مرور قرن على رحيل الأديب 1-3
كورولينكو.. ضمير روسيا وصوت المعذبين
عبد الجبار ناصر
“لم ألتق من قبل، من بين جميع المثقفين في روسيا، رجلا يحمل كل هذا
التعطش للحقيقة والعدالة مثل كورولينكو. إنه يلح بقوة على ضرورة
تجسيد الحقيقة في الحياة.. كورولينكو أكثر الكتّاب الروس صدقا، وهو ذو
قلب كبير مفعم بالحيوية.. رجل نادر في جمال روحه وثباتها.
إنه بطل الطريق الشائك.”
مكسيم غوركي
يرى الكثير من النقاد أن الأدب وسيلة الفن في التعبير، ومصدر المعرفة، ووسيلة للمتعة، توقد فينا الأعمال الأدبية الراقية من شعر ورواية ومسرحية أفكارا جديدة، وتمنح صوتًا لمن يرغبون في التعبير عن آرائهم حول قضايا معينة في الحياة – سواء كانت في السياسة أو الصحة أو الدين أو ما شابه. الأدب قلب الأغاني والقطع الإيقاعية والمتناغمة التي تقدم إلهاما للناس. إنه يفتح أعيننا ويجعلنا نرى أكثر وأعمق، وبهذا يعيننا على إدراك العالم الواسع في الخارج ونبدأ بالتعلم، ونطرح الأسئلة، ونبني حدسنا وهواجسنا ونوسع آفاق أفكارنا.
يركّز الأدب على العديد من الموضوعات من مآسي البشر إلى قصص الحب والبحث عن السعادة، وكلماته تنبض بالحياة في خيال العقل، كما يمكننا من رؤية العالم بعدسات عيون الآخرين، وهو رحلة في داخل النفس البشرية مدعومة بخيال القارئ.
تعتبر التجربة الإنسانية الجانب المهم والأكثر الحاحا في الأدب، فقراءة الأعمال الأدبية وما ترسمه من شخصيات، تتيح لنا، كقرّاء، الوصول إلى كنوز من التجارب البشرية التي قد لا نعرفها، من
خلال فعل القراءة، نطلع على عمق أفكار شخصيات القصة أو الرواية، ومشاعرهم ودوافعهم.
العلاقة بين الأدب والخبرة علاقة متبادلة، وكما تسمح لنا الأعمال الأدبية بالمشاركة في تجارب الآخرين، فهي تساهم أيضا في تشكيل وتغيير مواقفنا وتوقعاتنا، كما أن معرفة سبب اعجابنا بشخصية واحدة وليس بأخرى قد تخبرنا عن نوع الشخص الذي نتمناه أو الذي نطمح إليه.
من علامات العمل الأدبي “العظيم” قدرته في التأثير على القارئ. وما يميز الأعمال الأدبية عن الأشكال الأخرى للتعبير الفني هو اعتمادها على البنية والأسلوب في اللغة. “يستجيب القراء ذوو الخبرة والحساسية للكلمات المختارة بعناية، على الرغم من أن الكثيرين لا يدركون في البداية ما يستجيبون له بالتحديد، أو لماذا، وعندما تكون هذه الاستجابة إيجابية، نتحدث عن إحساسنا بالبهجة أو السرور، بالطريقة نفسها التي يكون فيها رد فعلنا إزاء لوحة تشكيلية أو تمثال أو مقطوعة موسيقية. إذا دفعنا اهتمامنا أبعد، نحاول عندئذ تحليل ردنا، وبذلك نكون قد تحركنا في اتجاه النقد الأدبي”
حين نستعرض الأنواع الأدبية، سنجد أن الرواية هي من “أكثر أنواع الأدب التي تبرز حياة الإنسان في تفاعلها مع الظروف الحياتية، وتصوير الحقبة الزمنية المرافقة للشخصية من أهم الأهداف التي يضعها الروائي نصب عينيه”.
إذا تحدثنا عن الآداب العالمي فإننا بالتأكيد سنجد “أن الأدب الروسي أحد أغنى آداب العالم، فإسهامه في تاريخ الثقافة الفنية للإنسانية” فريد فرادة المسيرة التاريخية لروسيا. لقد عكست أعمال مبدعيه التجربة الحياتية للشعب الروسي، فلسفته، أخلاقه ونظرته إلى العالم والوجود في الأطوار التاريخية المختلفة.
لكن روسيا لم تحظ لم بتلك العظمة الثقافية قبل القرن عشر، بل كانت أقل مما هو عليه الآن بعض بلدان العالم المتخلفة، حتى أن روزا لوكسمبورغ شبهتها بجزر سليمان في المحيط الهادئ. كتبت لوكسمبورغ عام 1918 وهي في السجن قبل أشهر قليلة من مقتلها: “كانت روسيا، في جميع العصور الوسطى وحتى الثلث الأخير من القرن الثامن عشر، مغلفة بصمت أشبه بصمت السراديب، وظلام وبربرية. لم تكن لديها لغة أدبية مهذّبة، لا أدب علمي، لا دور نشر، لا مكتبات، لا صحف، ولا مراكز للحياة الثقافية. كان تيار عصر النهضة قد غسل شواطئ جميع البلدان الأوروبية الأخرى، وأزهرت بفضله حدائق الأدب العالمي، وهبت عواصف الإصلاح الصاخبة، وتصاعد اللهاث الناري لفلسفة القرن الثامن عشر، لكن روسيا كانت خارج ذلك كله. لقد أغلق القياصرة كل النوافذ أمام أشعة نور الثقافة الغربية، وحالوا دون أن ترسخ التربة العقلية بذورها. كان حال روسيا مثلما عليه جزر سليمان أو نيو هيبريدس”.
حدث معجزة
تضيف لوكسمبورغ لكن حدث شيء أشبه بالمعجزة، فبعد عدة محاولات متعثرة في نهاية القرن الثامن عشر، أيقظت الحروب النابليونية في الروس وعيا وطنيا للتخلص من براثن الذلة والمهانة. لقد أدى انتصار الحلفاء على المغامر بونابرت إلى توجه المفكرين الروس نحو الغرب، نحو باريس بالتحديد، وجعلهم على اتصال بقلب الثقافة الأوروبية. كان من نتائج الاتصال أن ازدهر الأدب الروسي، وفاضت أعماله “جامعة بين اللحن الإيطالي، والمروءة الإنجليزية، والنبل والألماني”، بثروة من المواهب والجمال المشع والفكر والعاطفة. فجأة، كان الأدب الروسي يقفز كالأسد تعويضا لإهمال قرون طويلة وسعيا للوقوف مع الأدب العالمي على قدم المساواة. السمة الرئيسية لهذا الظهور المفاجئ للأدب الروسي هو أنه ولد من المعارضة للنظام القيصري القائم، وصبغت هذه السمة القرن التاسع عشر بأكمله.
أحتل هذا الأدب في ظل تلك الدولة الاستبدادية، الأوروبية الآسيوية، مكانة في الثقافة العالمية. الإبداع الأدبي اخترق السياج العالي الذي أقامه الحكم المطلق، وبنى جسورا للاتصال بالغرب، ولم يظهر الروس حينذاك كمتلقين فقط، بل ومبدعين، ولم يكونوا تلاميذ فقط، بل أساتذة يُشار إليهم، ويكفينا دلالة الإشارة إلى أسماء ثلاثة: تولستوي، وغوغول ودوستويفسكي.
تقول روزا لوكسمبورغ: ” يصف كورولينكو أباه، الموظف الحكومي في زمن القنانة، بأنه ممثل نموذجي للشرفاء من ذلك الجيل. لم يشعر والد كورولينكو بالمسؤولية إلا عن عمله الخاص، أما الإحساس بالظلم الاجتماعي فقد كان غريبا عليه، لأنه كان يرى أن النقد يتوقف عند حدود “الله، القيصر، القانون”. وبصفته قاضًا متميزًا، كان يتفانى في تطبيق القانون بأقصى درجات الدقة. “أن القانون نفسه قد يكون غير فعال عندما يتعلق الأمر بمسؤولية القيصر أمام الله. فقد كان، والده القاضي، محدود المسؤولية عن القانون، مثلما هي الحال بالنسبة لبرق السماء، الذي قد يصعق في بعض الأحيان طفلاً بريئًا … “
في منتصف القرن الثامن عشر، كانت طبقة الموظفين ترى أن الظروف الاجتماعية أساسية ولا يمكن زعزعتها، فهم قد أدركوا أن بمستطاعهم الانحناء فقط عند شدة الاعصار، لأنهم كانوا آملين ومنتظرين مرور الشر. يقول كورولينكو: ” نظرة العالم مصاغة في قالب واحد، نوع من توازن الضمير الذي لا يطاق. لم تقوض أسسهم الداخلية من خلال التحليل الذاتي؛ فالناس الشرفاء في ذلك الوقت لم يعرفوا هذا الصراع الداخلي العميق الذي يأتي مع الشعور بالمسؤولية الشخصية عن النظام الاجتماعي برمته “.
بداية مرحلة
يُنظر إلى عام 1855 على أنه بداية مرحلة الأوج في تطور النثر الواقعي الروسي إذ اكتسب أهمية سياسية بغياب القيصر نيكولاي الأول عن المشهد، وأهمية أدبية عندما طرح تشيرينشيفسكي فيلسوف وناقد وثوري روسي، وكان زعيم الحركة الديمقراطية الثورية في ستينيات القرن التاسع عشر، وكان له تأثير على فلاديمير لينين، أفكاره المبنية على افتراضات تقول “الجميل هو الحياة”، وأن الفن، بكل معنى له، تابع للواقع وخاضع لتأويل عقلاني.
مرت روسيا، تحت ظل قياصرة مختلفين، بفترات من الحرية الأدبية العظيمة، وأحيانا أوسع مما كان في معظم الدول الغربية، لكن تلك الفترات تخللتها مصادرة مطبوعات ومطاردة قاسية للمثقفين. ولو قارنا أحوال اتبين متشابهين لوجدنا حظيهما متباينين؛ غوغول، الذي تم الاحتفال به خلال حياته، حتى أن القيصر نفسه تدخل للموافقة على طبع بعض أعماله الساخرة، ودوستويفسكي، الذي تعرض للاضطهاد وكاد أن يُقتل على يد الدولة.
حافظ الأدب الروسي الواقعي في النصف الثاني من القرن التاسع عشر على تألقه على الرغم من الاضطراب الاجتماعي والسياسي الذي بدأ في سنوات الأربعينات من ذلك القرن أثناء حكم نيكولاي الأول 1825-1855. في خضم تلك الأوضاع المتردية، رفع الناقد الأدبي بيلينسكي 1811-1848 راية الإصلاحات بدعوته الكتّاب إلى الاقتراب واقعيا من المشاكل الاجتماعية في البلاد، مثل نظام القنانة وما شابهه، وإدراك دورهم الطليعي كمنتقدين للنظام الاجتماعي القائم. وتحولت تلك الدعوة فعلا إلى أعمال أدبية جبّارة، حتى قيل في أوروبا إن الأدب الواقعي الروسي قدّم “حكومة بديلة” للإملاءات القيصرية.
شملت الخصائص العامة للواقعية الروسية في القرن التاسع عشر: الرغبة في استكشاف الحالة الإنسانية بروح من التحقيق الجاد، مع عدم استبعاد الفكاهة والسخرية، الميل إلى وضع أعمال خيالية في روسيا في ومن الكاتب نفسه على أن تنطوي على تفاصيل واقعية، التأكيد على الشخصية وجو العمل الفني بدلاً من التركيز على الحبكة والحدث، التسامح الأساسي مع الضعف البشري والشر. لقد بدأ الواقعيون الرواد في أواخر أربعينيات القرن التاسع عشر نشر نتاجاتهم الأدبية، ومنهم: إيفان تورجينيف، إيفان غونتشاروف، فيودور دوستويفسكي، الكونت ليو تولستوي، الكاتب المسرحي اليكسندر أوستروفسكي، الشاعر نيكولاي نيكراسوف، والروائي والمفكر السياسي اليكسندر هيرزن.
على الرغم من ظهور بعض الأعمال الأدبية العملاقة، إلا أن روسيا في أربعينات القرن التاسع عشر ظلت تفتقر إلى الحركة الأدبية العام. لكن، كما ذكرنا، فقد نثرت بذور الحركة الواقعية تحت وصاية بيلينسكي بمساعدة من نيكولاي غوغول، الذي انتقل من الرومانسية إلى واقعية مصاغة بأسلوب خاص به. كان غوغول مشهورا بالقصص القصيرة التاريخية مثل “تاراس بولبا” عن حياة القوزاق، بعمله الساخر “المفتش العام”، بروايته “النفوس الميتة”، وبحكاياته عن سانت بطرسبرغ، ومن ضمنها “المعطف” وهو العمل الأدبي الفائق كما وصفه بيلينسكي.