لندن تسكن الذاكرة ولا تطالها الخطوات – هدير الجبوري
منذ الطفولة وأنا أحمل حلماً يتجاوز حدود المكان الذي عشت فيه. حلم ظلّ يتكرر في خيالي كأغنية قديمة لا تفارق السمع: أن أرى مدينة لندن.
لم تكن لندن بالنسبة لي مجرد عاصمة بعيدة، بل كانت عالماً كاملاً صنعته الكتب التي رافقتني منذ صغري. ارتبطت في ذاكرتي بالقصص والحكايات التي كانت نافذتي الأولى على العالم، بصفحات شكسبير وتشارلز ديكنز وأجاثا كريستي ، وبصور الأمراء والملوك والضباب الذي يغمر المدينة في مشاهد ساحرة..
في طفولتي كنت أقرأ واعيد مرارا قراءة قصة بغلاف سميك ملون كان أسمها «إجازة ليلى في لندن»، عن الأطفال الذين يتزلجون على الجليد ويمرحون في حدائقها الواسعة، وعن الشوارع التي تغمرها الأضواء، وعن نهر التايمز الذي يشق المدينة ويمنحها سرها الخاص. ومع كل صفحة من كتاب، كانت لندن تكبر في داخلي أكثر، حتى غدت رمزاً مضافاً لطفولتي، وأمنية لم تتزحزح مع مرور السنين.
لقد ارتبطت صورة لندن في وعينا الجمعي أيضاً بالأدب الإنكليزي الذي شكّل جزءاً من ثقافتنا القرائية. قرأنا عن شوارعها في روايات ديكنز، وتخيلنا أبطال شكسبير وهم يتجولون في مسارحها، وتوقفنا عند قصص السير آرثر كونان دويل التي جعلت من شارع «بيكر» وشرلوك هولمزعنواناً للألغاز والخيال . وهكذا لم تكن لندن بالنسبة لنا مجرد مدينة أوربية، بل كانت مكاناً يختزن تاريخ الأدب، وفضاءً للخيال، وبوابة حلم مفتوحة منذ الطفولة.
وما يزيد من سحرها أنها مدينة تتعدد وجوهها: فهناك جسر «تاور بريدج» المعلّق فوق التايمز، يرمز إلى صمود المدينة وعراقتها، وهناك ساعة «بيغ بن» التي
لا يذكر اسم لندن إلا وتبادر إلى الخيال كأيقونة لا تموت. وهناك قصر «باكنغهام» ببواباته وحدائقه، حيث تُروى قصص الملوك والعائلات المالكة، وحدائق «هايد بارك» و»ريجنسي بارك» التي تمنح المدينة أنفاساً من خضرة وهدوء وسط صخبها. ولندن ليست حجراً فقط، بل هي نهر ممتدّ، التايمز، الذي شهد تاريخها وتحولاتها ووقف شاهداً على كل ما مرت به من حروب وأمجاد.
لكن، ما أقسى أن تتحول الأحلام مع الزمن إلى امتحان عسير. فالسفر إلى أوروبا اليوم لم يعد حلماً سهلاً كما في صفحات الكتب. حتى لو توفرت الإمكانية المادية، تقف أمامك جدران عالية من التعقيدات: تأشيرات يصعب الحصول عليها، موافقات قد لا تأتي، انتظار طويل قد ينتهي بلا جدوى. صرنا نشعر وكأن بيننا وبين العالم مسافات لا تُقاس بالخرائط، بل تُقاس بالقيود والحواجز.
لماذا صار السفر بالنسبة لنا أقرب إلى المستحيل؟ لماذا غدت المدن التي ارتبطت بذاكرتنا منذ الطفولة مجرد صور على الورق؟ أليس من حق القلوب التي حملت هذه الأحلام منذ الصغر أن ترى بعينيها ما رسمته المخيلة لسنوات طويلة؟
لندن، بكل ما تحمله من معالم تاريخية وثقافية وأدبية، ما زالت هناك، تنتظر زوارها. لكنها بالنسبة للكثيرين منّا تبقى حلماً مؤجلاً، نتنفسه من خلال الكتب والصور والأفلام، ونعيشه بالخيال أكثر مما نعيشه بالواقع. وربما سيظل حلم الطفولة مرتبطاً بها، لأنها لم تكن مجرد مدينة، بل كانت رمزاً للأدب والحكاية والخيال.
كلما تذكرت لندن، تذكرت طفولتي كلها: القصص التي كنت أقرأها، حكايات الأميرات والملوك، الكتب التي حملتني بعيداً عن حدود المكان، والخيال الذي كان أكبر من عمري. ولعل الحلم برؤيتها يوماً ما هو نوع من الوفاء لذلك الطفل الذي يسكن في داخلي، الطفل الذي ما زال ينتظر أن يقف على جسر لندن، يتأمل ساعة بيغ بن، ويجلس في هايد بارك، ويقول لنفسه: «لقد تحقق الحلم أخيراً».