوّل دور النشر، التي كانت يومًا منارات للحرية والمعرفة، إلى مؤسسات تتحاشى المواجهة، وتفضّل “السلامة” على الموقف، و”الاستمرار” على الرسالة؟
إن من المؤلم أن يكون الناشر، الذي يفترض أن يكون حارسًا للمعرفة وشاهدًا على الزمن، أول من يتنصّل من مسؤوليته التاريخية والأخلاقية. نعم، نتفهم الواقع الاقتصادي الصعب، ونعلم أن إدارة دار نشر ليست أمرًا هيّنًا في ظل تقلبات السوق وندرة الدعم. لكن، ما جدوى “الاستمرار” في طباعة كتب “خفيفة”، لا تُغني القارئ ولا تُسهم في الوعي الجمعي، في وقتٍ تتكالب فيه آلة القتل والتهجير والتزييف على شعوبنا؟
كيف نفسّر هذا التواطؤ الصامت مع القوى الكبرى التي تقتل وتُهجر وتُحاصر دون حساب؟ كيف نفسّر تخلي من يفترض أن يكونوا حراس الكلمة، عن كلمة الحق؟ أليس من العار أن تُرفض الكتب التي تقدم رواية علمية رصينة عن المشروع الاستيطاني الإسرائيلي، في وقت تتظاهر فيه شعوب العالم يوميًا، وتتعرض فيه أجيال من الناشطين للاعتقال والطرد والضرب، فقط لأنهم تجرأوا على الوقوف مع الحق الفلسطيني؟
ليس هذا خطابًا عاطفيًا، بل سؤال تأريخي سيواجهنا لاحقًا، حين يُكتب عن هذه المرحلة: من الذي صمت؟ ومن الذي تواطأ؟ ومن الذي تذرّع بالخوف و”الاستمرار” ليبرّر التخلّي عن ضميره؟
إنها لحظة امتحان عسير لكل من يُحسب على النخبة الثقافية: للمثقف، للناشر، ولصانع الرأي. فهل نرتضي أن يكتب التاريخ عنّا أننا كنا صدى لا صوتًا، وظلًا لا موقفًا؟
فهل أصبح العالم العربي يخاف من الكتاب أكثر مما يخاف من القتل؟
وهل فقدنا إيماننا بأن النشر فعل مقاومة لا مجرد تجارة؟
السؤال الذي لا مفر منه:
كيف سيتحدث التاريخ عن هذا الدور الغائب للناشر العربي؟
هل سيكتفي بتوثيق صمته؟ أم سيدينه كشريك ضمني في قتل الحقيقة؟
ألا يُفترض بالناشر أن يكون أكثر من مجرد رجل أعمال؟ أليس حارسًا لذاكرة الأمة، وراعيًا للكلمة التي تُوقظ لا تُخدّر؟ أين مسؤوليتنا الثقافية في هذا الزمن الذي يتآكل فيه المعنى، وتُغتال فيه القيم تحت عناوين “الاستمرار” و”الواقعية” و”أمان السوق”؟
ربما لن يحاسبهم أحد اليوم.
لكن التاريخ، وهو لا ينسى، سيكتب عن هذه المرحلة، وسيتساءل:
من الذي خان الكلمة حين كانت الكلمة وحدها مقاومة؟
ومن الذي اختار أن يصمت حين كان الصمت خيانة؟