حسين الجاف
إنه واحد من زعماء افريقيا الكبار .. لكنه اسعدهم حظا واطولهم عمرا واكثرهم تحقيقا لاهدافه العامة والخاصة ولربما اكثرهم معاناة ومكابدة.. ومذاقا لقسوة السجن ورهبة الاعتقال ومرارة البقاء في زنازين انفرادية لنحو 27 سنة .. ولد في عام 1918 في حي افريقي فقير جدا .. فعانى منذ طفولته مظالم التمييز العرقي والطبقي والحرمان
. كان محاميا وفي فجر ممارسته للنضال ضد (الابارتايد) اي سياسة الفصل العنصري .. تعرف على شابة مناضلة سمراء واسعة العينين واسعة الثقافة .. ربما كانت اكثر منه حماسة في ممارسة النضال ضد العنصريين البيض فاعجب بها وتزوجها هي (وبني مانديلا) زوجته الاولى .
ولم تمض سوى سنوات قليلة حتى حكم على مانديلا بالسجن المؤبد .. ليبتدا من سجنه نضالا اخر عن طريق المراسلات والمقالات .. والكلمات التي كانت تبث الحماسة في نفوس الاجيال الجديدة السود .. فتبعه مجددا ناس كثيرون اخرون .. ان (ويني) الزوجة الشابة .. كتبت عن حياته معه كتابا قالت في احدى صفحاته (ان حياتي معه كانت حياتي بدونه) اشارة الى حياة السجن والابعاد والاعتقال والنفي التي تعرض لها مانديلا في حياته مما انعكس بالبؤس والتعاسة على حياتهما الزوجية .. وبعد أن اطلق سجين العصر (مانديلا) من سجنه ليمارس حياة الحرية مجددا ثم لينتخب رئيسا لجمهورية جنوب افريقيا ويصبح اول رئيس اسود لها . والذي اعلن سياسة ( عفا الله عما سلف) عن كل الذين اساءوا بحق الشعب الاسود من العنصريين البيض من خلال مشروع المصالحة الوطنية على ان يعترف من اخطأوا بحق السود بذنبهم وليعتذروا عما بدر منهم اتجاههم..وفعلا حصلت المصالحة الوطنية الكبرى .. وانطوت صفحة الماضي الاليم بكل مآسيها وآثارها البغيضة وتبدا صفحة جديدة تزهو بالصفح والصلح والتسامح والتصالح وينسى المجتمع ماتعرض له.. فساد العفو على الانـــــــتقام وطغت لغة السلام على الاحتراب وانطلق الجميع يد واحدة وكتفا بكــــتف لبناء جنوب افريقيا جديدة ولم يكتف مانديلا بذلك الصفح والسماحة بل عين رئــــيس جمهورية جنوب افريقيا السابق نائبا له .. متناسيا كل ماجرى له ولشعبه على يده ويد العنصريين البيض الذين تراسهم فيما مضى .. وهكذا انتهى كل فساد السلام الاجتماعي بدلا للتناحر العرقي والسياسي .
ومثلما اشرنا في البداية فانه يقف في آخر صف طويل من زعماء القارة السوداء الوطنيون لوموميا وسنغور ونيكروما وموبيدو كيتا واحمد أهيجو وجمال عبد الناصر ونينــو واحمد بن بيلا والحبيب بورقيبه ونايريري وغيرهم من قادة النضال في افريقيا من اجل تحرير اوطانهم من الاستعمارات المتعددة البرتغالية والاسبانية والايطالية والبريطانية والفرنسية والبلجيكية. وفي انتخاب حر فاز مانديلا برئاسة جنوب افريقــيا ومكث فيه لدورة واحدة خمس سنوات فقط ليخلي الموقع لغيره ..فالسن والارهاق والرغبة في التغيير والرغبة في التداول السلمي للسلطات بل والزهد فيها كانت من اهم دوافعه في تركها على الرغم من تعاظم الالحاح الشعبي الشديد والدولي له بالبقاء والتجديد لولاية او ولايات اخرى .. بيد انه رفض اشد الرفض .. على الرغم من ان الامر عليه كان طوع بنانه ..مفضلا الخروج من الحكم فتحول من حاكم الى حكيم ومن رئيس بلاد الى زعيم لقارة .. يستشيره كل الرؤساء في افريقيا وغيرها ويحكمونه في اشكالاتهم الوطنية والدولية .. فكان ملء السمع والبصر والفؤاد..
والان ..والعالم ودع (مانديلا) كماودعه ابناء شعبه حيث..رحل الرجل مخلفا ميراثاً كبيراً من الحكمة والضوء.