قصة قصيرة

قصة قصيرة
بعد فوات الأوان
وحيد شاب وسيم في العشرين من عمره . معتدل القامة جميل الطلعة . ذو وجه يحمل عينين ملونتين . يرتدي أحسن وأثمن الملابس . يرتاد المطاعم والنوادي الليلية الراقية . لا هم له غير اللهو والسهر . يفتش عن اللذات أينما كانت . مدلل من أبويه بشكل مفرط لأنه وحيدهم من الأولاد الثلاثة الذين اقتطفهم الموت قبل الأوان .شب فاقد الرجولة . مايع الشخصية . لم يواصل دراسته فقد ترك المدرسة في المرحلة المتوسطة . له أصحاب كثر . لأنه غني وذو ثروة لم يتعب بتحصيلها . يلهون معه فينفق عليهم بسخاء من أموال والده الوفيرة التي لم يبخل عليه يوما .
عاش وحيد مع رفاق السوء وكل يعمل على شاكلته – فهم يلهثون وراء المال والمتعة . يزينون له مسالك الشر والفساد والتفسخ الأخلاقي الذي يؤدي به إلى السقوط -من حيث لا يدري –
كان أبوه من تجار المدينة . معروفا في الأوساط الاجتماعية مستقيما في تعامله مع الآخرين . سمعته طيبة بين الناس . يسكن مع عائلته , زوجته وولده وحيد وابنتيه نعيمة وسليمة اللتين حرمتا من دخول المدرسة . وعاشتا الحرمان العاطفي منذ الصغر بسبب تفضيل الولد عليهما والأهتمام به . وهذه عقلية المدرسة القديمة . فقد ألقى حبله على غاربه فلم يتابعه بل تركه حرا في تصرفاته . يعمل ما يشاء . ولم يحمله مسؤولية اجتماعية أو تجارية . أو عملا يشغله عن ملذاته .. اعتمد على عمال المكتب في أنجاز أعماله كافة .
لامه أصدقاؤه على ذلك السلوك الخاطئ بتربية ولده وبينوا له أن الدلال من أسوأ أساليب التربية للأبناء . يجعلهم اتكاليين . كسالى . يعيشون بلا هدف . ويؤدي بهم الى أضرار عديدة . ومن ثم ينعكس ذلك على العائلة والمجتمع . ويجعل الأولاد عاجزين عن مواجهة مصاعب الحياة .. ويصبح الولد في المستقبل أثما على والديه .. وكل ما يفعل الأبناء من أخطاء يرجع الى تصرفات خاطئة من الآباء .. فيعترف الأب بخطئه ولكن ( سبق السيف العذل ) .
عاد وحيد في عصر يوم من ايام الربيع الجميلة . كان قد قضاه مع أصحابه في نزهة للصيد واللهو . دخل الدار وهو متعب فوجد غرفة الضيوف مكتظة بالناس من مختلف الطبقات .فوقف مبهوتا ودق قلبه دقة عنيفة وقال باقتضاب وهو يكابد شعورا غليظا بالتشاؤم والخوف : ما هذا الجمع الذي يخيم عليه الصمت ؟ فأجاب العامل مسعود لا شيء .. لا تخف .. والدك أصيب بألم مفاجئ في قلبه .. والدي : قالها وقد تطاير الشرر من عينيه .. وحملق في وجه مسعود .ولم يتمالك نفسه حتى هوى على الأرض لا يفوه بكلمة .. حمله العامل الى غرفته .. ووضعه على سريره .. مضت فترة حتى أفاق من غيبوبته . ونهض من فراشه ونادى : مسعود – مسعود – كيف حال والدي ؟ وطلب أعانته للوصول لرؤيته ليطمئن قلبه . فلما دنا منه . صاح والدي : والدي : ما من جواب . لم يتكلم والدي .. دكتور ؟ إهدأ إنه في حالة اغماء أجاب الطبيب .وخلال دقائق معدودات .. زلزلت الأرض زلزالها . وقال وحيد ما لها .. فقد صعد السر الألهي الى بارئه .
نظر وحيد الى وجه الطبيب وقد تغير فعرف كل شيء فبكى ولطم وجهه وبكى الحاضرون وحزنوا ..استسلم للأمر الواقع . انتشر الخبر في جميع أنحاء المدينة .واحتشد الناس في الشارع واكتظت حديقة الدار بالمعزين الذين بدت عليهم أيات الحزن والألم والأسف على مماته . ولأن خلفه لا يعوض السلف.
حمل المشيعون الجنازة مسافة يكبرون ويستغفرون حتى أوصلوها الى السيارة لنقلها الى مثواه الأخير في مقبرة وادي السلام .. وأقيمت المراسيم المعروفة .. وشارك أصدقاؤه وأبناء البلدة والأقارب في الحضور .. وانتهت فترة العزاء . أنسابت الأيام والشهور . واندمج واحدها بالآخر , والعائلة في حزن وألم مريرين . استفاق وحيد من صدمته وتوجه الى أمه وأختيه يهدأ من روعهما ويشاركهن الأحزان .. وطلب التعاون معا في تسيير الأمور . فأبدت أمه توجيهاتها له . وضرورة تسلم المهمة .. وواصلت معه الحديث عن القضايا المالية والتجارية ومسيرة والده مع التجار الآخرين .. وسلمته سجلات الحسابات والديون .
بدأ وحيد حركته ببطء لجهله بالمهمة الجديدة التي ألقيت على كاهله . وسار بادئ ذي بدء بخطوات .. عرف نفسه بها لأصحاب أبيه . وشاركهم في الأعمال واستوفى ديون والده من الآخرين .
لكنه وهو شاب قليل الخبرة والتجربة وفي سن شبابي لا تروق له الحياة مع أولئك الرجال المحنكين ولم يتعامل مع هذه المستويات الناضجة من قبل . بل كان شابا معاقرا للخمر . مطاردا للنساء . منغمسا في لذاته ورغباته مع زمرة من أبناء السوء والرذيلة . يحب حياة ناعمة لا خشونة فيها فكيف به وهو يصطدم بصخرة الواقع القاسية التي أرتطم بها ؟ فارتد هاربا فاشلا . وقع الحمل الثقيل على وحيد وينبغي أن يحمله وألا فالخسارة المحتمة تنتظره . مارس الأعمال
التجارية فلم يفلح لعدم ممارسته لها في حياة أبيه . فلم يقو ظهره على ذلك الحمل . وقد جاء من غير بابه . فاختلط عليه الحابل بالنابل فضل وسقط .
مرت الأيام والشهور ، وعادت حليمة الى عادتها القديمة، فواصل صحبته لأقران السوء . يلهو ويلعب بلا رقيب . ينفق الأموال ولا يدري ما يخفي له القدر الخبيث الذي يتحين الفرص لأيقاع الناس في حباله الشائكة . لقد أعطى نفسه كل ما اشتهت مما جعلها تتوق الى كل باطل . والدهر بالمرصاد . فقد عضه بجنون . فخسر تجارته نتيجة الأنفاق العشوائي لأمواله .فنفذت تلك الأموال والذي يخسر ماله يخسر كثيرا اضطر الى بيع كل ما ورث عن أبيه . وأخيرا ألتجأ الى بيع الدار الفخمة . وهو مستمر في غيه . وبسط يده كل البسط فقعد ملوما محسورا . اختفت ثروة أبيه باسراف خلفه السفيه – وحقا ( أن الثمرة الناضجة أن لم تجد من يقتطفها تنخر فيها الدودة التي تسقطها). بقي كيانا منطفئا .. ما لبث أن تحول الى رماد .. وهكذا دورة الزمن ( فما من أحد يملك شيئا على هذه الأرض الى أجل معلوم ) .
انتقلوا الى دار قديمة وضيعة وهم يكابدون ضيق العيش وضنك الحياة . عنفته أمه على تهوره ولكن ( قضي الأمر الذي به تستفتيان ) أين أصحاب (الوقت) يا وحيد ؟ قد تفنوا في هذه الظلمة الموحشة , وانتهت المصالح التي كانت تربطهم بك . واستمرت تؤنبه وتسأله : أين أصدقاؤك ؟ أليس الصديق الحق هو الذي يلازمك في شدتك وضيقك ؟ لقد تركوك في محنتك . وذهبوا الى غيرك لأكتساب المغانم في صحبتهم .. يسمع ويعض أصابع الندم . وأيقن أن من قل ماله لا خل يصاحبه :
ماتت أمه بعد مرض عضال . وانغمست أختاه في بئر الرذيلة كي يحصلا على المال من أجل العيش .. انتشرت رائحة القذارة الكريهة بين عموم الجيران .. وعرف الجميع كل ما حصل للعائلة واستغربوا من تصرفات الفتاتين .. فمن ضغط شديد وحرمان وجداني وكبت عنيف في الأيام السالفة الى استهتار شنيع مخجل نعم أن الضغط يولد الأنفجار : اصبح البيت سفينة تالفة لا ريب في ذلك وانقلبت حياة وحيد انقلابا مأساويا , فأضحى متسكعا في الطرقات لا يعود الى الدار الحقيرة الا منتصف الليل , ويرى ما يرى ولا ينبس بكلمة . لأنه السبب في ذلك . ونقش هذا كله على صفحة قلبه بمداد التقزز والرعب .. مداد من الذل والهوان . وانتهى كل شيء كما ينتهي الحلم الحلو , وانتهى في لحظة قصيرة كأن لم يدم سنين وسنين – وهكذا دولاب الدهر يدور – وجاءت الساعة الرهيبة التي يتساءل فيها الانسان في حسرة مريرة : أحقا كان هذا الجسم سليما ؟ أحقا كان هذا القلب حيا ؟ أحقا كانت الدنيا حلوة سعيدة لذيذة الطعم ؟ أحقا ذهب هذا كله الى غير رجعة ؟
ساءت صحته فأصيب بمرض التدرن وهزل جسمه وضعفت قواه .. ولازم الفراش . وأي فراش هذا ؟ لا مال لديه ليعالج المرض . قاوم جسمه المرض بضعة أسابيع قضاها في وحشة وقنوط وندم وحسرة على ما فعل – ولات ساعة مندم – حتى عرف أن مرضه خطير .. وأن الموت آت لا ريب فيه وأختيه في عملهما لا يكدر صفوهما أحد . جرفهما التيار وجرحتهما الصخور فلم تريا من خير في أن تأويا الى الشاطئ عاريتين مثخنتين بالجراح وبلا نصير أو رحيم .
ظل راقدا على فراشه مسلما جسمه النحيل الى قبضة المرض الجبار وقد تمردت أعضاؤه جميعا على ارادته وبات عاجزا من تحريكها ألا عينيه يقلبهما ذاهلا من سقف الغرفة ذي العمد الخشبية العتيقة . أن تلك الحياة العامرة بألوان اللذات والسرور والأفراح قد اختتمت بهذا الرقاد الأليم . وأن النور والغبطة ورفقاء المصالح قد تلاشى كله . لم يكن يتوقع لذلك الجسد المحطم أكثر من أيام معدودات وقد بخل عليه الموت حتى بهذه الأيام . فلم يتركه ألا دقائق وساعات . فصاح لأختيه : وداعا وداعا .. الرحمة والغفران لكما والعقاب الصارم لي .. ولا رحمة لمثلي .. أنه عقاب السماء للمهملين والخاطئين السائرين في أزقة ملتوية مظلمة .بعيدين عن الطرق السليمة المنيرة .. تبا لروحي المجرمة .
هذا آخر ما نطق به .. ولفظ أنفاسه في ذلك البيت القديم في محلة ( الزمن ) والتي شاهدت مولده ومجده ومماته .
احتشد الجيران بدافع الإنسانية والتقاليد الاجتماعية فنقلوه الى مأواه الأخير .. الى صقر وبئس المصير .
محمد ياسين الهاشمي- العمارة
/5/2012 Issue 4214 – Date 31 Azzaman International Newspape
جريدة الزمان الدولية العدد 4214 التاريخ 31»5»2012
AZPPPL

مشاركة