القاضي الجرجاني واستقلالية العقل النقدي

القاضي الجرجاني واستقلالية العقل النقدي
خليل مزهر الغالبي
القاضي الجرجاني هو ابو الحسن ــ على بن عبدالعزيز بن الحسن الجرجاني، ولد في جرجان 933ــ1001م ونشأ حتى رحل لطلب المعرفة الى العراق وبلاد الشام وتعرف على العلوم والفكر والآداب واصبح من رموز عصره فيها . ثم عاد و وصل الى الامير والشاعرــ الصاحب بن عباد فاعجب به الصاحب ــوقلده قضاء جرجان ثم ولاه قضاء الري حتى صيرهُ قاضي القضاة،و إلى جانب علمه المختص بالفقه والذي ألف فيه كتاب تفسير القرأن المجيدــاضافة لكتابته في التأريخ في مؤلفه تهذيب التأريخ كان ذو شعر جزل وبسرد ابداعي واضح بسهولة وقوة العبارة،كان القاضي ــ ذو اهتمام كبير بالحكمة والغزل، و لطبعه الاخلاقي الحسن، حافظ على حقيقة رؤاه النقدية واستقلاليتها الصادقة،فمع شدة صحبته للأمير ــ صاحب بن عباد الذي يحمل على المتنبي الغيض لعدم مدحه له، حتى ألف كتابا في الكشف عن مساوءه أسماه ــ رسالة الصاحب بن عباد في الكشف عن مساويء شعر المتنبي ــ رفض الجرجاني تعيب شعر المتنبي،و راح لتأليف كتابا،بدعوى حجة الوساطة بينه وبين خصومه، اسماه ــ الوساطة بين المتنبي وخصومه ويعد دراسة في الادب المقارن والنقد التطبيقي،وقد نجحت الوساطة في تحديد مفهوم خصوصية الشاعر و تفرده من حيث الاسلوب الشعري ولغته،اضافة لتبنيه الموقف الادبي ازاء السرقات،و منها تهمة السرقات كما في ادعاء البعض وموقفهم الضاد والمرديء لشعرية المتنبي…مثل كتاب ــيتيمة الدهر في محاسن أهل العصر للثعالبي ــ وكتاب ــ سرقات المتنبي ومشكل معانيه لابن بسام النحوي،وغيرها،ويعد موقف الجرجاني اجراء نبيل لشجاعة ادبية نادرة على طول تاريخ التراث العربي لخصوصية الموقف ومتعلقاته،وهو درسا لابد للاجيال الادبية من قرائته وفهمه والأحتذاء به،خاصة وقد امتلأ تاريخ الادب العربي بظاهرة تزلف وتكسب الكثير من الادباء وخاصة الشعراء منهم،في مدحهم المجمل لذلك الحاكم القبيح والظالم الذي اودع اقرانهم وبقية المناضلين المعتقلات وغيبهم،لذا تبقى القيمة الجمالية للادب والفن جمالية مؤنسنة وكما وصفها الناقد يوسف سامي اليوسف ــ وعندي أن الوظيفة النهائية للآداب والفنون كلِّها تتلخص في إحياء الضمير االذي به يصير الإنسان أنسانا.
ومن شعر ابو الحسن الجرجاني المبجل للعلم والعقل،ويتضح فيه الأباء والشرف الرفيع للعقل الفكري للقاضي الجرجاني.
وَلَمْ أَقْضِ حَقَّ الْعِلْمِ إِنْ كَانَ كُلَّما بَدَا طَمَعٌ صَيَّرْتُهُ لِيَ سُلَّمَا
وَلَمْ أَبْتَذِلْ في خِدْمَةِ العِلْمِ مُهْجَتِي لأَخْدُمَ مَنْ لاَقَيْتُ لَكِنْ بِه غَرْسًا
وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْعِلْمِ صَانُوهُ صَانَهُمْ وَلَوْ عَظَّمُوهُ في النُّفُوسِ لَعَظَّمَا
وَلَكِنْ أَذَالُوهُ فَهَانَ وَدَنَّسُوا حَيَّاهُ بِالأَطْمَاعِ حَتَّى تَجَهَّمَا
واعتمد الجرجاني في قرائته لشعر المتنبي المنهج التأويلي والمؤكد في قوله أن التأويل واسع والمقاصد مغيبةــ1كفهم ابن الأثر في المثل السائر ــ إن باب التأويل غير محصورــ وبمعنى تعدد القرائات كمقرية شعر ابو تمام لما اتسم به من عمق المعنى الدلالي ليذهب النص احيانا ًخارج قصدية الشاعر او ضده وكما في قول ــ عبد القادر بن عمر البغداديــ في خزانة الادب هذا ولم تخطر هذه المعاني بخاطر الشاعر في وقت العمل،وإنما الكلام إذا كان قوياً من مثل هذا الفحل،احتمل لقوته وجوها من التأويل بحسبما تحتمل الفاظه وعلى مقدار قُوى المتكلمين وهذا ما يذكرنا بتناول احد أساتذة السوربون في النقد الأدبي قصيدة المقبرة البحرية للشاعر بول فاليريــ وتحليلها امام الطلاب، وكان الشاعر جالسا ًمتأملا ً في إصغاءه وبعد انتهاء الاستاذ،اجاب الشاعر عن رأيه في تناول قصيدته اجاب ــإنه جيد بالنسبة لشارحها فحسب،وقد يكون هذا الشرح اجمل مما اقصد انا فيهــ وكما في باب الاتساعــلإبن رشيقــ القائل هو ان يقول الشاعر بيتاً يتسع فيه التأويل فيأتي كل واحد بِمعنى
لذا ضلت سرقة المتنبي سوء فهم لبعض الإجرائيات الشعرية مثل التوظيف الشعري والتناص كما في بيت الشعر للسيابــ عيون المها بين الرصافة والجسرِ…سيوف تجرح وجنة البدر والتناص اللاسرقة لبيت طرفة بن العبد القائل وقوفاً بها صحبي على مطيهم يقولون لاتهلك أسى وتجلد والمطابق في تناصهِ قول امريء القيس وثوقاً بها صحبي على مطيهم يقولون لاتهلك أسى وتجمِّل وغيره من حالات الإبداع الاخرى البعيدة عن السرقة الشعرية. واكد ابن طباطبا في عيار الشعرــ إذا تناول الشاعر المعاني التي سبق إليها فأبرزها في أحسن من الكسوة التي عليها،لم يعب بل وجب فضل لطفه وإحسانه فيه ومنه اصح القاضي الجرجاني ابداع المغاير والمخالف او الاحضار ومنه الاستشهاد والتذكير للقول الشعري السابق لشاعر اخر من صور وانساق وصيغ او سحب القول لموضع اخر، وعدًّ التناص والتوظيف اجراء ضاد ومخالف للنهج الرومانسي الرافض الإلتفات للتراث الادبي الكلاسيكي وقرائته وابداعه. وكما اكدت الاديبة كريستيفا يكون المدلول الاخر الجديد مغاير عن خطاب الاصل المستعمل وعن شكلانيته الفنية،كما في نمذجتها من قصيدة الشاعر باسكال وأنا أكتب خواطري،تنفلت مني احيانا، إلا ان هذا يذكرني بضعفي الذي أسهو عنه طوال الوقت،الشيء الذي يلقنني درسا ًبالقدر الذي يلقنني إياه ضعفي المنسي،ذلك انني لا اتوق سوى الى معرفة عدمي وكما في تناص النص المخالف لدى الشاعرــ لوتريامون حين أكتب خواطري فإتها لاتنفلت مني،هذا العقل يذكرني بقوتي التي أسهو عنها طول الوقت،فأنا اتعلم بمقدار مايتيحه لي فكري المقيد،ولا اتوق إلا الى معرفة تناقض روحي مع العدم .
ونلاحط حصولية التناص من خلال التضمين و الإشارة والاقتباس والاستعارة والتذكير والتلميح والنقل وبقية المقتربات المؤدية والمحققة له،كمستعمل منضج للخطاب الناص،وبما يقوي وقع تصريح الحجة الفكرية وفنيتها،وقد أكدت الدراسات الحداثوية للادب وجوديتها الإبداعية ومشروعيتها،من بدء تنظيرات ميخائيل باختين و جوليا كريستيفا و جيرار جينيت،ميشيبل اريفي،تودوروف،ريفاتير وغيرهم. من بسيط قرائتنا للقاضي الجرجاني، بانت معرفته المتعددة في علوم القضاء وعدله فيه اضافة لشعريته وهو الناقد الأدبي الحداثوي.
/8/2012 Issue 4291 – Date 30 Azzaman International Newspape
جريدة الزمان الدولية العدد 4291 التاريخ 30»8»2012
AZP09

مشاركة