إستذكارات مسرحية 7
مهرجان برلين وأوبرا القروش الثلاثة
يوسف العاني
ليونس ولينا
الاربعاء 10/10/1979
غريب امر هذاه المسرحية! ذكرتني بأكثر من موضوع وموضوع فهي ان اردنا ان نلخصها لقلنا: انها قصة حب بين الأمير (ليونس).. وفتاة من عامة الناس.. ودعوة الى الزواج من الأميرة (لينا) حسب ما يريده ابوه الملك ومجلس الشورى.. وحيرة الأمير بين هذا وذاك والصراع الذي يعانيه من عدم قناعته بالأميرة واكتشافه في نهاية الأمر ان المسألة على عكس ما كان يتصور!
هذا التلخيص يبدو لأول وهلة وكأنه خلاصة ساذجة لقصة اكثر سذاجة! لكن الامر اكثر من هذا واعمق اذا ماخضنا في التفاصيل.. الحكاية ذكرتني – الى حد كبير- بفيلم (سارق الدراجة) لدي سيكا! فبالأمكان تلخيص قصته – او كما لخصها البعض في حينها. (ان عاطلا عن العمل حصل على دراجة كي ينال عملا.. ثم تسرق منه الدراجة ويروح باحثا عنها مع ابنه دون جدوى فتضطره الحاجة الى سرقة دراجة ثانية. لكنه يفشل في السرقة ويلقى القبض عليه). اما الفيلم فقد كان اعمق واشمل من هذه الخلاصة الوجيزة الساذجة كذلك!
وذكرتني المسرحية ايضا بحكاية للمخرج الفرنسي ايف روبير الذي اخرج فيلم (حرب الازرار).. والحكاية تتلخص في ان ايف روبير اخرج الفيلم ومعظم ممثليه هم من الأطفال لكن روبير حول تمثيل هؤلاء الاطفال الى لعب.. اي انهم لعبوا قصة وسناريو الفيلم فعلا. وروبير استوحى هذه الفكرة من ابنه الصغير الذي سأله ذات يوم:
– الى اين ذاهب يا ابي؟
فأجابه روبير وكان ذاهبا الى المسرح ليمثل:
– انا ذاهب لكي امثل – اي: Play – والكلمة تعني اضافة الى (امثل) معنى آخر هو (ألعب) فرد عليه ابنه الصغير:
– لماذا لا تأخذني معك لكي ألعب!
والمخرج الألماني (بورجن كوش) الذي تسلم مسرحية (ليونس ولينا) للكاتب المسرحي (جورج بوشنر) تحمل صيغة اللعب هذا لكنه لعب ليس للأطفال وانما للأمير (ليونس) وصديقه (فاليريو) وشخصيات مسرحية اخرى – ومن خلال لعب هذين الصديقين والآخرين تحولت المسرحية الى لعب بكل ما في هذه الكلمة من معنى.. اللعب يبدأ بكلمة من ليونس.. يرد عليها فاليريو بدعابة.. لكن ليونس يسخر منه ومن دعابته.. ويتشابكان.. ثم يتدافعان وتتحول دعابتهم هذه الى صراع يمزق كل منهما ملابس الآخر ويسكب كل منهما الماء على الثاني.. حتى يصلا الى حد التعري غير الكامل.. ويستمر اللعب ويشعر الاثنان بأعياء شديد ويجلسان بلا حراك. هذا اللعب (المنظم والمنسق) ليس اللعب الوحيد الذي يجري على المسرح بل ان مفارقات كثيرة ومن ممثلين آخرين – كما اشرت – تتحول الى لعب من نوع آخر.. كان ينزل احدهم الى السرداب العميق في مقدمة المسرح والذي يؤدي فعلا الى حفرة تمتد عشرات الأمتار تحت خشبة المسرح.. ينزل هذا الممثل وقد ارتدى (قبقابا) فنظل نستمع الى ضربات قبقابه وهو يجتاز السلالم الخشبية درجة درجة.. ونحن ننتظر وصوله ولا شيء غير ايقاع وضربات القبقاب! او ان يرمي احدهم علبة فارغة وكبيرة من الصفيح لتظل تتدحرج الى اعماق السرداب فنظل لا نرى شيئا بل نستمع الى صوت العلبة المتدحرجة حتى يذوب الصوت.
ويخرج (الملك) وينزل خطوة خطوة وهو شيخ كبير.. فيفرش ملابسه على الارض قطعة قطعة ثم ينظر الى الجمهور ويشير الى الملابس:
– هذا هو الملك.. وهو انا.. ويعود ليخرج كما جاء.. وتستمر الدعابات والألعاب التي تصل الى حد الضرب والعراك والايلام – الممثل – ايضا.. ولكن.. هل كانت المسرحية لعبا وحده؟
المسرحية الأساس كانت ما بين اللعب، الأحداث التي تقطع اللعب والتي تجسد على المسرح تجسيدا كاملا من خلال فترات (استراحة) عن اللعب المتعب! حتى تنتهي المسرحية حيث تنعكس اللعبة الى اعلى سلطة في الدولة هو مجلس الشورى الذي يتألف اعضاؤه كلهم من العميان حين يدخلون المسرح من الأسفل.. اي من السرداب ويجتازون السلالم الخشبية ايضا وهم يضربون بعصاهم عليها فيتركون اصواتا كأصوات علب الصفيح وكأصوات القباقيب الخشبية!!
اوبرا القروش الثلاثة
الخميس 11/10/1979
صباح هذا اليوم كنت على موعد مع السيدة كيزي رئيسة المركز الألماني للمسرح في اكثر من حديث وقضية تتعلق بالعلاقات بين المركزين العراقي والألماني. وحول اوضاع المسرح في كلا البلدين.. وكانت واحدة من هذه القضايا عتابا مني للمسرحيين الألمان حيث بادرت وقلت لفراوكيزي – كما يقولون بالألماني – انا اعاتبكم لعدم مشاركة المسرح العراقي في مهرجان برلين المسرحي..!
ضحكت فراوكيزي.. وقالت:
– انا اعاتبكم! نحن نرحب بالمسرح العراقي. ان اكثر من بلد من بلدان العالم الثالث شارك في المهرجانات السابقة وفي هذا المهرجان وفرقتكم للرقص الشعبي وللغناء الشعبي شاركا في المهرجان..
– ولم يبق غير – المسرح –
شعرت بأنني انا المعاتب وانا الملام: فبادرت لرأب الصدع وقلت: ان مسرحنا بإمكانه المشاركة في مهرجان عام 1980. ضحكت فراوكيزي مرة اخرى. ثم نهضت وفتحت دولابا صغيرا وأخرجت كتيبا مطبوعا وقالت:
– هذا برنامج المهرجان المسرحي لعام 1980 وهذه مسودة برنامج عام 1981. وقد انتهت تسمية الفرق المشاركة وثبتت مواعيد عروضها! ويمكنكم يا سيد العاني ان تشاركوا بكل ترحيب في مهرجان عام 1982.
هذه المرة لم اعرف كيف ارقع الشق! ولكنني لم احس بالإحراج قلت:
– طيب سنعمل منذ الان لمناقشة الموضوع مع الجهات المسؤولة حول الموضوع..
وسكت..!
وهنا بادرت فراو كيزي لتقول:
– انا اود ان ابدي بعض الملاحظات في طبيعة العمل المسرحي الذي تأتون به..
ارجو الا يعتمد على الحوار الكلي بالدرجة الأولى فهذا سيتعب المشاهد عندنا.. ليت الحركة في المسرحية والتعبير فيها يأخذ الصدارة في العرض. وحبذا لو كان العمل عراقيا مئة بالمئة فنحن نريد ان نتعرف على مسرحكم ادبا واخراجا وتمثيلا وكل شيء! لا تأتوا الينا- وضحكت قبل ان تكمل – ببرشت! ولاسيما اذا كانت صيغة عرضه نسخة مما يقدم عندنا..لقد سمعنا بمسرحية (بونتلا وتابعه ماتي) التي قدمتموها ببغداد قبل اربع او خمس سنوات
. كان عملا متميزا لا صلة له بما نقدمه هنا من حيث الصيغة.. قال لي ذلك مدير فرقة (فايمار) الذي شاهد العرض بمهرجان دمشق في حينه واعجب به كثيرا وسمعت عنه من اخرين غيره..
اذا كان العرض بصيغة – ودعني اسمها عراقية- فأهلا وسهلا.
اما اذا كان نسخة منقولة منا.. فلا ..!
ستحصل مقارنة حرفية وسوف لن يجد المشاهد الالماني متعة منه وسوف لن تكسبوا شيئا ولن نكسب شيئا..
اقول لك: شاهد مسرحية (اوبرا الثلاثة قروش) للفرقة التشكيلية وسوف تدرك ذلك بنفسك.
عدو البشر (ميزاثروب)
الجمعة مساء 12/10/1979
بعد مسرحية (داريوفو) الايطالية ينقلنا المسرح الالماني اخراجا وتمثيلا وعلى خشبة مسرح الشعب.. الى المسرح الفرنسي ممثلا بموليير العظيم وبمسرحيته (عدو البشر).
ليس من السهل ان يغفل المشاهد عن عمل مسرحي كهذا العمل ولاسيما هو قد قرأ المسرحية وعرف موليير خلال اكثر من مسرحية وشاهد له مسرحيات اخرى من المسرح الفرنسي ومن فرقة الكوميدي فرانسير بالذات وفي ذهنه تصور خاص وواضح عما رأى وتصور وغير واضح عما سيرى.. ان مسرحية (عدو البشر) تختلف الى حد كبير عن مسرحيات موليير الكثيرة الشائعة فماذا يمكن ان يقدمه المخرج (كورت يارش) وماذا سترسم المجموعة من ممثلي هذا المسرح العريق – مسرح الشعب- الذي يحمل فنانوه كفاءة عالية وقدرة تجلت في تجارب كثيرة تذكر على سبيل المثال (الانسان الطيب من ستسوان) التي قدمها بينو بيسون والتي تفاجؤك لوحاتها حين تدخل المسرح فتضطر الى اقتنائها والاحتفاظ بها كوثيقة فنية هامة..
امام عدو البشر توقفت متأملا المسرحية بعد ان صفقت مع من صفق بعد ان تقدم الممثلون للتحية.. ترى هل شاهدت مسرحية لموليير.. وبكلمة ادق مسرحية (موليرية) .. ام انني كنت طيلة العرض امام مسرحية تشيخوفية.. تحمل مرارة شخصياتها وابتساماتهم ذات المرارة ايضا وحركتهم البطيئة وايقاعهم الذي لا يخرج عن الاحساس العميق.. الذي اوجزه المخرج ايجازا بليغا.. حتى ضن علينا بالحركة والالتفاتة.. و.. كل شيء يذكرنا بمسرح موليير المعروف..
هذا كل ما سجلته وانا اغلق مفكرتي على اخر مسرحية اشاهدها في المهرجان.. املاً بمثل هذا العطاء المسرحي في مهرجان مقبل.. وقد يكون الايجاز فيما كتبت متأت من لحظات الفراق لبلد ومدينة ومسرح احببته عبر اكثر من عام وخلال اكثر من تجربة.. ربما فالرحلات السعيدة تبدأ على عجل وتنتهي على عجل!



















