نقد الشعر عند الجاحظ
( 160- 255 هجرية)
محمد ضباشه
يعد أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ أحد أبرز العلماء المتكلمين في منتصف القرن الثاني من الهجرة ، نهل من فكر فطاحل العلم في ذلك العصر واستطاع تحصيله في أكثر من باب من أبواب المعرفة وخاصة في مجال الأدب والدين والسياسة والحيوان ، كان له قدرة فائقة على الجدل والحوار والإقناع لأنه كان يخالط فئة المعتزلة وأستطاع على مدار عمره أن يؤلف أكثر من ثلثمائة كتاب أشهرها كتاب البيان والتبيين وكتاب الحيوان.
من الملاحظ في نقد الشعر عند الجاحظ أنه أقل منهجية من ابن سلام الجمحي مع العلم أنه أتى بعده فهو يستطرد في شرح رؤيته النقدية التى يمزج فيها الجد بالهزل ولذلك لم يلتفت كثير من النقاد لنقد الشعر عنده لأنه متناثر في العديد من مؤلفاته .
يعرف الجاحظ الشعر بأنه صناعة وضرب من النسج وجنس من التصوير ، لذلك كان يركز على الألفاظ ويرى أن المعاني مطروحة في الطريق يعرفها العجمي والعربي والبدوي والقروي والمدني وإنما الشأن إقامة الوزن وتخير اللفظ وسهولة المخرج وكثرة الماء وفي صحة الطبع وجودة السبك ، ويؤمن بأن خير الكلام ما صدر عن الطبع وبعد عن التكلف المذموم ، ولهذا ينفي الشعر اذا كان لا يحمل قيمة جمالية وبالتالي يعد من أنصار المدرسة الشكلية في النقد الأدبي .
مقومات الشعر عند الجاحظ :-
اللفظ والمعنى وسهولة المخرج
تظهر الألفاظ في تراكيب الكلام وسبكة في تعابير وأوزان ومن هنا جاء تشبيه الشعر بالنسج ، ويقول في كتابه البيان والتبيين أن أحسن الكلام ما كان قليله يغنيك عن كثيره، ومعناه ظاهر في ظاهر لفظه، فإذا كان المعنى واضحا كان اللفظ بليغا وكان صحيح الطبع لذا يجب على الشاعر أن ينتقي الألفاظ المناسبة لموضوع القصيدة ويجعل منها عقدا منظوم في شكل بديع مع سهولة في المخرج بلا تقعر او تقييد باعثا في هذا المعنى الحياة فكأنك ترى الصورة متحركة أمامك تتحرك في انسيابية فهي صورة حية وليست جامدة، وهذا ناتج طبيعي لموهبة الشاعر التي تميز بها وتجعله كالصائغ الماهر الذي يشكل سبيكة الذهب، و أما عن المعنى فيقول ان المعاني مطروحة في الطريق يعرفها كل الناس وهذا ينفي أن الجاحظ يؤكد على اللفظ دون معنى بل يؤكد أن معاني الألفاظ معروفة للجميع ولا داعي للحديث عنها. الوزن
ولد الجاحظ بعد وفاة الخليل بن أحمد الفراهيدى بفترة وجيزة ويري أن الكلام الموزون لا يعد شعرا إلا اذا قصد صاحبه إلى نظمه وصناعته على أنه شعر، أما اذا تخلل الحدبث أو الكلام بعض الجمل الموزونة بصورة عابرة دون عمد فلا ندعوها شعرا، وبهذا يؤكد علي أن نظم الشعر يتألف من كلام موزون له ايقاع وجرس موسيقى تطرب له الأذن سواء نظم على بحور الخليل أو على أوزان أخري .
الطبع والصنعة اللفظية
يرى الجاحظ أن الشعر صناعة يظهر فيها الطبع والموهبة وأن من حرم منها لا يستطيع نظم الشعر، والمقصود بالصناعة هو ما يظهر في تراكيب الكلام وسبكة في تعابير وأوزان، ويري أنه كلما كان اللفظ بليغا وكان صحيح الطبع بعيدا عن الاستكراه و منزها عن الاختلال مصونا عن التكلف صنع في القلوب صنيع الغيث في التربة الكريمة، ويضيف أن الطبع والصنعة عاملان مرتبطان متفاعلان لا غنى لأحدهما عن الآخر لإتمام الصورة الشعرية التى تشمل على عناصر الإبداع والتي تحدث انسجاما و تأثرا وتأثيرا بين الشاعر والمتلقي.
التصوير
يؤكد الجاحظ أن الشعر جنس من التصوير لأنه يعتمد على الخيال الذي يبدع الصور الخلابة، وان شعرا يخلو من التصوير والتشبيه والاستعارة وما إليها فهو أقرب إلى النظم منه إلى الشعر، يستخدم الصورة في هذا المقام ليشير بها إلى مجرد الصياغة والتشكيل، وهنا يصير مصطلح “التصوير” مرادفا للصنع، ويصبح فعل “صوَّر” مرادفا للفعل “صنع” وتصبح كلمة “الصورة” مرادفة للشكل أو الهيئة أو الصفة.
كثرة الماء
يقصد الجاحظ بقوله “وكثرة الماء” في كتابة الشعر أنه يريد نضارته وخفته يريد تجانسه وحسن بنائه وتوافق لفظه مع معناه، انه يقصد ماء الجمال المتدفق من بين ثنايا الشعر أو إن شئت ماء الحسن الذي يغسل وجه القصيدة، انظر الى وصاياه لبعض الأدباء العباسيين إذ قال: أنذركم حسن الالفاظ وحلاوة مخارج الكلام، فإن المعنى إذا اكتسى لفظاً حسناً وأعاره البليغ مخرجاً سهلاً ومنحه المتكلم دلاً متعشقاً، صار في قلبك احلى ولصدرك أملى، والمعاني إذا كسيت الألفاظ الكريمة والبست الاوصاف الرفيعة تحولت في العيون عن مقادير صورها واربت على حقائق أقدارها بقدر ما زُينت وحسب ما زُخرفت. (البيان والتبيين)
{ عضو اتحاد كتاب مصر