اضحك للدنيا
حسن النواب
ذات ظهيرة شتوية دخل كزار حنتوش الى منزلنا في كربلاء يرتدي بدلة أنيقة رمادية مخططة بأعمدة سود رفيعة مع ربطة عنق حمراء، لم أر كزار بهذه الأبّهة من قبل ، فهو عادة مايرتدي ملابس بالية مشبّعة بالعرق لعسر الحال ، بعد جلوسه بغرفتي الصغيرة ، لبثتأدور حوله مندهشا وأردد متسائلا ً :
– من أين جئت بهذا القاط الفاتن ؟
نفث دخان سيجارته بسعادة وحلّقت إبتسامة جذلى على وجهه القروي ثم أجابني بإعتزاز :
– الصديق عواد علي أهداني إياه ..
مرقَ سؤال خاطف في ذهني ، ذلك ان منزل صديقنا عواد علي في كركوك فسألته مرتاباً :
– وهل ذهبت الى كركوك ومتى ؟
– لم اذهب الى هناك ، إنما حمله عوّاد بحقيبته وأعطاني القاط عندما إلتقيته في فندق المنصور ميليا ..
وبسرعة مسح رماد سيجارته الذي تساقط على حافة سترته ، تبسمّت بخبث وعلّقت :
– أراك تحرص ان يبقى « القاط « نظيفاً ؟
هزّ رأسه وتأملني بثقة وثمة إبتسامة ماكرة رسمها على وجهه كأنه يخبرني ان خبثك إكتشفته فلا جدوى منه ، ثم أخرج من جيبالسترة بطحية خمر وشرب منها جرعة طويلة ونفث دخان سيجارته ، هرعت الى المطبخ وعدت حاملا برتقالة واحدة لم يكن سواها فيالثلاجة ، وضعتها أمامه ، ثقبها بقلم رصاص كان على الطاولة ومصها للحظات وأعادها الى محلها ، دعاني لمشاركته الشرب وهويضع بطحيتة أمامي ، نهضت ومن صندوق خشبي عتيق أخرجت زجاجة عرق مملوءة الى نصفها ، كرعت كأسا منها نخبه ، ثمعدت الى مشاكسته متفحصا بذلته الجميلة بعينين ساخرتين ، إنتفض فجأة وهتف بحرقة :
– دعنا نستمتع .. وإترك أمر « القاط « رجاءً .
أطلق حسرة وأردف قائلا بقناعة :
– لو كان حجمه يناسبك لنزعته فورا مادام أعجبك .
أطلقتُ ضحكة رعناء ونهضت أزرع قبلة على رأسه ثم قلت :
– تعلم أني لا احب إرتداء « القاط « وأرتاب ممن يرتديه .
نظر نحوي غاضباً وتمتم بحيرة :
– هل أخلعه حتى تحبني ، اخبرني ماذا أفعل ؟
أجبته بمحبة واضحة :
– بل أنت الوحيد الذي أحب أراه يرتدي « قاطا « بهذا العالم .
قرع بطحية العرق بكأسي الفارغة وإبتلع حسوة صغيرة ومسح فمه بِكَمْ السترة .. قلت أحذره بخبث :
– بدأ القاط يتسخ ..
ضحك من كل قلبه وقال :
– ليتني لم أرتده .. وبعته في الباب الشرقي قبل قدومي إليك .
سألته بخبث مرة أخرى :
– كم بطل عرق يمكن ان تشتري بثمنه ؟
– أووووووووووووه ياحسن .. دعنا نشرب ارجوك ..
هيمن على المكان صمت مزعج إستمر لدقائق ، لبثنا خلاله نشرب خمرتنا بحزن فادح ، فجأة بدأ يدندن :
– أي دمعة حزن لا لا لا ..
كنت أعرف انه يعشق عبد الحليم حافظ ، بل طالما أخبرني انه يشبه العندليب الأسمر ، ولذا عندما زرته في بيت أخيه هادي من قبل، وجدت صورة عبد الحليم مع صورة شاعر عراقي على جدار غرفته ، فتحت فمي موغلا بمشاكستي .
– تشبه عبد الحليم بكل شيء .. الاّ بصوته .
رمقني بعينين ضاحكتين .. ونبس :
– صحيح
على حين غرّة دخل الغرفة أخي علي النوّاب ، بعد عناق جارف مع ضيفنا الحبيب ، جلس بجوارنا وسرعان ما مرر أصابعه برفق على» قاط « كزار الذي ضحك بمتعة وسأل أخي :
– هل أعجبك القاط ؟
أجاب علي بصراحة :
– جداً
هبَّ كزار كالملدوغ وخلع سترته قائلا :
– هو لك إذن ..
كانت بُنية أخي علي قصيرة ونحيفة مثل كزار ، والقاط يناسب حجمه تماما .. سرعان ما إرتداه أخي وترك كزار بملابسه الداخلية ..إختفيت من الغرفة لدقيقة وعدت لضيفنا الكريم بدشداشة تستر عريه ، رفعنا الأنخاب بصحة « قاط « عواد علي ، مسرّة واضحةطغت على ملامح أخي بعد ارتدائه القاط ، بينما كان كزار في تلك اللحظات أسعد إنسان في العالم حين قال بنشوة عارمة :
– الإنسان الحقيقي هو من يهب سعادته لسواه .
* القاط : مفردة شعبية تعني البدلة الرسمية .