العبادي الذي ظلمه الأقربون – أ.د. ياس خضير البياتي

فك التشفير

العبادي الذي ظلمه الأقربون – أ.د. ياس خضير البياتي

سأقول منذ البداية، لفك الاشتباك وسوء الفهم والتفسير، أنني لست من رجال العملية السياسية، ولا من مروجيها، لأنها ولدت منذ البداية معوقة بدستور ملغوم، ومحاصصة طائفية مريضة، وبأجندات أجنبية، وبثقل مليء بالحقد والضغينة، وبروح الانتقام، وبهوس المال والسلطة والجاه، بدليل ان العراق فقد القدرة منذ الاحتلال ولحد الان ،على بناء تجربة جديدة ،ونموذج مبتكر للحياة العراقية ،ولم يقدم للعالم سوى تجربة مخزية في النظام السياسي يقوم على المحاصصة ،ونموذج اقتصادي واستثماري قائم على السرقة والفساد ،ورفع منسوب الفقر ،وتهديم ما تبقى من الاقتصاد العراقي ،حتى دخلنا في آخر التصنيفات العالمية من حيث الفقر والمعيشة والآمن والنظافة والشفافية ،لننتظر المزيد منها في قابل الأيام !

وعندما أقول هذا الكلام، ليس هو تشف لما يحدث للعراق، الذي لطالما انتمينا وأحببنا وافتخرنا بكل ما فيه، انما هو حزن على وطن لا يستحق هذا التنكيل به، وبقاماته وحضارته وعباده، هذا العراق الطارئ الذي صار يختطف أبناءه ويسترقهم ويبيعهم في سوق النخاسة، العراق الذي استوطنته جيوش من الهمج تدمر وتفجر وتقتل، حتى أتذكر قول الشاعر (في عيوني دمعتان، دمعة أطوي بها ذُلّ المكان، ودمعة أخرى لأحزان الزمان).

مغاليق للخير

وعندما نتحدث عن واقع العراق، فأننا نتحدث عن سياسيي البلد، فقد علمتنا الحياة وتجاربها، مثلما قال قائد سياسي، ان المسؤولين نوعان. النوع الأول هم مفاتيح الخير. يحبون خدمة الناس. سعادتهم في تسهيل حياة البشر. وقيمتهم فيما يعطونه ويقدمونه. وإنجازهم الحقيقي في تغيير الحياة للأفضل. يفتحون الأبواب، ويقدمون الحلول. ويسعون دائماً لمنفعة الناس، والنوع الثاني مغاليق للخير. يصعّبون اليسير. ويقلّلون الكثير. ويقترحون من الإجراءات ما يجعل حياة البشر أكثر مشقة. سعادتهم في احتياج الناس لهم، ووقوفهم بأبوابهم وعلى مكاتبهم. ومن سوء حظ العراق انه فاز بالنوع الثاني الذي غلق منافذ الحياة، وابتكر أنواع أساليب القمع والقتل، وتفنن بأثارة الطائفية، وأساليب فنون النهب والسرقة، وضياع الأرض، وابتكار قتل الحياة والحرية، حتى أصبح السياسي العراقي ماركة مسجلة للضحك والاستهجان، ومضرب الامثال في التخلف، ولصوصية المال.

ومن الظلم، ونكران الحقيقة، أن نجعل الجميع في سلة واحدة، لكن اكثرهم يمتهنون السياسة صدفة، ويناضلون في حلبة صراع المال، والصفقات والجاه، بل أنهم من مدرسة (انهب… ثم أنهب، حتى يصدقك الناس)، وهم من براعة التمثيل والادعاء، يتكلمون عن الديمقراطية والفساد ومظلومية الناس، حتى نكتشف بعد وصولهم للسلطة، انهم من جنس آخر، وفصيلة أخرى، ومعدن مصدأ بأكسيد الحديد ،تقول الحكمة القديمة: (إذا أردتَ أن تعرف إنساناً فامنحهُ سُلطة)، وهم بعد أن تمكّنوا، لم يألوا جهداً في إيذاء مَنْ حولهم، أو محاولة اختلاق هالة قداسة تحيط بهم، وبأنهم لم يصلوا لهذا المكان إلا لأنهم يفوقون غيرهم، ولا بد أن يُعامَلوا بطريقة مغايرة للبقية، وأن يعي البقية أنهم أقل منهم، وإنْ تجرّأوا على مخالفة ذلك فالويل لهم، فمغاليق الخير لهم طرقٌ في الإيذاء، يخجل منها حتى الأبالسة كما يقولون .لكن هناك قلة من يريد عمل الخير لبلده، لكنهم محاصرون بتسونامي السياسيين أصحاب الاجندات المريضة .لأن وظيفة السياسي تسهيل حياة الشعوب، وحل الأزمات بدلاً من افتعالها وبناء المنجزات بدلاً من هدمها!     قصة العبادي

فما هي قصة حيدر العبادي الذي وضعت امامه حواجز الاقربين لعدم الوصول للولاية الثانية، وهو القائل بان لديه الكثير في نفسه ليقوله في المستقبل؟          سأكون شجاعا من اجل الحقيقة، وانصاف الرجل، رغم انها تستفز الكثير، لكننا علينا ان نتعلم ثقافة الحقيقة، وفتح مغالق التعصب والأحقاد، سواء اتفقنا معه عقائديا وفكريا، وعلينا ان نحاكم افعاله، لا توجهاته الحزبية، والا سنكون في مصيدة التعصب، وقتل الرأي الآخر الذي ندعو خصومنا اليه لاحترامه. فالرجل تميز بخصائل نادرة، هدوء الشخصية والنفس الطويل في التعامل مع الاحداث الكبيرة، وهما موضع خلاف الشعب والقادة، فالبعض يراهما سلبية والبعض الاخر إيجابية، وهذه الرؤية تبدو منطقية إذا حللت من خارج المشهد السياسي كمراقبين، لكن المشهد الداخلي الملغوم بالصراع والهيمنة وتدخلات الدول تحتاج الى الصبر والحذر والتأني من اجل تقليل الخسائر. وكما هو معروف فأن العبادي جاء على أنقاض عراق مهدم بنية وتنظيما، واقتصاد فاشل، وميزانية منهوبة وخاوية على عروشها، وانخفاض كبير في سعر برميل النفط، وحروب أهلية طائفية، وجيش ممزق يفتقد الى الحرفية، وفوضى مؤسسية ومجتمعية، وانفلات مرعب للسلاح، وعصابات للقتل والسلب تسرح في مدن العراق بدون رقيب وامن. فماذا يفعل الرجل امام كل هذه التحديات، وهي تحديات لها أولويات أهمها هو تحرير الأرض من داعش، وخفض منسوب الطائفية، وإدارة الازمة المالية الطاحنة التي كادت ان تفسل الدولة العراقية، وإيقاف التفجيرات اليومية في كل البلاد، وخاصة العاصمة بغداد من اجل ان يتمتع المواطن بالأمن.

كان الشعب يريد ان يكون العبادي سريعا في الحزم واتخاذ القرارات، وهو محق في مطالبه بعد عذابات السنين الطويلة من الافقار والتدمير والقتل والفساد، لكن الواقع السياسي اعقد بكثير مما يتصوره المرء، والعصا السحرية لا تستجيب للمطالب، ورفع السيوف وقتال الآخر لم تكن مجدية في دولة عميقة تتشابك فيها المصالح والمغانم، وتحاك من داخلها المؤامرات والتحالفات بطريقة سرية، وهي بالتالي دولة لا تسمح للآخر بالتغريد خارج سربها، وهذا هو التحدي الأول الذي كان امام العبادي، وهو التحدي المزدوج، ان يحارب داعش وتنظيماته،وداعش الدولة العميقة ،ومؤسساتها السرية التي تعوق تنشيط أفعال العبادي ،وتقليص نفوذه ،ومنعه من فتح الملفات القديمة ،لعل ابرزها ملف الفساد.

منجزات العبادي

فالرجل من خلال ولايته الأولى انجز الكثير، ما لم يستطع غيره من إنجازه في السنوات الماضية. بل انه أضاف افعالا تستحق الثناء والتقدير، لعل أهمها انه أعاد ثلث الأراضي من قبضة تنظيم داعش الإرهابي، بعد ان أهدى الآخرون قبله هذه الأراضي بمسرحية ساذجة وممنهجه، مثلما ادار المعارك بحرفية عسكرية دون ضجيج ومزايدات، وبهدوء يحسد عليه، مثلما أعاد للجيش العراقي هيبته وحرفيته المعروفة عنه، حتى صار مع الأسف لبعض الجهات خطرا على وجودهم واجنداتهم السرية، بعد ان كانوا يحاولون اضعافه لحساب تنظيماتهم المسلحة. كما ان الرجل أطفأ الاحتقان الطائفي الذي كان لسنوات سرطانا مجتمعيا، وأسس دعامة قوية للسلم الاجتماعي، بعد ان كان السياسيون يحقنون المجتمع بلقاحات ملوثة بالطائفية والتعصب والكره. فأعاد الامن للمدن بعد ان أصبحت مزارع للموت والتفجيرات والاحقاد، حتى كاد المواطن ييأس من حال بلده الأمني.

يكفي اليوم تذكير العباد، ومشكلتنا ان ننسى بسرعة، ان العبادي عندما استلم الولاية الاولى كان البلد في خبر كان، وكل شيء فيه في الهاوية، فلا تنظيمات حكومية تستجب للعمل، ولا مدن تبتهج بأفراحها، ولاعباد يتجولون في مدن الخراب، والكل ينتظر قدره وموته. كانت مدن العراق كلها منكوبة بالخراب والحزن. ولم تكن الحياة بها الا خربة في ظلمتها ووحشتها وفقرها!

فما الذي حدث للولاية الثانية، وما الذي ابعدها عن العبادي، وهو صاحب كل هذه المنجزات التي لو قارناها مع قبله، لكان الرجل اليوم هو صاحب الولاية الثانية بلا منازع؟  الجواب باختصار، لأنه حقق المنجزات التي كانت مليئة بالألغام والمصالح المتشابكة، وكان لإيراد لها ان تنتهي بهذه السرعة، الابعد تحقيق المصالح والأهداف. ولنتذكر ما جرى في عمليات محاربة داعش، وقراءة ما قيل وكتب، لأن هناك كانت أجندات خارجية وداخلية معا. كانت الولايات المتحدة الامريكية لها أكثر من وجه في التعامل مع داعش، لأن داعش كما اعترفت وزيرة الخارجية الاميركية السابقة هيلاري كلينتون في كتابها (خيارات صعبة)، بأن (الادارة الاميركية قامت بتأسيس مجاميع داعش لتقسيم منطقة الشرق)، مثلما كانت أداة لتفتيت الدولة العراقية، وأضعاف الجيش، وتفكيك المجتمع طائفيا وقوميا ودينيا. فقد كانت تصريحات قادة الجيش الأمريكي تؤجج المواقف، وتصنع الحروب النفسية بهدف زرع الياس في نفوس أصحاب القرار العراقي، مثلما كانت تدعمهم تحت مسميات(الخطأ) من خلال رمي الأسلحة والمؤن عليهم، وضرب الجيش إذا اقتضى الامر في حالة حمايتهم، بل انهم نقلوا مقاتليهم وعوائلهم من الموصل بطائرات هليكوبتر لإنقاذهم من الجيش العراقي. وكانت الماكنة الدعاية الامريكية تعمل باستمرار لزرع الخوف واليأس من خلال تقاريرهم الإعلامية، مثلما كانت تصريحات قادة الجيش الأمريكي تدعم هذه الماكنة بالتصريحات التي تجعل معركة الموصل، وكأنها معركة صعبة ومصيرية تدوم لعشرات السنين. واعتقد ان حسم تحرير الموصل لعدة أشهر كانت ضربة للاستراتيجية الامريكية، رغم وجود التحالف الدولي المساند للمعركة، ولكنه تحالف لذر الرماد في العيون كما يقال!

تحديات داخلية وخارجية

من هنا بدأ المخطط الأمريكي يعيد حساباته بالعبادي الذي كان يعتقد انه رجل ضعيف، لا يقوي على إعادة العراق الى عافيته، لأن السياسة الامريكية لا تريد دولة قوية وديمقراطية، وانما دولة فاشلة مقسمة، ينخر فيها الفساد والطائفية، مثلما لا تريد قادة أقوياء ووطنيين! بالمقابل كانت هناك معركة داخلية من نوع جديد، هي معركة المصالح واثبات الوجود، فقد كانت الدولة العميقة تحاول عرقلة جهود العبادي وافشاله، لأهداف شخصية، ومنعه من تسيد المشهد العراقي كشخصية محرر ومنتصر، بسبب عقد الفشل والاخفاق والخسائر التي مني بها السابقون. كما بدأت تتعمق فكرة التناحرات السياسية، وثقافة الصيد في الماء العكر، لخلق الازمات بين العبادي وبعض قوى الحشد من جانب، والحشد والجيش من جانب آخر. وحاولت هذه الدولة برموزها تأزيم المواقف، وافتعال الازمات، بهدف تشويه صورة العبادي، واخراجه من منطقة المرشحين، ومنعه من الحصول على الولاية الثانية. وهذا ما حدث في افتعال او استثمار تظاهرات البصرة، بعد ان كان مرشحا قويا للولاية الثانية. ويبدو ان التظاهرة تحمل الغازا في توقيتها واساليبها ومطالبها، واستغلالا لحاجات الناس، وكبتهم النفسي، وتفجير غضبهم. وهذا لا يعني نقد التظاهرة، فهي حق من حقوقهم الدستورية، لكنها استثمرت بطريقة ممنهجة وفق سياقات التحريض والاعتداء، حتى ان المتظاهرين شعروا بوجود مجموعات كانت هدفها التخريب، وتغيير مسارها بفعل فاعل. لذلك بدأت نغمة (الاستقالة) تأخذ طريقها في الحضور السياسي، وبدأت معها تحالفات من نوع آخر بين سائرون والفتح، وانعقاد جلسة للبرلمان حول البصرة التي اتخذت مسارا آخر، هي محاكمة العبادي بطريقة ذكية، بعد سلسلة من المصائد والمكائد انتهت بنهاية سريعة وغير متوقعة للولاية الثانية.

وهكذا تحالف الاقربون على العبادي، مثلما انسحب الأصدقاء الامريكان من ترشيحه، بعد ان وصلتهم رسالة واضحة بأن نفط البصرة مهدد بالاحتراق، ولابد من استعجال الترشيح للرئاسات الثلاثة، وبالأخص رئاسة مجلس الوزراء، وهكذا استطاعت إيران ان تحقق ما تريده في إيجاد رئاسات تتناغم مع مصالحها، وتثبت انها اللاعب الرئيسي في العراق.

نهاية المفاجأة

اما العبادي الذي خانته تجربته السياسية، وفنون اللعبة ومكائد الغدر، فلن يكن يتوقع هكذا سيناريوهات مفاجئة. وكان يستعد للولاية الثانية، بعد ان اوقعوه في مصيدة سياسية، اشتركت فيها دول وتحالفات وأصدقاء، وربما ينتهي به المطاف الى استيزار وزارة سيادية، او منصب كبير في الدولة، إذا وافق عليها. لكن السر الكبير الذي بقي لغزا هو إصراره على البقاء في حزب الدعوة، وعدم رغبته الحفاظ على استقلاليته، رغم الدعوات الكثيرة من الشعب والمنظمات والأحزاب والدول.

وربما كانت هذه الاستقلالية تحقق له النجاحات الكثيرة على الصعيد الشعبي والانتخابي. ومع ذلك ننتظر ما يكشفه لنا في قادم الأيام من مفاجآت غير التي ذكرتها، تلوي لها الاعناق وتخرس امامها كل الالسنة!

{ أكاديمي واعلامي