الجندي المجهول ينهض من رقدته – ثامر مراد

الجندي المجهول ينهض من رقدته – ثامر مراد

كانت الساعات الأخيرة في تلك المنطقة القريبة من الحدود من أشد وأحرج الساعات التي مررتُ بها خلال تلك السنوات العجاف. كان العلم العراقي يترآى لنا من بعيد يرفرف مع النسيم الهاب على أرض بلدي الجميل. قطعة من قماش تحمل في مضمونها كل معاني التاريخ والنضال على مدى الزمن . تقدم الزمن وغابت الشمس وغابت معها كل معنوياتي . كنت أخشى أن يعيدوننا الى نفس المكان الذي كنا فيه كل تلك السنوات المرعبة . كنت أخاف من المجهول ومن شيء ربما يحدث يطمر كل أمل قابع في نفوسنا.

العودة للوطن

 إقترب مني الزميل “………” كان مضطربا بعض الشيء وحطت على وجهه هالة من كآبه واضحة . حاولت اقناعه بالعودة معنا الى أرض الوطن وحاول هو أن يقنعني بضرورة البقاء معه في تلك الأرض التي عطشنا فيها أحد عشر عاماً . كانت أهدافنا مختلفة وأفكارنا متباينة في محطات كثيرة ولكن مع هذا كان من أقرب الناس الى قلبي . هذا الرجل هو حكاية شامخة لوحدة وقصص متشعبه جدا ولكن مع هذا لا أستطيع الحديث عنه بالتفصيل احتراما لكلامه . طلب مني أن لا أذكر عنه أي شيء لكنني سأكون مضطرا للحديث عنه بصورة مقتضبة كي لايتلاشى من ذاكرتي. كانت لديه أسباب شخصية كثيرة تمنعه من عدم الرجوع الى الوطن . توجهنا نحو الحافلات وودعت أبا علي الى الأبد . تحركت الباصات وتحركت معهن مشاعري وطفق قلبي يضرب بعنف شديد . هل صحيح أن الأمل المفقود بدأ يتحقق؟ هل صحيح أن السراب الوهمي راح ينشر خيوطه بوضوح عبر الحدود الممتدة مابين البلدين ؟ هل صحيح أن سنوات القحط والجفاف ستعود خضرا ؟ في اللحظة التي دخلنا فيها أرض الوطن الحبيب تلقفتنا ألأيادي تقودنا نحو حافلات بلدنا التي كانت تنتظر قدومنا منذ الصباح. كنا صامتين داخل السيارة كأننا قدمنا من كوكبٍ آخر. عشرات الأفكار تتقاذفني هنا وهناك وهالة من تساؤلات تحيط بي من جميع الأطراف. على حين غرة تلبدت سماء روحي بغيوم الكآبة المطلقة . وجدتُ نفسي أفكر بالحياة من جديد ..حياة كنتُ قد نسيتها تماماً . ” ياالهي لقد تركت لزوجتي وأطفالي عشرة دنانير فقط يوم 1999-3-16حينما التحقتُ الى وحدتي العسكرية في ذلك اليوم . في هذه اللحظة لا أملك فلساً واحداً فكيف سأدخل البيت بلا نقود وكيف سنعيش وماذا سأشتري لأولادي؟ ” . تعبتُ من التفكير بموضوع الحياة والمعيشة وكل مايتعلق باحتياجات البيت وسلمتُ أمري الى الله . ترجلنا من الحافلات لانعرف ماذا نفعل. فجأة وجدنا ضباط برتب عالية ومراتب لاتعد ولاتحصى وحركة ملحوظة في وحدة عسكرية لا أعرف أي موقعها سوى أنها تابعة الى محافظة ديالى . رحبوا بنا جميعا وكانت هناك وليمة عشاء فاخرة تنتظرنا واكلنا وشبعنا . بعدها وقفنا في طابور طويل كل واحد ينتظر دوره للدخول الى الطبيب المختص لفحصنا جميعا . كل شخص يتم فحصه يذهب الى طابور آخر لأستلام نقود كثيرة هدية من رئيس العراق . وأنا اخرج من غرفة استلام النقود شكرتُ الله كثيرا ورحت أردد مع نفسي – لقد حُلَتْ مشكلة المعيشة لفترة من الزمن وسأشتري لأولادي الشيء الكثير. – بعد منتصف الليل انطلقت بنا الحافلات مرة أخرى واخترقنا شوارع بغداد الجميلة . لم أصدق مطلقا بأن هذه الشوارع تحتضنني من جديد . لدي فيها ذكريات لاتنتهي أبداً . فجأة هجم على ذهني تفكير جديد في اللحظة التي توقفت فيها الحافلات أمام البناية المخصصة لأستلام الأسرى . ” أين سأذهب ومن سيأتي لأستلامي من الأقرباء وكيف سأذهب الى البيت ؟ ” . قررتُ أن أترك التفكير بكل شيء على أن أظل في الدائرة المخصصة لأستلامنا ولايهم متى وكيف سأصل البيت طالما أنا في بلدي .

كانت هناك أفواج غفيرة من البشرتنتظر عند البوابة الرئيسية للمبنى وكل عائلة تحاول أن تعرف أي شيء عن ولدها المفقود أو المختفي في الحروب المتعاقبة . تحول الليل الى مايشبه النهار وكأن شوارع بغداد قد تفجرت بشراً من مختلف الأعمار . بقيتُ أسند جسدي الى الكرسي المريح وكأن الأمر لايشملني فأنا متأكد أن أحداً لاينتظرني مع المنتظرين . سأترك الأمر يسير حسب القنوات الرسمية المتبعة لتسليم الأسير الى أهلهِ .

طرقات قوية

بعد لحظات سمعتُ طرقات قوية على النافذة القريبة مني لكنني لم التفت الى مصدر الصوت لأنني ظننتُ أن أحد الأشخاص يريد أن يسألني عن شخص ما إلا أن الضربات إزدادت على النافذة ..إلتفتُ الى مصدر الصوت , فجأة شعرت كأن تيارا كهربائيا يخترق جسدي . سكتُ لحظة من الزمن بعدها صرختُ بأعلى صوتي ” حسن …حسن …حسن….لا أصدق هذا ” . كان حسن من أقرب الناس الى روحي فهو صديق الطفولة وأبن خالي . كان هو الآخر قد ضاع أو فُقد أثناء الحرب في الثمانينات . كان ضابطا في الجيش . بكيتُ كثيرا حينما سمعت بخبر ضياعه عام1988  . كانت لديه بنت واحدة عمرها اسبوع واحد حينما ذهب مع الريح . عندما إنتقلنا الى معسكر ” …….” كل واحد منا كان يبحث في الجدران ويدقق في الاسماء المذكورة لعله يعثر على شخص يعرفه . سمعت ان احدهم وجد اسم ابن اخيه وقد بكى كثيرا لانه كان يعتقد انه كان قد مات دون ان يعثروا على جثته . أخبرت الجميع أنه من يعثر على اسم حسن سأعطيه كل سكائري وهي أعز ما أملك في أرض الجحيم .

صرخة حسن

 عندما ترجلنا من الحافلة صرخ حسن بأنه سينتظرني عند البوابة الرئيسية . في لحظة خروجي من المبنى بعد إجراء الاشياء الروتينية من تسجيل الاسم وغيرها تلقفني بالأحضان وهو يتحدث بلهفة ” كنتُ أتصور بأنني سأجدك في لندن أو باريس أو أي دولة أخرى ولكنني لم أتصور مطلقا أن تكون في المعسكر المجاور لمعسكرنا ..أي تصادف هذا ؟ لقد عدنا قبل سنتين وكانت صدمتي لاتوصف حينما عرفت أنك تحتضر خلف الحدود . ” قبل أن نغادر المكان جاء شاب طويل وسيم وهو يصرخ بي ” هل تعرفني؟ ” نظرتُ اليه بدقة وحاولت إسترجاع كل ذكرياتي القديمة لكنني فشلت. ضحك وهو يقول ” أنا إبن شقيقتك الصغرى ” .

 صرخت بجنون ” ماهر ..ماهر…يا الهي لا اصدق هذا ..كنتَ طفلا حينما ذهبتُ الى طريق البؤس والشقاء…” ورحتُ أقبلهُ بشغف .