ذكرياتي 28
لم أجد سلطاناً على اللغة أكثر وعياً وأجرأ تصرفاً من الطفل
عبدالرزاق عبد الواحد
{ كـيـف كـنـت تـكـتـب قـصـيـدة لـلأطـفـال يـا عـبـد الـرزاق؟ حديثي هنا حصيلة تجربة شديدة الخصوصية .. منابعها الأولى طفولتي في محافظة ميسان جنوبي العراق .. فبين أهوارها ، وشبكات أنهارها، ترقرقت مياه ينابيعي البكر منسربة في أنساغ أكثر من خمسين ديوانا أصدرتها ، معظم قصائدها مفعمة بالطفولة … وأحبها إلى نفسي ما كتبته للأطفال . أما روافد تجربتي فأغناها حين صرت أباً .. وأخصبها حين أصبحت جداً !. في أبوتي أقدمت على ماقلّ أن يقدم عليه إنسان . لقد سجلت لولدي وأبنتي البكرين صرختّي ولادتهما .. وتابعت صوتيهما وهما ينموان.. يناغيان ويهذيان .. يلّثغان ويكركران .. حتى أستقامت لغتهما ، كلاً على شريط مازال يحتفظ به منذ قرابة خمسين عاما. هذه التجربة أثرت معرفتي بلغة الطفل ثراء كبيراً وحين صرت جداً كنت قد أمتلأت أمتلاءً تاماً بخبرة هذه المتابعة ، فأغنيتها ، وطورتها مع أحفادي .. وقد كان هذا الثراء واضحاً في جميع شعري الذي كتبته للأطفال . أخر روافدي تجربتي هذه كان عملي في ثقافة الأطفال في العراق. مديراً عاماً لها.. هناك بدأت بتطبيق ماتوصلت إليه من معرفتي بالطفولة في كل مفرداتها لا في لغتها فقط . هنا أود أن أقول أن على الكبار ان يعلموا أن الطفل كثيراً مايكون أكبر منهم في بعض مدركاته ، فلا يعاملوه بالمصغرات ، بدءا باللغة، وانتهاء بالمعارف كلها . بدءاً بدبدوبي وأرنوبي ، وانتهاءاً بتبسيط المعلومات ، وتسطيحها له ، لتَّوهمنا بصغر أستيعابه . أن أكثر مايؤذي الطفل أن تثير لديه الإحساس بأنك تستصغره ، لأنه عندئذٍ يحس بعمق أنك تستخف به .. وعندها يرفض كل ماتقدمه إليه ، أو يقبله دون رضا حين تفرضه عليه ، ومايلبث أن ينساه ، أو يكرهه وينبذه !. لم أجد سلطاناً على اللغة أكثر وعياً بها ، وأجرأ تصرفاً فيها من الطفل أنك تعطيه المفردة ليتعلمها ، فيسقط من حروفها مايشاء ، ويقدم ويؤخر بين الحروف مايشاء، حتى تصفو له بأجمل مايشاء .. وعندئذٍ تكون مفردته أصفى من مفردتك ، وألصق بالنفس وبالأبداع منها !. قدمني مرة صديق لي إلى ولده الطفل قائلاً : هذا عمو عبد الرزاق عبد الواحد ، فمدَّ ذو الثلاثة أعوام يده إلي قائلاً : أهلاَ عمو واحد ! منذ ذلك الحين أصبح أسمي ، لا في عائلة صديقي هذا وحده ، بل حتى بين معظم أصــدقائي ومعارفي : عمو واحد ! كان أحد أحفادي ، في بدء نطقه ، يراقبني بدقة عجيبة حين أتكلم فيحاول أن يقلدني ، وكنت حين أسّر بشيء ، أكثر من ترديد كلمة ( جميل ) مع مدّ حرف الياء ، يوما ما كنت أتحدث بالبيت ، ويبدو أن حديثي أعجبه، وإذا به يهزّ رأسه بشكل مضحك وهو يقول : دميـــل ..!. / زارني بعد زمن مجموعة من أدباء الخليج ، وأذا بأحدهم يعقب على قول قاله أخر : دميل ، كما يقول حفيد الأستاذ عبد الرزاق … وضحكنا جميعا . بتأمل بسيط لتغيير حرف الجيم بحرف الدال عند هذا الطفل، نلاحظ أنه أختصر مسافة النطق مابين حرفي الجيم والميم ، فالميم حرف شفاهي ، بينما الجيم من مقدمة سقف الحلق ، وهو حرف ثقيل على النطق ، لذا أبدله بالدال من بين الأسنان لاحقاً بالميم . راقبوا لغة الأطفال ، ولاسيما في بداية نطقهم ، ستجدون أن الطفل يتصرف بحروف الكلمات تصرفاً عجيباً ، كله يؤدي إلى جعلها أكثر سلامة ، وأسهل على النطق . صديق لي كان له حفيد عمره سنتان ، فسألت الطفل : أين أبوك ؟… وكان أبوه غائباً ، فقال : (بالدامونيه) .. سألت جده الذي كان غارقاً في الضحك : ماذا قال حفيدك ؟ قال : في الديوانية .. (وهي أحدى محافظات جنوب العراق ) . أنظروا كيف تلاعب هذا الطفل بالكلمة حتى أستقامت له أسهل نطقاُ … ولماذا ؟ أن الاطفال ـ من خلال تجربتي في دراسة لغتهم ـ يميلون إلى نطق الحروف متسلسلة المخارج الصوتية من الشفاه إلى الحلق ، أو العكس . أما حين تتداخل مخارجها ، فأنهم يحاولون تصفيتها كما فعل هذا الصغير : ديوانيه .. الدال من الأسنان .. الياء إلى الوراء منها ، من سقف الحلق … ثم تعود الواو مندفعه إلى الشفاه ، ومع انفتاح الفم بالألف ينتقل الصوت إلى الأنف بحرف النون ، ثم إلى سقف الحلق مرة أخــرى بحرف ألياء والهاء الساكنه. شفتيه منطلقاً بالألف ، ثم عاد لإطباقهما مضيفاً حرف الميم من عنده ليكون معبراً إلى الواو الشفاهي أيضاً ، ثم إلى الأنف الأقرب إلى الشفتين لينطق حرف النون ، وينزلق منه أخيراً إلى سقف الحلق ليلفظ الياء المفتوحة ، والهاء الساكنة . ولو عدنا إلى المقارنة بين الكلمتين ، لرأينا كم كانت (ديوانيته ) ملتوية النطق ، وكم جعلها هذا الطفل ، بسليقته ، ودون وعي منه ، بهذه السلامه (دامونيه). والطفل سلطان على اللغه … يستخرج منها مايشاء ، ويصرفها كما يشاء . مرّة كان ولداي الصغيران يلعبان في حديقة البيت .. كان أصغرهما في الثالثة من عمره ، والأكبر في الخامسة . كانت لديهما ( زحليقة ) حديدية صغيرة ، وقف الأكبر في وسط سلّمها قاطعاً الطريق على أخيه الذي كان يحاول صعود السلم ، فبكى مستنجداً بي . قلت : بابا ماجد .. بالك عنه ، و( بالك ) في العامية العراقية تعني ( تنّح ) .. تحرك ماجد مسافة لم تسمح بمرور أخيه الذي عاود البكاء ، فصحت به غاضباً : بالك عنه .. فردّ عليّ غاضباً : (مو بالكيت )! ! انفجرنا أنا وصديقي الشاعر الذي كان جالساً معي ضاحكين .. قال صديقي : فرخ البط عوام ! .. قلت : لا والله يا فلان .. إنه سلطان الطفولة وهو أجرأ من سلطان الشعر ! كتبت ذات يوم موضوعاً نصحت به شعراء قصيدة الطفل ، وشعراء الأغاني أن يستفيدوا من هذه الظاهرة الطفولية وهم يكتبون ، فينتقوا – جهد الامكان – كلمات غير متداخلة مخارج الأصوات ، وغير مثقلة بالحروف الجارحة . هنا أكون قد وضعت اللبنة الأولى في بناء قصيدة الطفل : المفردة . سلاستها ، ووضوحها ، وسهولة النطق بها ، وخلوها من الحروف الثقيلة. أقدر البشر على تلحين ما لا يمكن تلحينه من الكلام هو الطفل .. لقد رأيت من نماذج ذلك ما جعلني أعتقد أن معظم ما كنا نردده أيام الطفولة من أغاني الأطفال هو من كلمات الأطفال أنفسهم ، ومن تلحينهم أنفسهم . إنهم يلعبون لعبة ما ، ويؤلفون كلاماً قد يكون بلا معنى ، ولكنهم يلحنونه ويلعبون على إيقاعه : طُوط لَلي طوط لال علْ مكتبي علْ بطالْ طالْ .. طالْ طالْ طالْ أعتذر هنا أنني أستعمل أغاني الأطفال الشعبية كنماذج لما أريد التوصل إليه ، لأن الطفل لا يستطيع أن يؤلف شعرا باللغة الفصحى .. وهذه الأغاني لم تؤلف لهم ، بل هي من تأليفهم هم أنفسهم . في هذه اللعبة تنقسم مجموعة من الأطفال إلى فريقين متساويين في العدد .. يدخل أحدهما وسط دائرة مرسومة على الأرض ، ويبدأ أفراد الفريق الثاني بالدخول عليهم واحدا واحداً بهذه الأغنية. يبدأ اللاعب الداخل على المجموعة بغناء الأغنية ، بعد أن يسحب نفساً عميقاً من الهواء قبل دخوله، مستمرا بترديد ( طال طال ) محاولا أن يمّس أي فرد من أفراد المجموعة المحصورة في الدائرة ، وكلما مسّ واحداً منهم أخرجه من اللعبة .. بينما بحاول أفراد الفريق المحصور في الدائرة الامساك به، ومنعه من الخروج منها حتى ينقطع نفسه ويتوقف عن الغناء ، عندها يخرج من اللعبة. هنا ننتبه إلى أمرين : الأمر ألأول : إيقاعية الكلمات ، وسهولة النطق بها بسبب انسيابيتها العجيبة . الأمر الثاني: خلّوها من المعنى ، مما يعزز فكرة أنها ألفت لكي تكون رديفاً صوتياً للعبة لا غير . قمَندارْ الله الستارْ لعبة أخرى مشابهة . ! أجمل من هذه ، وأكثر منها شعرية، الأغاني الجماعية التي يغنيها الأطفال في المناسبات الخاصة ، ولاسيما في ليالي رمضان : في إحداها يطوف الأطفال جماعات على البيوت ليلاً .. يقفون بأبوابها وهم يغنون ، سائلين ربّة البيت أن تمنحهم شيئاً : مدّي ايدج مدّي ايدج الله يخلّي وليدج مدّي ايدج للمرضعه الله يخلّي الأربعة مّدي ايدج للفلوسْ الله يخلّي المحروسْ وينسجون كل ليلة إضافة جــديدة بقافية جديدة، وطلب جديد ! عالي يعلي عالي بوُ كبّة وريش عالي يمام الدّرويش عالي جينَة نزوره عالي نحبّ ستورَه عالي الملاحظة الأولى على هذه الأغاني انها جماعية جماعية تساعد على اللعب بل إنها كتبت رديفاً له . الملاحظة الثانية أنها لا تهتم بمعنى الكلام قدر اهتمامها بإيقاعه .. الأوزان والقوافي . الملاحظة الثالثة أنها غالباً ما تنتهي بكلمة (قفلة) ترددها المجموعة كلها في نهاية كل بيت . ترى هل جرب شعراؤنا الذين يكتبون للطفل مثل هذه التجربة ؟ .. أن يكتوبوا له قصائد لعب جماعية يرددها وهو يلعب ؟ . أنا فعلت ذلك : كنا أيام طفولتنا نلعب لعبة جماعية .. نجلس على الأرض على شكل حلقة يقودها واحد منّا ، ثم نبدأ بالنقر على الأرض بسباباتنا بصورة متوالية قائد اللعبة يهتف : طار العصفور فنرفع جميعا أيدينا التي ننقر بها صائحين : طرنا وراه طار اللقلق .. طرنا وراه . طار الخروف . كل من يغفل فيرفع يده يخرج من اللعبة حتى يبقى واحد فقط فيكون هو الفائز: الديك في السما طار طار غُراب مصطفى نعم طار والنسر طار واختفى نعم طار والماء والبساتين ما طارت طارت خِراف ياسين ما طارت ومن لديه منقار طار طار الديك في السما طار لا ما طار وعندنا صديقه تلعب في الحديقَه



















