ليلتان مع مهاجر

ليلتان مع مهاجر

الأمواج ترتفع

وجد نفسه بعد رحلة قصيرة لم تتعد ساعتين خارج أرضه وقد تملكه العناء وحوار الذاكرة على طول وقت الرحلة لم يكن وحده فقرينته متعلقة به في ايام فرحه وبؤسه هدفه من كل ذلك ايمانه بتغيير الاقدار لكي يحظى بالسلامة والامان والمستقبل الواعد تجاوز حدود أهاته النفسية وفارق كل شيء على أمل العودة الى بلاده بعد بضع سنين وقد تجاوز الخمس وثلاثين سنة كانت سنون ندم له ولمن عاش معه في ذلك البيت التي تصدر الحي في منطقته ليسوا بحاجة الى منبه يوقظه صباحا فصوت الانفجارات على موعد معهم وقد غادروا مائدة الافطار في صباح ايام كثيرة وهم قد اعتادوا على رؤية اللحوم التي مزقتها اسنان الحقد لم تسعفه ذاكرته على ان ينسى الكثير حتى بعد أن حلًت قدماه في تلك الارض التي عدًت خارج بلاده .

الانباء تتوارد عليه من هنا وهناك عن مصير من يريد مغادرة بلاده منها مايدخل السرور الى قلبه ويشعره أن هدفه قريب المنال ومنها مايحزنه . عدً مكوثه في اول بلد يدخله مكوثا موقتا فلا بدً من مغادرته الاموال التي يملكها أخذت تنفذ شيئا فشيئا حتى قلل طعامه واضطر الى ان يجد غرفة تأويه بسعر زهيد ولعله اعتمد على مايقدم له من مساعدات تلك البلاد فكان عليه ان يسرع في تنفيذ انتقاله باسرع وقت. كان متشتت الفكر في اختيار وسيلة الانتقال الى بلد أخر فكانت هنالك طرق متعددة منها مايوافق قانون الدولة التي فيها ومنها مايخالفها الطرق السليمة الموافقة لتلك البلاد تكون طويلة لايمكن الحصول عليها الا بوقت طويل فلابد له من البقاء كثيرا فلم يكن يفكر بها فلم يكن أمامه الا ركوب البحر والتوغل في جوفه وتحمل مصاعبه .

اقدار الموت التي أخافته وجعلته يتيقن بها وأمطار الدم التي لايعرف لها موسم كل ذلك في دوامة ذاكرته لايفارقه كل ذلك اصابه بالتعب والالم كان يسكن في تلك الغرفة ومعه رفيقة دربه مع طفلتين صغيرين لم تدركا بعد ماترسله الاقدار في المستقبل تحسان بدفء الابوين وهن يسترسلَنً في نوم عميق في ليلة تحيط بها الثلوج تزين لونها الاسود وقد طرزت الارض بالبياض الذي يكون أجمل بريقا عندما تعكس أضواء شوارع المدينة عليه .

رجل مرتقب

كان هم ذلك المهاجر أن تنقضي ساعات تلك الليلة حتى يبزغ فجرها ليلتقي بالرجل المرتقب تدور الاحداث عليه وهو يتأمل من نافذة غرفته المطلة على شارع المدينة التي يسكنها إبتعد نظره الى أضواء بعيدة جدا لايكاد يلمح الا شعاعاً لها لايستطيع أن يحدد ملامحه وهيكله وهو يستذكر بلاده .

على اطراف تلك المدينة وقبل بزوغ الفجر بساعتين يقف المهاجر منتظرا نظر عن قرب من احد الجوانب قاربا يقوده رجل ضخم الهيئة لاتكاد تظهر ملامح عينيه الداخلية لغورهما وصغرهما اكثر كلامه همسات وهمهمات في يديه يمسك قنينة تبدو من رائحتها انه نبيذ مسكر .

كان من التعليمات التي القيت منه الى المهاجر ان يكون له ولزوجته ولطفليه رداء لخوض البحر يَقيهم من امتداد أذرع الموت الراقدة في تلك البحار التي لاتعرف صديقا من عدو فلا خيار الا الابحار في سكون ذلك الفجر حيث العتمة في اخرها .

بدأ القارب يهتز معلنا بدء رحلته بعد ان سمعوا دوي صوت محركه وقد لوحظ مقوده يدور يمينا وشمالا الابحار يطول دون توقف ليوم وليلة ليعبر البلاد مبتعدا عن نقاط التفتيش المزروعة في مناطق متفرقة على امتدار البحر بعد عناء طويل وتحمل تلك الساعات الرتيبة أخبرهم قائد الزورق انه لم يبق الا ساعات معدودة وقد أشار لذلك حينما رفع كفه اليسرى .

الامل أخذ يرتسم على تقاسيم وجه المهاجر وهو ينظر الى زوجته بابتسامة ليعلمها بقرب المكان قابلته بابتسامة تجامله بها مملؤة بحز وخوف تتحسس بها المستقبل الحزين كانت زوجته تحس بشيء سيحل بهم يكون عارضا لوصولهم لبر الامان استغرقت في التفكير وقد قطعه قوة تلاطم الموج على الجدران الجانبية للزورق احس المهاجر ان الزورق اصبح اكثر سرعة من ذي قبل الامال قادته الى عالم اخر حيث الاستقرار والراحة والدعة لينسى الماضي وهو يغور في تلك الامال احس باضطراب القارب وشاهد قائده يكاد يفقد السيطرة عليه كل ذلك قاده ان ينظر الى وجوه الناس التي معه في متن القارب لم يعرف عددهم لكثرة التزاحم بينهم .

اخذت الامواج ترتفع من بعيد حتى دخل بعضها الى ذلك القارب واخذت تغير من مساراته فلولا الثقل الذي على القارب لانقلب استذكر الاخبار التي كانت تصله عن الموت الكاسح الذي يلتهم الناس في تلك القوارب النداءات المختلفة اخذت ترتفع الياس دبً الى قلبه وهو يخاطب الموج الكاسح :

رفيقا رفقا ايها الموج الهائم

هون على قلوب قتلها الضيم القائم

لعل اقدارنا تروينا من مائك الباسم

تبسمك قاتلنا فكيف بوجهك الغائم

الموج العارم أخذ يضرب القارب بشدة والجرف يُنظر له عن قرب فهم يرون اطرافه قلب المهاجر اتقد نارا وهو يحضن طفليه وزوجته لم يزل الموج هائجا حتى قلب ذلك الزورق على ظهره وكأنً شيئا قويا ضربهم وشتتهم لم يشعر المهاجر الا وهو على اطراف ذلك البحر وقد افاق من غيبوبته رفع رأسه ليرى وجوه كثيرة حوله يباركون له نجاته . الصوت ارتفع منه بشغف وانكسار ودموع تتدفق على وجنتيه :

ريحانتي …. زوجتي …. اخذ يكرر ذلك ….

نظر على جانبه الايسر ليجد أمراة غيرها الالم والخوف ولا تتحدث وهي تنظر له بحرقة وعيناها تقول :

– هذه الاقدار التي هربت منها …. انظر كيف اردتها ان تتقلب فتقلبت ولم تكن الا هي هي .

نظره اخذ يتحول بسرعة ويناشد مَنْ بقربه عن طفلتيه ولا أحد يجيبه وقد اجابه رجل قد خرج من ذلك البحر مرتديا لباس الغواصين يحمل اجسادهم بيديه وقد غادرت روحهما كالفراشة الى عالمها الحقيقي .

زاهد الحمزاوي – النجف

مشاركة