ماجدة حمود تدرس الظاهرة من خلال السرد الروائي
نظرة العربي إلى الآخر – نصوص – شكيب كاظم
ذكر الطاهر لبيب في مقدمته للكتاب المهم ( صورة الآخر : العربي ناظراً ومنظوراً إليه ) الذي تولى إصداره مركز دراسات الوحدة العربية سنة1999 هذا المركز المهم ، الذي يواصل رفد الحياة العربية الثقافية ، بكل ما هومفيد ومغن للعقل والروح الذي يعيد للذاكرة ( مركز الإنماء العربي ) الذي يتولاه في باريس المفكر العربي الدكتور مطاع الصفدي ، الكتاب الذي أحتوى الدراسات والبحوث التي ألقيت في ندوتي الجمعية العربية لعلم الاجتماع التي يتولى لبيب رئاستها ، المنعقدتين في مدينة الحمامات الرائعة بتونس الخضراء سنتي 1993و1996، بشأن صورة الآخر ، والتي كان يطلب من كل مشارك فيها ، سواء أكان عربياً أم أجنبياً ، ان يعرض صورة الآخر في مجتمعه ،أومجتمع عربي يختاره ، وإذ التزم أغلب المشاركين من غير العرب ، بهذا المحور ، فضل أغلب المشاركين العرب تناول صورة العربي لدى الآخر ، وإذ أخل التناول المعكوس ، للموضوع المطلوب دراسته ، بتوازن الإسهامات وبتجانسها فقد اضطرت الجمعية لعقد ندوة ثانية سنة 1996 للإجابة عن السؤال المطروح : كيف يرى العرب الآخرين؟
ولعل من تأثيرات هذا الكتاب الذي يقع في نحوألف صفحة ، ان تصدر هذه الدراسة القيمة التي كتبتها الباحثة الدكتورة ماجدة (محمد ) حمود، الأستاذة في قسم اللغة العربية بجامعة دمشق والمعنونة بـ ( إشكالية الأنا والآخر . نماذج روائية عربية ) والصادرة في سلسلة ( عالم المعرفة) هذه السلسلة الثقافية الشهرية الرصينة التي يصدرها المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب بدولة الكويت ، والتي ظلت تواصل الصدور منذ شهر كانون الثاني سنة 1978 ، وحتى يومنا هذا ، ورصدت فيها ظاهرة كيف يرى العربي الآخرين ، من وجهة نظر إيجابية ، في محاولة مد جسور التفاهم والتعايش مع الآخر ، بحثاً عن نقاط الالتقاء ، وبعيداً عن نقاط الخلاف والاختلاف .
العربي ناظراً ومنظوراً إليه
من المعروف لدى الدارسين ، ان مسألة العربي إزاء الأوربي أوالغربي عموماً، قد وجدت صداها في العديد من الكتابات والروايات ، منذ أن بدأ العرب يعون دورهم في مسيرة الحياة ، ولعل من أوائل من كتب في هذا المجال رفاعة الطهطاوي الذي أبتعث للدراسة في باريس وكانت تسمى (باريز) وقتذاك في كتابه (تخليص الابريز في تلخيص باريز ) ولعل من أوائل من كتب في هذه الظاهرة روائياً ، الكاتب اللبناني الراحل أمين الريحاني في روايته ( كتاب خالد) وكذلك رواية (عصفور من الشرق ) لتوفيق الحكيم ، و( قنديل أم هاشم ) ليحيى حقي و( أديب ) للدكتور طه حسين ، و(ذكريات طالب في برلين ) ليوسف عبود و( الدكتور إبراهيم ) لذي النون أيوب ، فضلاً على ( الحي اللاتيني ) للدكتور سهيل إدريس و(السفينة) لجبرا إبراهيم جبرا ، و(قلب على سفر) للدكتور يوسف عز الدين و( الأشجار واغتيال مرزوق ) لعبد الرحمن منيف، ورائعة الطيب صالح ( موسم الهجرة إلى الشمال) وإذا كانت بعض هذه الروايات تتحدث بإيجابية ، أوغالبها ، تتحدث بإيجابية عن فضل أوربة والغرب في نهضة العرب والشرق فإن رواية (موسم الهجرة إلى الشمال) للطيب صالح ،لعله متأثر بقسوة الاستعمار الانكليزي لبلاده ، انما يصور انتقامه من النسوة الانكليزيات من خلال مضاجعتهن بقسوة ،وكأنه يثأر جنسياً منهن !!
غير ان كتاب (إشكالية الأنا والآخر) للباحثة الدكتورة ماجدة حمود ، انما جاء ليدرس هذه الظاهرة ، نظرة العربي إلى الآخر ، التي كانت منحصرة في الأعمال التي أشرت اليها آنفاً ، بنظرة العربي إلى الأوربي والغربي ، جاء الكتاب ليدرس هذه الظاهرة بإيجابية من خلال ثماني روايات كتبها روائيون وروائيات عرب ، ما انحصرت في نظرة العربي إلى الأوربي فقط ، بل امتدت للحديث عن نظرة العربي إلى الآسيوي ، الذي يأتي للعمل في دول الخليج العربي ، وتحديدا ًللخادمات الآسيويات اللواتي يأتين للخدمة في بيوت الكويتيين .
الروائي المبدع إسماعيل فهد إسماعيل ، يقدم وجهة نظر مغايرة لما كان سائداً ومألوفاً في الحياة الخليجية ، من قلة احترام لهؤلاء المساكين ، الذين تجبرهم قساوة الحياة في بلدانهم على الوفود إلى دول الخليج الغنية ، إسماعيل فهد إسماعيل في روايته (بعيداً إلى هنا) يتعاطف مع (كوماري) الخادمة السريلانكية ، التي تجبرها قساوة معاملة مخدومتها إلى الانتحار ولاسيما بعد ان اتهمتها سيدة البيت ( دلال) بالسرقة ، إذ عاشت كوماري في بداية عملها في بيت (سعود) الكويتي الثري حياة هانئة ، على الرغم من تدخل (دلال) في بعض خصوصياتها ، مثل قص شعرها أوإطالته ، لكن الضربة القاصمة جاءت من خلال اتهامها بالسرقة وتوقيفها وتحول حياتها إلى جحيم أنهته بقتل نفسها.
وتواصل الباحثة الدكتورة ماجدة حمود تقديم الصورة الإيجابية لنظرة العربي إلى الآخر ، لتقرأ لنا رواية ( خارطة حب) للروائية المصرية المقيمة في بريطانية ،أهداف سويف والتي كتبت روايتها باللغة الإنكليزية ، ولعلها بذلك تكون راغبة للوصول إلى الآخر ،البريطاني ، الأوربي مباشرة ، إذ تنسج علاقة حب بين (شريف) المصري المسلم ، و( آنا ) الإنكليزية المسيحية ، وإذ يسأل شريف أباه وأمه في مسألة الزواج هذا ، يأتي الجواب الإيجابي مستنداً إلى شرع المسلمين المستمد من القرآن القائل : وجعلناكم شعوباًوقبائل لتعارفوا ان اكرمكم عند الله اتقاكم ، اما أمه فتحثه على إكرامها والعناية بها ، فهي ضيفة عندنا ، وإنها قد تخلت عن أهلها وذويها وبلادها وحتى لغتها من أجلك ، فيجب عليك تعويضها بالحنان والمحبة وإذا ظلمتها فلن يغفر الله لك.
وإذ كان إسماعيل فهد إسماعيل ، وأهداف سويف إيجابيين مع الآخر ، فأن الروائية السودانية ( بثينة خضر مكي ) في روايتها التي حملت عنوان ( حجول من شوك) ولنقف ملياً عند العنوان، والتي جاءت ترجمة لحياتها في دولة الإمارات ، ما كانت إيجابية وهي ترى هذا التمييز كونها سوداء البشرة ، فأطلقت على لسان بطلة روايتها ( نصرة) كل خلجات الذات ، إزاء الأخ العربي الذي ينكر عروبتك بسبب اللون ، الأمر الذي يدفعها لإعلاء صوت الأنا الإفريقية السوداء ، على صوت الأخ العربي الذي تنكر ( نصرة ) أخوته هوالذي أنكر هذا الإخاء.
ولعل ما أفرحني ان الروائية ( بثينة خضر مكي ) قد استشهدت بشعر لشاعرنا العراقي المسكين الراحل عبد اللطيف الراشد ، قذفته في وجه من استغرب عودتها إلى وطنها ، السودان بدل الذهاب إلى لندن أوالقاهرة : هذي بلادي بها نخلة / وقطرة في السحاب / وقبر يحتويني/ هي أجمل عندي من مدن الضباب / من مدن لا تعرفني / أجوب الشوارع فيها وحيداً.
كان من المقبول ، ومما يأتلف مع طبائع الحياة والأشياء ، أن لاتستطيع الروائية الفلسطينية (سحر خليفة) الروائية العربية الأولى التي تفوز بجائزة ( محمد زفزاف للرواية العربية) سنة 2013 ، والتي تمنح كل ثلاث سنوات ، أن تنزع جلدها وتنسى أوتتناسى الذي حصل لوطنها ولشعبها ، لذا ما استطاعت مغادرة النظرة نحوالآخر ، الإسرائيلي تحديداً فظلت ترتاب منه وتخشاه ، حتى إذا شاءَت في روايتها المسماة (ربيع حار) وللعنوان دلالته فحتى الربيع الفلسطيني حار ، فكيف بصيفه ؟ كان من المقبول عقد علاقة حب بين فلسطيني هو(أحمد) الذي ألصقت به صفات غير ايجابية – كي تتخلص من أثم عقدها هذه الآصرة الحبية- فهوعلى خلاف أقرانه لا يتظاهر ولا يرشق الجند الصهاينة بالحجارة ، انه يحيا قوقعة ذاتية ، حتى ان أباه يصفه بـ ( الولد خرع جداً ، طري جداً وبحاجة للدعك والتصلب ، فما معنى ان يعيش في هذا الجوولد مثله؟ما يحتاجه البلد جلد التماسيح، وقلب جامد ،وعين صاحية لا ترمش) تراجع ص 105،106 من الكتاب.
عقدت سحر خليفة علاقة الحب هذه بين (أحمد) الفلسطيني و(ميرا) الفتاة الإسرائيلية، لكنها سرعان ما وأدتها ،وكأني بها تريد ابراء ذمتها من عقدها هذه العلاقة !! فسبب الفسخ بسيط ولا يحتاج إلى هذه القطيعة ،(ميرا) سرقت قطة (أحمد) !!
ويدلوالروائي الكبير عبد الرحمن منيف بدلائه في هذا المجال من خلال ثلاثيته الروائية(ارض السواد) ليقدم لنا الحياة العراقية ابان القرن التاسع عشر ، والوالي العثماني داود باشا والقنصل البريطاني (ريتش) الذي كان ينظر إلى العراقيين نظرة استعلاء وتكبر من غير ان يغمطهم حقهم لما يتمتعون به من خصال نبيلة.
صورة اليهودي في أدب الغرب
وإذ جاءت صورة اليهودي في الآداب الأوربية والغربية ، نمطية سلبية كما لدى وليم شكسبير في المرابي البخيل ( شايلوك) في روايته ( تاجر البندقية) أومثلما جاء في رواية ( يوليسيس) أو( عوليس) في بعض الترجمات للروائي الإرلندي ( جيمس جويس) فضلاً على رواية ( موبي ديك) للروائي الأمريكي هرمان ملفل ، وجارلس ديكنز ، ودستويفسكي وجورج اليوت ، وسحر خليفة كما سبق وأشرت إليها آنفا، فان الروائي اليمني علي المقري ، غادر هذه الأجواء الكارهة وعاد بنا إلى منتصف القرن السابع عشر ، كي يتخلص من سلبيات العلاقة العربية – الإسرائيلية بعد استلاب فلسطين وتشريد جزء كبير من أهلها ، عاد علي المقري بنا إلى ذلك الزمن ليسرد لنا من خلال روايته ( اليهودي الحالي) علاقة حب تربط بين قلب ( فاطمة ) وللاسم دلالته الدينية التي لا تخفى على النابهين واليهودي الذي اسماه علي المقري ( سالما ) وللاسم دلالته -كذلك- ولأجل ان لا ينقلنا الروائي علي المقري إلى يوتوبيا فانتازية غير واقعية ، فانه ينقل لقرائه صوراً سلبية ، من الجانبين ، المسلم واليهودي ، صادرة – غالباً- من جهل متعصبين فضلاً على صور ايجابية . درست الباحثة ماجدة حمود في كتابها المهم هذا ( إشكالية الأنا والآخر ) هذه الظاهرة روائياً من خلال ثماني روايات ، جاءت أربع منها بأقلام أربعة روائيين ، تحدثنا عن ثلاثة منهم هم : الكويتي العراقي إسماعيل فهد إسماعيل والسعودي عبد الرحمن منيف ، واليمني علي المقري، وسنتحدث عن الجزائري واسيني الأعرج.
فضلاً على أربع روائيات هن : المصرية المقيمة في بريطانية أهداف سويف والسودانية (بثينة خضر مكي ) والفلسطينية سحر خليفة ، وكانت رابعتهن السورية غادة السمان المقيمة في بيروت منذ سنوات الستين من القرن العشرين ، والتي تفيأت في ظلال الحرية الفكرية التي عاشها لبنان ،قبل أن تغادره إثر اندلاع الحرب الأهلية في 12/ نيسان /1975 نحوباريس ومازالت تحيا فيها معانية الغربة التي صورتها في روايتها ( سهرة تنكرية للموتى ) والمجتمع الفرنسي صعب القبول للآخر ، ويشعره بذلك منذ المدرسة الابتدائية ، لا بل يكون حتى الاسم سبباً للبعد والإقصاء هذا الأمر يعيد لذاكرتي ما عاناه المفكر الكبير ادوارد سعيد ، وهوينتقل للحياة في أمريكة ، إذ كان اسم أبيه ( سعيد ) يسبب له الكثير من الإحراج ، بوصفه اسماً شرقياً وهوما فصله في سيرته الذاتية الرائعة التي أسماها ( خارج المكان ) ونشرتها دار الآداب اللبنانية وترجمها فواز الطرابلسي، وقد لمست هذه المعاناة ، ضرورة تعلم لغة بلد اللجوء ، وأنا أقرأ كتاب ( قصص وخواطر. شمعة ذكرى إلى أم عراقية ) للأديب الشاعر العراقي المغترب في الدانمارك خلدون جاويد ، هذه اللغة التي يجبر خلدون على تعلمها ، وإلا تقطع عنه المساعدة الاجتماعية، أي لقمة عيشه ، على الرغم من بلوغه الخمسين عمراً ، هذه اللغة التي يصفها له أحد الأطباء الدانماركيين المختصين بتطبيب خلدون خاويد – تشبه – من يتكلم بها وقد وضع في فمه قطعة بطاطة ساخنة.
تتماهى الروائية غادة السمان ببطلة روايتها ( ماريا ) مصورة معاناتها الغربة ( فقد جرحتني الغربة ، ورشت المطارات ملح الوحشة على جراحي ، وأنا صامتة متماسكة لا أنزف إلا على الورق (…) عبثاً أزرع لي قلباً مستورداً يستأصل جذوري من بلد أحببته حتى الثمالة أسمه لبنان ، وهجرت وطني مسقط قلبي لأعيشه بكل معانيه : الحرية والتعايش بين الأديان والعدالة الاجتماعية التي تنشدها بطلات قصصي وأبطالها) ص 194.
ولقد أثرت الغربة الباريسية على نتاجات غادة السمان ، فبعد ان كانت تغدق علينا خيرها الإبداعي ، قصصاً وروايات يوم كانت في بيروت الحرية والحضارة ، تركت الغربة ظلالها القاسية ، فصوحت حديقة إبداعها وأجدبت – للأسف الشديد – لكن غادة السمان ، ومن أجل عقد حوار بين الأنا والآخر الغربي، الفرنسي تحديداً ، تعقد آصرة بين الفرنسية ( ماري روز) التي تزور لبنان ، تزور فقراءه ، وتحيا حياة أغنيائه لكي تتعرف على الشرق العربي ، كاسرة بذلك الصورة النمطية للآخر العربي ، الذي ظل الغربيون ينظرون إليه من خلال ألف ليلة وليلة.
قفز على حقائق الأشياء
أنا لا أرغب في مشاهدة الأفلام التي تأخذ من التأريخ ، فضلاً على التي تستند على روايات مكتوبة ، وسبب ذلك ، انها تأتي وفق رغبة المنتج والمخرج وكاتب السيناريو، ولقد لمست ذلك من شكوى الروائي الكبير نجيب محفوظ ، لذا فان الروائي الجزائري واسيني الأعرج حاول لي النصوص التأريخية المستقاة من حياة الأمير عبد القادر الجزائري ، الذي قارع الاستعمار الفرنسي لبلده خمسة عشر عاماً ، وأضطر أخيراً للقبول بالأمر الواقع والانتقال للعيش في بلاد الشام بقية عمره ، وما زال قصره شاخصاً في دمشق الشام حتى الآن ،لكن واسيني الأعرج، الذي استقى هذا التأريخ وهويكتب روايته ( كتاب الأمير ) انما حاول ، ركوباً لموجة تجميل الذات أمام الآخر ، ولاسيما بعد تصاعد موجة الكراهية ، ضد الشرقي والمسلم والعربي ، بعد حوادث الحادي عشر من أيلول /2001، وما نتج عنها من قيام الولايات المتحدة الأمريكية بضرب معاقل طالبان في أفغانستان في شهر كانون الأول من العام ذاته ، ومن ثم ضرب العراق واحتلاله في آذار / 2003، أوفوزاً باهتمام القارئ الفرنسي ، حاول واسيني الأعرج تغيير دفة الوقائع التأريخية وجعلها في خدمة الآخر أومجاملته ، وأرى انه ما كان محقاً في نهجه هذا النهج المغاير لوقائع الحياة ، فمحاولة اقترابك من الآخر لاتعني تشويه تأريخك وكسر حقائق التأريخ وطموحاً إلى لفت انتباه القارئ الفرنسي واهتمامه ، وتبقى الطموحات والآمال شيء والدقة والحقيقة شيء آخر، ويجب ان لا تلبى هذه الآمال على حساب حقائق التأريخ والحياة لأن غربال الحياة والحقيقة لا يجامل أبداً، ولا يجامل أحداً.



















