الإنتخابات من بغداد إلى وايومنغ – عبد الكريم يحيى الزيباري
طهران، تُجسّد الكاريزما المؤطَّرة بخطابٍ دينيٍّ ثوريٍّ يسعى إلى توطين مقتضيات الدولة الحديثة، حيث تتحول القيادة إلى رمزٍ تعبويٍّ يجمع الجماعة حول سرديةٍ مؤسسةٍ تتجاوز الشخص لتغدو مشروعاً تأويلياً للأمة. بغداد تحاول إعادة إنتاج هذا التوازن بين الإرث الثوري ومتطلبات الدولة، ضمن معادلةٍ تجمع بين الرمز والواقع وبين الخطاب والإنجاز. واشنطن، تقدّم نموذجاً آخر للشرعية السياسية، قوامه الإجراءات والمؤسسات، حيث تُبنى الثقة من خلال اقتصاد اللقاءات الصغيرة، ومن تراكم التجارب المحلية في سياقاتٍ ملموسةٍ قابلةٍ للقياس.
نستنتج الفارق الحضاريّ، من الانتخابات باعتبارها مرآة للوعي السياسي، في طبيعة المسافة بين الحاكم والمواطن: غرباً تُمارَس المسافة كطقسٍ ديمقراطيٍّ يهب السياسة وجهاً إنسانياً مأمولاً، وشرقاً تُقاس المسافة بما فُقِد من ثقةٍ، وباللغة المقطوعة بين من يتحدث باسم الوطن ومن يعيش خرابَه.
ما يُرى في الانتخابات لا يخصّ المرشحين وحدهم، بل يعكس وعي المجتمع بذاته ومحيطه. في الغرب ليست الديمقراطية وعدًا، بل ممارسة يومية لقول الحقيقة، مهما بدت خاسرة في صناديق الربح السياسي.
نجاد، ربَحَ انتخابات رئاسة الجمهورية التاسعة في إيران، وقَلَبَ منطق الجولات الانتخابية الثماني السابقة، بين رفسنجاني وخاتمي الذي بلغ نهاية ولايته 2005. ترشح لاريجاني مدير الإذاعة والتلفزيون، ونجاد رئيس بلدية طهران، الرئيس السابق لمجلس الأمن القومي حسن روحاني. مصطفى معين الوزير السابق للتعليم العالي. محسن رضائي. وحسين مهر علي زاده. فازَ نجاد الرئيس السادس لجمهورية إيران. جاء فوزه دلالة تحوّل وعي المجتمع الإيراني، بخطاب سياسي زاوج بين الروح الدينية للخميني 1979، التواضع والزهد والدفاع عن الفقراء، ومكافحة الفساد، ومقتضيات الدولة الحديثة. (عادل الجوجري، نجاد في قلب العاصفة، دار الكتاب العربي، دمشق، 2006، ص31).
حملة اولى
كتب ديك تشيني عن حملته الأولى في ولاية وايومنغ (السياسة شخصية جدًا، يريد الناخبون أنْ يلتقوك وأنْ يحدقوا في عينيك، وأنْ يسمعوا ما تخرجه من جعبتك. قطعتُ ثلاثمائة ميل لتناول القهوة مع شخصين.. تبين أنَّ الانتخاب الأول- تنافس عام 1978- كان الأصعب بين حملاتي الانتخابية الست لعضوية مجلس النواب. عليَّ أنْ أتحلى بالحذر وتجنب الظهور بمظهر زبون متحذلق من واشنطن متوهِّم أنَّه جدير بشغل مقعد برلماني) ديك تشيني، في زماني، ترجمة فاضل جتكر، دار الكتاب العربي، 2012، بيروت، ص135.
نجاد، خطاب يزاوج المقدس والسياسي والذاكرة والواقع، ويضع الدولة الحديثة تحت سقف ثورة مؤسسة، ويعيد تعريف الحداثة من داخل منظومة قيمية.
تشيني يمثل وعيا فرديا يقرأ علاقة الناخب بالمرشح عبر لقاء مباشر يقوم على الثقة والاقتناع والمصافحة والنظر، معيار القياس هو اللقاء والقهوة لا الشعار الكبير، خطاب براغماتي تقني متواضع وإجرائي تكتيكي يقوم على اقتصاد اللقاءات الصغيرة، وتحذير من غرور العاصمة مع رد السلطة إلى محلية المجتمع السياسي.
زمن نجاد تراجعي تقدمي معا، يستدعي سنة 1979 لتسويغ قفزة 2005. زمن تشيني آني متدرج، تراكم للثقة كخبرة بطيئة.
حشد نجاد يعتمد سردية ثورية جمعية تؤسس نحن التصحيح، وحشد تشيني يعتمد سرد اليوميات وجوارية المرشح الذي يقطع المسافات ليصغي طويلا.
أخلاق نجاد، نزاهة وزهد وعدالة توزيعية مع قابلية للانزلاق إلى طهرانية لامتحان الآخر المختلف وإقصائه. وأخلاق تشيني تواضع تكتيكي يحد الغرور ويشرعن مهنية أدوات السلطة.
اختبار تجريبي
عقل نجاد تأويلي شمولي يغلب الكلي على الجزئي. عقل تشيني اختباري تجريبي يغلب الجزئي على الكلي، مع مخاطر مقابلة تشمل توحيدا قسريا باسم الهوية الدينية وتسييس الأخلاق على حساب المؤسسة من جهة، وتسليع السياسة وتحويلها إلى مهارة مبيعات بلا أفق قيمي من جهة أخرى.نجاد، وعي جمعي يقرأ صناديق الاقتراع ككتلة تاريخية تتفاعل مع سردية الثورة والعدالة ومكافحة الفساد، وأثر لوعي ديني اجتماعي، يتصالح مع مقتضيات الدولة الحديثة. خطاب يزاوج بين المقدس والسياسي وبين الذاكرة والواقع. نجاد يضع الدولة الحديثة تحت سقف ثورة مؤسِّسة، ويعيد تعريف الحداثة من داخل منظومة قيمية. تشيني يمثل وعيًا فرديًا، يجعل السياسة فعلَ اقترابٍ مباشر، تُقاس فيه الثقة بالمصافحة والنظر لا بالشعار. خطابه براغماتيٌّ متواضع، يقوم على اقتصاد اللقاءات الصغيرة وتحذيرٍ دائمٍ من غرور العاصمة، إذ يردّ السلطة إلى محلية المجتمع. نجاد شاعر النزاهة والزهد والعدالة التوزيعية، وقد تنزلق إلى طهرانيةٍ ممتحِنة، بينما أخلاق تشيني تواضعٌ تكتيكيٌّ يحدّ الغرور ويشرعن أدوات السلطة.وبين هذين النموذجين، يظهر وعي ثالث في التجربة الأمريكية الحديثة مع أوباما، حيث تغدو السياسة فعل إصغاء أكثر من خطاب، السياسة أنْ تستمع باهتمامٍ كبير، لا أنْ تتحدث وتخطب وتطلق الوعود. شرقاً، تنمر – وما ينْكره حبوبو- وشتائم وتهديدات وخطب دعائية ووعود مكررة خيالية. أما ماريو كومو، حاكم نيويورك الشهير، فقد لخّص السياسة بجملة خالدة: (يخوض المرء حملته الانتخابية بالشعر، لكنه يحكم بالنثر). السياسة فنّ الانتقال من الحلم إلى النظام، من الوجدان إلى المؤسسة.