لصوص – نصوص – مزهر جبر الساعدي

قصة قصيرة

لصوص – نصوص –  مزهر جبر الساعدي

واجهني الفراغ , بالكاد ساعدتني عيوني بالتجول في مكاني . من الطبيعي أن أعاني من خذلاها لي بارتجاف أجفانها, سببت قلة تركيزي, بعد ليلة من السهر والسكر والحزن. أشد بقوة أعصاب عيوني لأنظر إلى الطريق, لم تطرد الشمس منه الظلام, فأعمدة النور لا تزال تقوم بدورها في أضاءته, إضاءة الطريق فقط .

حين عادت عيوني بمسح ما حولي, صعد منها إلى دماغي, تيار صاعق من كهرباء شبكة أعصاب رأسي, فولدت في مخي, اهتزازات عنيفة, كادت أن تطيح به, لولا تماسك إرادتي وسيطرتي على انفعالاتي .رغم أن ما كان, لا يمكن تصديقه, صدمني, جعل فاهي فاغراً, أقرب الى البله منه الى التفكير, أستمر وضعي هذا لحظات, بعد ذلك, أستقر رأي بضرورة تحريك سيفيريومن وضعه الثابت . لم يستجب لحركاتي والتي تحولت الى نداءات متتالية, ألا أنه ظل على ما هو عليه . بعد أن مللت, تراجعت متفكراً, بانتظار أن يشاركني في الاجابة على سؤال محير, أنتجته هذه الحالة التي امامي . أخيراً, بعد هذه المحاولات غير المجدية، لم يستيقظ, تركني في الفراغ المريب حولي, مستمر في التفكر فيه، لم يخلصني من همي إلا خزين رأسي.أسمعني صوت سيفيريو,إذ أجابني بعد اعتذاره عن تأخره في الرد, مبيناً أن هاتفه الجوال في مكان آخر, بعيد عنهُ . ثم حدد اللقاء وتم فيه الاتفاق على المشاركة بيني وبينهُ, من ثم, أصبحنا جاهزين , بعد أيام, على توقيع العقد من قبلنا مع كرستين, في مقهى مطل على ساحة. المقهى, هي اختارته. التوقيع لم يكن سهلاً أبداً , وللأمانة أنا من أصر عليه لحاجتي إلى مورد مالي , أما هو صديقي فقد كان متردداً , وافق بسبب أقناعي لهُ ولمساعدتي كما أوضح لي بعد ذلك. الصعوبة التي واجهتنا في توقيع العقد, تتعلق بكرستين  صاحبة المطعم , أصرت على دفع مبالغ كبيرة كثمن للأثاث وايجار عالي . بينت:ــ أنها مضطرة الى تركه , لتتفرغ  للعمل بعد التخرج , كمديرة مكتب لمسؤول شركة متخصــــصة في نقل جرحى الحروب وجثاميها  .

في ذلك الوقت ( من الضروري أن يعرف القارئ من أني أكتب الآن عن الحادثة بعد سنوات من وقوعها )

كانت كرستين طالبه في المرحلة الأخيرة في قسم الدراسات الشرقية في كلية الآداب , تفصلها أيام عن الامتحانات النهائية .

ألتقيتها صدفة قبل حكاية المطعم بفترة , عرفتني شتاين بها , طالبة معها . علاقتي بشتاين علاقة استاذ وطالبة , أعطيتها دروس في اللغة العربية والأدب في العراق .

دخلنا عبر الباب الزجاجي الدوار إلى المقهى , أمام الواجهة الزجاجية المفتوحة على ساحة عامة , من الساحة ينفتح طريق إلى البحر , طريق عريض بعدة مسارات , ينتهي في قاعدة بحرية . لا زلنا واقفين لم نجلس بعد, لأن كرستين كانت تؤشر على خارطة للكرة الارضية معلقة عل الجدار الايمن للمقهى . من وقفتي في مكاني وبخط مستقيم وبدون عوائق لأن المنطقة خالية ما بعد الظهيرة , هي أصلاً الحركة فيها قليلة جداً . أبصرت البارجات وحاملة الطائرات وأخرى تبحر في البحر متجهة ، إلى أين ؟ سألتني , أقلقني وألمني سؤالي , أخذنا مقاعدنا , حول طاولة قرب الواجهة . كرستين بدأت باحتساء النبيذ الإنكليزي ، طلبتها من النادل. على خلاف ما نحن أردنا، قلنا:ــ  أأتنا بالبيرة الألمانية. كرستين بعد أن احتست عدة زجاجات، تدفقت بالحديث, حديث غير مترابط , تداعي حر, عنها وعن النبيذ الانكليزي:ــ هذا النبيذ يعيدني إلى جذوري .أبي إنكليزي الجذور, ورث عن أجداده, مقاطعه كبيرة , هنا في أمريكا, أبي لا يشبع تقول أمي . قبل عقود وظف ما يملك من مال, مع قرض كبير جداً من البنك , بضمانة المقاطعة, في مشاريع نفطية, خارج الحدود, من سوء الحظ, خسرت الشركة، **********

عند هذه الكلمة، أنقطع قولها عني، حل مكانه في آذاني، تعليقوالد ببيانو، سيفيريو, صاحبي وشريكي

ــ هذا لا يحدث لشركات النفط أبداً ،حاله نادرة, نادرة جداً .

ــ لكني لم أعرف الأسباب منها، لأنك شغلتني عنها.

ــ لا عليك، فقط، أنتبه الآن، وأسمع :ــ

المهم خسرنا كل شيء باع أبي المقاطعة لصالح البنك, لم يتحمل, مات , ترك بناية متواضعة, فيها مطعم أديره الآن بعد أن ماتت أمي قبل سنة .

 أفكر بجدية وبعزم على أعادة مجد أبي (تلك النتف القليلة من حديث كرستين خلال أكثر من ساعتين هي ما ظلت ذاكرتي محتفظة به إلى الآن . كتبتهُ بطريقتي دون أن احذف أو أضيف مني, كلمة, إليه . لم أعلم أسباب ومكان خسارة الشركة التي ساهم أبوها بكل ما يملك من مال فيها، حتى لحظة كتابتي هذه .

(عرفت أسباب أخرى لا علاقة لها بشركة النفط, طبعاً بالإضافة إلى أسباب الشركة, والتي بمجموعها أحدثت الخسارة الكارثية. أطلعت على ذلك من خلال قراءتي للنصوص التي أعطتني إياها شتاين، قصص كتبتها أُمها. قالت:ــ أريد أن تتكرم بترجمتها ونشرها في الصحف العراقية, والتي بينتها في قصة سابقة, ستظهر إن شاء الله لاحقاً, قصص والدة شتاين).

الآن أنفتح أمامي الطريق، ظهرت معالم البنايات العالية،إذ أخذت الشمس تطرد بقايا ظلال الليل.سيفيريولا يزل ثابت بلا حركة ,إلا صوت تنفسه العالي والذي تحول إلى شخير . ما  أتعبني, وضعي المادي, بعد هذه الحادثة . سألتني:ــ كيف أتدبر حالي وأبحاثي ومناقشاتي لرسالة الدكتوراه في الاثار, لم يبق غير أيام .

أسمع صوت سيفيريو يركض بين تلافيف دماغي:ــ  تركت وطني ، دفعني الخوف إلى الهرب من عصابات بينو شت, زوجتي توفيت قبل سنين, وأبني ببيانو, عمرة آنذاك خمس سنوات. ثم أنقطع صوته ليحل مكانه, صوتي, تدفق من عمق عقلي :ــ أنت,يا أنت, ألم تهرب في الليل من مستشفى الرشيد العسكري , ترتجف من الخوف, لا تزال تعرج, رغم شفائك كما قال في الصباح الطبيب, عمر يصيح فيك:ــ أهرب, أتخذ الليل ستاراً وأخرج من هنا, صدقني سيأخذونك, ربما بعد دقيقة أو ساعة, أهرب …

تفكر في الطريق, وبين الازقة والدروب التي مررت بها ودراستك للدكتوراه في الآثار, المشرفة الأستاذة النخلة, تلوم نفسك:ــ ماذا تقول عني, تركني ولم يكمل معي, في أعداد رسالة الدكتوراه في الآثار . تزفر وتطلق من فاهك هواءً حاراً في وجه الظلام .

ــ أين أنت؟ سألني

ــ لم أجب .

أتذكر الآن، عندما سألني ولم أجبه، كانت الوقت قد تجاوز منتصف الليل بساعتين. لأنه قبل ذلك،حين فرغ المطعم من الزبائن، وبدأت جلستنا . أطفأ الأضواء, حلت الظلمة شفيفة في أرجاء المطعم .بعد أن انتهت سهرتنا، نمنا على الكراسي جالسين . أمامنا, على المنضدة عدد لا يحصى من قناني البيرة .

ــ ضمير, المطعم فارغ, لا شيء فيه, حتى منضدتنا وقناني البيرة الفارغة سرقوها قال عندما فتح عيونه

ــ أخيراً صحوت يا سيفيريو, قبل ساعة من الآن فتحت أنا  بالكاد عيـــوني, وقعت على فراغ .

ــ لنبلغ الشرطة, قال:ــ

ــ أعطني جواب لهذا قلت لهُ

ــ أنا هنا منذ عام 1973, ذلك لا يحتاج إلى البحث عن الإجابة, الإجابة موجودة , في واقع الحياة هنا, في أمريكا, إنهم لصوص …, أعني بينهم الكثير من اللصوص ……إنهم ناتج نمط علاقة المال بحياة الناس ……….

وأنا أنتهي من كتابة هذه القصة, فكرت مع نفسي هل تستطيع كرستين بعملها الحالي وما ورثته من أبيها أن تعيد مجده المالي أجبتني بلا تردد وبيــــــــقين ثابت :ــ لا تستطيع أبداً لا تستطيع لأن ما كان غير ما هو كائن …