الروائي الزيواني لـ الزمان: الكتابة الواعية تنطلق من الهوية الثقافية

حاورته : ضحى عبدالرؤوف المل

يُعدّ الحوار مع الكتّاب نافذة مهمّة لفهم الخلفيات الثقافية والمعرفية التي تشكّل أعمالهم الأدبية، وتكشف عن رؤاهم للعالم، وعلاقتهم بالهوية، واللغة، والمكان. في هذا الحوار مع الروائي الصدّيق حاج أحمد ، نستكشف التجربة الروائية الغنية لكاتب انشغل بقضايا ما بعد الاستعمار، وبتفاعلات الهويات في سياقات الغربة والمنفى والتعدد الثقافي، من خلال أعماله الروائية أو بالأحرى روايته الأخيرة “الطانفا ” يتناول الحوار محاور متعدّدة تتصل بعلاقة اللغة بالهوية، ودور الغربة في تشكيل الذات، وتداخل الأجناس الأدبية في العمل الروائي، إضافة إلى رؤية الكاتب لمكانة المرأة، وتوظيفه لثيمات التكنولوجيا والتراث، كما يكشف عن أثر القراءات الفكرية في تشكيل رؤيته الإبداعية. روايته “الطانفا”، نموذج مركزي لهذا النقاش، إذ تتقاطع فيها قضايا الانتماء والهوية والتاريخ مع سرديات الثقافة الشعبية والهمّ الإنساني العام، ضمن فضاء سردي مفتوح على التعدّد والتفاعل. ومع الروائي الصدّيق حاج أحمد الزيواني أجريت هذا الحوار

– كيف ترى العلاقة بين الهوية الثقافية واللغة في روايتك؟

أعتقد أن أي كتابة واعية تنطلق من الهوية الثقافية للكاتب، سواء أكان مدركًا لها أو غير واعٍ بها، وقد تشكّل هذا المنزع عندي منذ الرواية الأولى مملكة الزيوان، الصادرة سنة 2013، حين كتبتها هيامًا وحبًّا في ثقافتي الصحراوية الطينية القصورية. فكل شيء في مملكة الزيوان يحيل على الهوية: اللغة، العادات، أو اليومي. بمعنى أنها كانت لوحة خلفية لهويتي الثقافية الصحراوية، إنها قولٌ صادح بالطين والرمل في زمن العولمة وتغوّل الميديا.

– هل يمكن للغة أن تُشكّل الجسر الذي يربط بين الهويات المتعددة؟

طبعًا، اللغة هي اللسان، أو بمعنى آخر هي الهوية القولية والفعلية للإنسان. لذلك اعتبرها الكاتب الكيني نغوغي واثيونغو، الذي رحل قبل أيام، الرهان الأول في مقاومة الاستعمار وتصفيته. إنهم يريدون أن نضع لغاتنا وهوياتنا في المتاحف، ونلبس لغاتهم. فاللغة، كمكوّن هويّاتي، يمكنها أن تكون جسرًا بين الهويات المتعددة. ففي رواية كاماراد أو مَنّا أو الطانفا الأخيرة، سوف يقف القارئ على انصهار وتفاعل للغات الإفريقية مع العربية. وهي الفكرة ذاتها التي دعا إليها المفكّر الكيني علي المزروعي، حين قال إن أقرب اللغات إلى اللغات الإفريقية هي العربية.

– الرواية تتناول فكرة الغربة، سواء كانت جغرافية أو لغوية. كيف ترى تأثير التجربة الحياتية والجامعية على تشكيل الهوية الشخصية؟

في كل رواياتي، عدا التجربة الأولى، ظلّ البطل يعيش الاغتراب الجغرافي والهويّاتي. إن تفاعل الأنا مع الآخر ونغمات الهوية لا تظهر إلا من خلال الترحال في المنافي الإرادية واللاإرادية. ففي رواية كاماراد، نجد البطل النيجيري مامادو ورفاقه يعيشون الاغتراب بين بلدان العبور العربية، كما هو الحال عند البطل الطارقي بادي ورفاقه في رواية مَنّا، واغترابهم سعيًا وبحثًا عن وطن وردي يتماهى خلف سراب الصحراء. أما في الرواية الأخيرة (الطانفا)، فتبدو التجربة مختلفة، بحكم أن البطل بوغرارة تواتي، وإن عاش الاغتراب في إفريقيا، إلا أنه لوحده، إذ انعدمت آصرة الرفقة التي ظلّت مرتبطة بالبطل في رواياتي السابقة.

ثمّة أمر آخر لافت في النص الأخير (الطانفا)، وهو أن رحلة البطل في كاماراد ومَنّا كانت من الجنوب نحو الشمال، بمعنى أن البطل الزنجي مامادو، بلغته الزرماوية الهوساوية، والبطل الطارقي بادي، بلغته التماشقية، ظلّت لغتهما تتفاعل داخل المجتمعات العربية المهاجر إليها، ما رصد تفاعل الأنا الإفريقية جنوب الصحراء مع الآخر العربي. أما في تجربة الطانفا، فالأمر مختلف تمامًا، إذ تغدو الأنا عربية والآخر إفريقي، بكل ما تشكّله من تفاعلات ثقافية في رحلة العربي إلى إفريقيا جنوب الصحراء. ولم يظهر هذا من خلال البطل بوغرارة فقط، إنما من خلال التجار اللبنانيين والطلاب العرب القاصدين تلك الأدغال.

– “الطانفا” تجمع بين السيرة الذاتية وأدب الرحلة واليوميات. هل كان هذا تداخلًا مقصودًا لتقديم صورة أكثر تعقيدًا للذات؟

قد تبدو كذلك.. لكنه في الحقيقة تخييلٌ خالص. فأنا شخصيًا لم أكن يومًا تاجرًا أو طالبًا هناك. كل ما في الأمر أني سافرتُ إلى تلك المجتمعات الإفريقية جنوب الصحراء، فألهمتني ثقافاتها لأن أمتَح منها وأكتب نصوصًا متماهية تتناغم فيها الثقافة الجزائرية والعربية مع الثقافة الإفريقية جنوب الصحراء.

– كيف ترى العلاقة بين الأجناس الأدبية في الرواية؟

الرواية، كنظرية، بحسب تعبير الناقد المجري جورج لوكاتش، عندما نعتها بالملحمة البرجوازية، أو عند الناقد الفرنسي الروماني لوسيان غولدمان حين وصفها بالتشيّؤ الاجتماعي المقولب داخل البُنى الاجتماعية، أو على مستوى الناقد الروسي ميخائيل باختين، الذي وصفها بالكرنفالية، حيث تتفاعل فيها التمظهرات والثقافات الشعبية؛ فإن الرواية كجنس أدبي تظلّ ميدانًا فسيحًا تتلاقى فيه الخطابات، وتنصهر فيه الأجناس الأدبية الأخرى دون أن تفقد تجنيسها. إنها فضاء واسع ومرن.

– تُستخدم بعض الشخصيات مثل “بوغرارة” بشكل رمزي في الرواية. ما الرسالة التي تحاول توصيلها من خلال هذه الشخصيات التي تتراوح بين الواقع والأسطورة؟

بوغرارة يمثّل كينونة الإنسان الشمالي الصحراوي المغامر، الذي يقتحم الأسواق الإفريقية، وهو محمّل بثقافته الجزائرية العربية، ويتفاعل مع الثقافة الإفريقية الجديدة، حتى أنه أصبح واحدًا منها؛ بل فاعلًا فيها، عندما غدا أكبر مورّد لقماش الشمع الإفريقي، الذي يتخذه الأفارقة هوية رامزة إليهم في إفريقيا جنوب الصحراء الكبرى وحتى في شتاتها بجزر الكاريبي.فالواقعي والأسطوري أمر لا بدّ منه، لا سيّما وأنت تتعاطى مع الثقافة الإفريقية المكتنزة بالأساطير والعجائبي، سواء تعلّق الأمر بسحر الفودو الأسود أو غيرها من الأساطير الأخرى، التي جاءت الرواية مترعة بها.

– تحدّثت في الرواية عن أن امتلاك الأدوات المعرفية لا يتناقض مع مقاومة سرديات المركز. كيف توازن بين استخدام هذه الأدوات الأكاديمية والتمسّك بالسرد الشعبي والثقافة المحلية؟

مع ازدهار الدراسات الثقافية وما بعد الاستعمار، وتجاوز المناهج النقدية الكلاسيكية، أصبحت المعرفة مكوّنًا أساسيًا للنصوص الروائية، وهو ما لفت إليه الناقد الثقافي الجزائري الدكتور طارق بوحالة في إحدى إطلالاته الفيسبوكية، عندما نشر صورة غلاف رواية الطانفا وكتب تحتها: (الرواية والمعرفة)! وهي إشارة واضحة لأهمية النص معرفيًا، كما يتجلّى هذا من خلال كلمة الناشر (دار فضاءات) على ظهر الغلاف، عندما صدّر كلمته بالقول: (نص ثقافي مقاوم!). فالمعرفة تُثري النص؛ لكن هذا لا يعني أبدًا الهروب من تسريد الحكاية ضمن ما يسمى دستور الرواية.

– في الرواية، تبرز التفاعلات بين شخصيات من خلفيات ثقافية متنوعة (جزائريون، لبنانيون، هنود، جنوب أفريقيون). كيف ترى دور التبادل الثقافي في تشكيل الشخصية المعاصرة في عالم ما بعد الاستعمار؟

في عصر النقد الديكونيالي، يصبح النص مرآة عاكسة للتفاعلات الثقافية والحضارية. فرواية الطانفا، مثلاً، عرضتْ في مدخلها (طابع بريد) أنماط الاستعمار (الإنجليزي والفرنسي)، كموازنة لإسقاط ذلك على الشعوب المستعمَرة، كما فعّلت موقف المستعمَر من المستعمِر. فتجلّى ذلك من خلال رحلة الطالب الجزائري الأنثروبولوجي إلى جنوب إفريقيا، كباحث قادم من الفضاء الفرنكوفوني إلى الفضاء الأنجلوفوني.فضلًا عن هذا، كشف هذا المدخل عن الموقف والمقاومة من الاستعمار، من خلال ما دار من حديث بين شخصية الطالب الجزائري والهندي الذي التقى به في مأوى بيت الشباب.

– كيف يمكن للغربة أن تكون محفزًا للإبداع؟ هل ترى أن شعور الانفصال عن المكان والجذور يساعد على إيجاد أفق أوسع للفكر؟

الاغتراب، والمنافي، والتهجير، ثيمات باعثة على إحساس الذات بالهوية ورصد موقف الأنا من الآخر. لذلك نجد الروائيين دائمًا ما يعمدون إلى هذا الفصيل من الكتابة الروائية، عندما يكون لديهم نزوع لتسريد الهوية وتشابك الأنا مع الآخر. إنها محور الدراسات الثقافية وما بعد الاستعمار، لذلك نجد نص الطانفا مشبعًا بهذه الجوانب الحيوية في تشكيل هوية الإنسان وراهنيته بعد تحرره من الاستعمار وتصفيته.

– في ذروة الرواية، يلتقي الذكاء الاصطناعي مع التراث، عبر قصة روبوت يكتب عن قصر طيني. هل ترى أن هذا التلاقي بين التكنولوجيا والتراث يشير إلى نوع من التوازن بين الماضي والمستقبل؟

في عصر الثورة الرقمية والذكاء الاصطناعي، كان لا بد من الالتفات إلى هذا الجانب القوي الذي غشي يومياتنا وحياتنا وفرض عليها تعاملاً خاصًا. أن نوظّف هذا الجانب في عدم هدم التراث والهوية الثقافية، بل في استدعاء التراث وتناغمه مع الراهن، وهو ما حدث فعلاً في توريط الروبوت والذكاء الاصطناعي، عندما فكّر في استحداث قصور طينية تراثية بآليات حداثية تستجيب للراهن؛ أي أنك تعيش الماضي في الحاضر.

– استخدمت في الرواية مفارقات كثيرة مثل تحوّل اسم “بوغرارة” إلى “بوغاغة”. ما معنى هذه التغيرات في الأسماء، وكيف تعبّر عن هشاشة الهوية؟

لا شيء يجعل المتلقي مشدودًا في الرواية كالأشياء الممكنة والتفاصيل الصغيرة المتروكة على الطريق. فكلما كان الروائي بارعًا في الالتفات للأشياء الكائنة الممكنة، كسب ثقة القارئ. سيقول المتلقي مع ذاته: “حقًا حقًا!”، وهو ما فعلته فعلاً في التحوير الصوتي بين (بوغرارة) و(بوغاغة)، فالغربي ينطق الرّاء غينًا.

– كيف ترى دور المرأة في “الطانفا”؟ هل هي مجرد شخصية تكميلية أم تحمل رسائل أعمق في سياق سرديّة الرواية؟ وهل ترى أن السرد في “الطانفا” هو بمثابة أداة مقاومة بين الهوية والكتابة؟

في رواية الطانفا، اتخذت المرأة شكلين: الأول تمثّله (لالاهم) الزوجة التواتية الأولى لبوغرارة قبل رحلته لإفريقيا، والثاني تمثّله شخصية (ميناتو) الزوجة الهوساوية الثانية لبوغرارة بعد استقراره بإفريقيا. فنجد في الزوجة الأولى السماحة والوفاء، كما نجد في الزوجة الثانية عدم تقديس الثروة. وفي الحالتين، ظلّت المرأة هي سند بوغرارة، سواء بتوات أو في إفريقيا جنوب الصحراء.

– يبدو أن هناك نوعًا من السخرية في تعاملك مع قوالب التنمية البشرية. كيف ترى تأثير هذه الظاهرة في المجتمع، وهل تعتقد أن الأدب قادر على إحداث تغيير في هذا السياق؟

نعم.. جاء هذا في مدخل النص بعتبة (طابع بريد)، لكنها كانت تقنية فقط لصناعة مسوّغ سردي للمرور إلى النص الأصلي (البروفة) الموسومة بعنوان أغمّو.

– هل تعتبر “الطانفا” أكثر من مجرد قصة فردية؟ هل تراها توثيقًا لحالة الإنسان العربي الإفريقي في عالم سريع التغيير؟

الطانفا نص مشبع بإنسانية الإنسان وتماهيه في الأشياء، إنها نص تتفاعل فيه ثقافة الإنسان الشمالي مع الجنوبي، وهو ما سميته بالثقافات المتجاورة أنثروبولوجيًا. كما أنها جسّدت علاقة الإنسان الأبيض الشمالي بالأسود الجنوبي، وأن هذه العلاقة إنسانية، وهو ما نلمسه بين البطل التاجر بوغرارة وسائقه الإفريقي (بيغا)، حيث تطبعها علاقة التكامل والاستفادة المتبادلة بعيدًا عن الاستغلال. فكما استفاد بوغرارة من السائق الإفريقي في سياقة شاحناته، استفاد بيغا من بوغرارة، عندما حكى له عديد الأخبار عن حضور الثقافة الجزائرية بإفريقيا، كجهود الإمام المغيلي في رُبوعهم وأدغالهم الإفريقية.

– ذكرت في الرواية أنك قرأت لكتّاب مثل مالك بن نبي وواثيونغو. كيف أثر هؤلاء الكتّاب في تشكيل أسلوبك الروائي؟ وهل يمكننا القول إن “الطانفا” هي رمز لهوية مغتربة؟ وهل السرد في الرواية يعكس التوتر المستمر بين الانتماء الوطني والعالمي؟

طبعًا، كل كاتب لا بد أن يتأثر بكتّاب، يذكر ذلك تلميحًا أو عرضًا. وقد وقع اختياري على ثلاثة كُتّاب: الأول مفكّر جزائري هو مالك بن نبي، الذي لم يُعطَ حقه؛ والثاني روائي جزائري هو عمي الطاهر وطار، الأب الروحي للرواية الجزائرية؛ والثالث إفريقي هو نغوغي واثيونغو، وقد رحل قبل أيام. وقد وجدت في هذه الشخصية شخصيةً مشاكِسة، متمردة على الاستعمار وتصفيته من الأذهان.

مشاركة