3 قصـص قصــيرة جـدّاً

3 قصـص قصــيرة جـدّاً

 

 

يحيى صاحب

 

 

ضربــةُ جــزاء

 

 

حين عاد الناقد كانت عينه اليُسرى زرقاء، وجانب من وجهه، أيضاً. ولقد علمتُ قبل عودته، أن، ثمّةَ، مَن هاجمه في مُنعطف، وبصم بأصابعه الأربع، الطويلة السُّلاميات، بين عينه وصدغه. وما أنْ جلس قبالتي، وكان مُمتعضاً جدّاً، وشرب شايه، حتّى تساءل طارحاً ما حلّ به عليّ: مَن هو في رأيك ؟ ومن غير أن يتذكّر أنّه أساء إلى أحد، لم يتذكّر، أيضاً، أنّه قد وسم شاعراً كبيراً بمُقرزِم، ولا قاصّاً كبيراً بمُنشيء رديء. على الرغم من أنَّني أعرف، قال هذا في وجهي، مُباشرةً، إنَّ من بين مَن يُسمّون كباراً، الآن، أكثر من شاعر مُقرزم، ومن قاصّ من كَتَبة الإنشاءات الرديئة. فهو من غيرهم: قُلتُ له، لأنَّك لم تتصدّ لهؤلاء. أقليلون هم الذين لا تهمّهم الحقيقةُ مثلك ؟ سكتَ، لحظةً، وطلب شاياً، مرّةً ثانية. وراحَ يحتسيه، هذه المرّة، بتؤدة. أمن المُحتمل أن يكون أحد أُولئك ؛ ممن اعتدتُ على استثنائهم، من بين الشباب ؛ ممن بعد ذرقهم الأول، حسبوا أنَّهم أضحوا على مشارف جائزة نوبل ؟

 

تحسّس جانب وجهه، وبدا مُتألِّماً، ليس فقط، من العلامة التي احتلّت جانباً منه، وإنَّما من التمزّق الأكيد، الذي ما فتيء يستشعره مما يلي عظام وجهه، مُباشرةً. وكأنّه يرى شريحةً من اللحم زرقاءَ ـ بنفسجية. ولولا أنَّني أعرفه، تماماً، أعرفُ، أيضاً، مُهمّة الناقد، التي يصحبها خيطٌ رفيع، لا يختفي، البتّة، من ذلّ التابع، فإنّني لأقرّ له، حرصه غير الإعتيادي، بتأنّيه، واستخدامه لأدقّ المقاييس، وهو يُعالج نصوصه القليلة، التي ينتخبها بأناة، من بين الكثير من النصوص، لأسماء، ليست بالضرورة، مشهورة ً. إنَّه ليعنى، خصوصاً، بتلك التي هو مُتأكّد، تماماً ممن سترشّحهم هذه لشهرة تالية، ربّما غطّت على أسماء من سبقهم.

 

 ولطالما أشّر، بما كتبه حتّى الآن، على خشيته التي تصل حدّ الهَلَع، من التاريخ. من أُولئك الذين ستستطيل قهقهاتهم من كُلّ ما كتبناه، غداً. وكأنّما هو يتحرّك في اتجاه نصوصه، من هناك، من بينهم، من المُستقبل.

 

 قال، وقد بدا أكثر هدوءً، الآن: ربّما جانبتُ الحقّ في شيء. ففي عمل يُشبه عملي تظلّ الحقيقة نسبية، أبداً. فمَن باستطاعته أن يلمّ بوجوه الماسة، جميعاً ! واستبعد أن يكون واحداً ممن سبق وأن كتب عنه، وقال، إنّ معظمهم لا يُعير بالاً لما أقول. واستشعر مرارة الخيـــــــط وهو يمرّ، الآن، من فوق فمه، مُباشرةً.

 

أيكون أحد المُقهقهين، الذي توقّف، فجأةً، لإحساسه بعدم جدوى القهقهة، في أمر جدّي كهذا، مَن كوّر يُمناه وسدّدها، مُباشرةً، إلى جانب وجهك الأيسر ؟ ربّما قال، أو همس لنفسه بهذا، وربّما لم يقُل ولم يهمس، وفتح مجموعةً شعريةً، صادرة حديثاً، وانصرف، وقلمه الرصاص، بين أصابعه، يقرأ.

 

 

ما بعــد الدائــــرة

 

 

كانت المرأة على نقطة قريبة من مركز الدائرة ؛ وقفتْ، وأحاطت نفسها، من داخلها، بطباشير ذهني، أحمر اللون. واضح من سعة الدائرة أنّها لم ترسمها بيديها، وإنّما أوكلت الأمر لفرجال خياليّ، تعلو نقطة تلاقي ساقيه رأسها بمسافة. لم تكن الدائرة، في نظرها، قفصاً، البتّة، بل منطقة لانهائية الإتّساع، مهما بدا عليها من ضيق، لتحرّكه، وهي فيها، بحريّة.

 

 كان أول مَن دفعتهم، خارجها، زوجها ؛ الذي أمضت معه عُمراً من نكد، لانظير له، وقد وجدت، بعد أن فكّرت مليّاً، قبل أن تقدم على هذه الخطوة ؛ استطاعتها على إنقاذ ما يمكن إنقاذه من قفص، كان من حديد، منذ الليلة الأولى. بيد أنّ جسدها بقي، بعيداً، وقبله، روحها. وحين ألفتْ نفسها داخل الدائرة ؛ قدّرت أيّما تقدير، المسافةَ، التي لم تضطرّها إلى تخليص قِطع لحمها، من قطع الحديد. فهي لم تتثلّم بعد، لذا، فهي، على أتمّ استعداد، على ترميم ذلك الجانب الذي لم تعُد متأكّـدة، وهي، هنا، قد أُلحـق به ضررٌ لا سبيل إلى إصلاحه.

 

 أخرجت من حقيبتها قرصاً، أبرق في الشمس، قبل أن تقلبه على وجهه الآخر. ورأت في بريقه، الذي ضرب عينيها، كما لو أنّه شمس، ما جعلها متأكّدة، من غير أيّ شكّ، آخذةً بنظر الإعتبار حزَّه الأول ؛ أنّها قد استردّت حرّيتها، تماماً.

 

ولم يكن وراء ذلك الخطّ الأحمر، ألذي لا يتسنّى لغير عينيها أن تراه، إلاّ أشياء أُخرى، تصطفّ إلى يسار زوجها ويمينه،

 

بالغةَ الرثاثة ؛ أهل زوجها، أهلها، جيرانها وأصدقاؤها ؛ كُلّ الذين اطّلعوا على تفاصيل حياتها، مهما كانت صغيرة وعديمة الأهميّة. ظلّت واقفة. من غير أن تمنع عينيها من إجالة النظر في مارّة، وكانوا، جميعاً، يتحرّكون على شكل دائريّ، وبحذر واضح، خشية أن يدوسوا بأحذيتهم على الخطّ الأحمر ؛ الذي بوسعِهم رؤيته، وإن ظلّ، مع ذلك، يُشكّل من جانبهم، جُزءً من قوس. هل كانت تنتظر دائرة ثالثة ؟ أصغر من الدائرة وأكبر من القرص المُدمج. وأحسّت، أول مرّة، أن ليس، ثمّة، فعل أدّتْهُ، هنا، أو، هناك، أو، في أيّ مكان، ليُشبه فعل وقوفها، في مركز الدائرة، مواصلةً الإنتظار.

 

 بحركة مُعاكسة، جعل الفرجال يدور، مرّةً أُخرى. إنفتحت الدائرة مُنبسطةً في خطّ مُستقيم، كانت المرأة على بدايته. شرعت بالمشي، وكان إلى جانبها رجل، وبلا أكثر من خطوة واحدة، انكسر حاجز العُزلة على الفضاء، الذي بمقدور خطّ طباشير أحمر اللون، غير موجود، الآن، جَعَلَها، مع ذلك، مُطابقةً لجوهرها الحقيقيّ، جُزءً لجُزء، وتامّةً، أيضاً.

 

 

ألغامـــــض

 

 

له وجه ثعلب. أمّا قوامه، فنظرة لا تتعدّى ملمحاً من ملامحه، بإمكانها أن تحسم الموضوع. بيد أنّ الحكم عليه بوصفه ثعلباً، تماماً، يحرف كُلّ ما يبدو به، إلى شخص آخر. لسنا، هنا، بصدد مُتابعته، من تلك النقطة، بالذات، حتّى النقطة الأخيرة. وحين نواجه حالة كهذه بسؤال: لماذا هو ليس بثعلب ؟ سنعثر بالجواب جاهزاً. وهو: ليس عندما يختلط بالبشر، سيختلط، بمن يُشبهونه من الثعالب. فلسنا من السذاجة حدَّ نقع ضحايا لخديعة البداهة، لمُجرّد تراءيها من وراء زُخرف المُسلّمات. وليس هذا ما سيضطرّه إلى أن نعثر به، حين نبسطه، من تحت بطنه حتّى ساقيه الخلفيتين.

 

لقد تجاوز خطّاً غير مرئيّ، الآن. واختفى وراء زُجاج باب المقهى. ولاح من، هناك، زاهداً، وربّما، أكثر من زاهد، في مواصلة فعّالياته التي شرع في أُولاها، أمس. جلس. وكان ساكناً، تماماً، كأنّه ليس هو. وكانت هذه إحدى بدايـاته التي يعـود إليها، دائماً، لتكـون، من بعد، نقطـة شـروع.

 

 أخرج جهاز موبايله الأحمر الغريب، وجعل بأصابع يده الخمس، ينقر على أزراره، كما لو أنّه يضرب على آلة كاتبة، ولم يكن، البتّة، في محاولة للإتّصال بدجاجة، أو، بعنقود عِنب، بقصد التمويه. على الرغم من ولهه الذي لا يُضاهيه ولهٌ، في ما عداهما. فهما، في حقيقتهما، رمزان لما ليس بعنب، قطّ، أو دجاج. بعد أن أصبح هذان، في نظره، على لائحة الماضي، إثر انحراف شهيته، عميقاً، مُتّخذةً، بعد أن كانت مُسطّحةً، شكلاً ثلاثيّ الأبعاد.

 

 وكان يرى، في العُمق، أبداً، مجالاً لا يسمح للذراع فقط، أن تلجه، بل يسمح لأطول منها أن تجوس خلاله، وقد بات يرى فيه حقلاً عقليّاً، يعثر فيه، وعلى نحو دائم، تقريباً، على مُفاجآت. ولم يكن الميتافيزيقي فيها، يُعدّ من أشيائه القليلة. إنّه ليبتسم. هل وضع يده، حقّاً، على دجاجة، أم على عنقود عِنب ؟ مَن يعرفه، ويقيس طول ابتسامته بمسطرة، ويُباغته وعلى شِدقيه غير الدم الحلو، رقم مُحدّد، يقول: نعم. لولا أنّ قلّة قليلة، من مُتابعي فعّالياته، يزعم العكس. وغالباً ما يكون الإثنان، معاً، على خطأ. ولم تَتِح لأيّ منهما مُغادرتُه السريعة إلاّ رؤية قدح شايه، ولم يمسّه، قطّ، على مائدته الخشبيّة الصغيرة، وهو يبرد.